مجلة الرسالة/العدد 281/فن القراءة

مجلة الرسالة/العدد 281/فن القراءة

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 11 - 1938



للأديب نصري عطا الله سوس

القراءة فن له قواعد وأصول. ومهما جد القارئ واجتهد فلن يحصل على ثمرة مجهوده إلا إذ اتبع تلك القواعد والأصول اتباعاً دقيقاً. وكلامنا هذا لا ينصب على كل ما يقرأ، بل على الأدب وحده باعتباره أثمن وأرفع أنواع القراءة؛ ولا على كل من يقرأ، بل على من يعتبر الكتاب صديقاً ومرشداً ومعلماً، ومن تضطرم في قلبه جذوة الشوق إلى المعرفة وفهم الحياة والتمتع بها إلى أقصى حد ممكن واكتناه أسرارها

ينبع الأدب من قدس أقداس النفس، يضمنه الأديب زبدة حياته، وصفوة اختباراته، وما يضطرم في قلبه من آلام وآمال وما يصطرع في ذهنه من آراء عن حقيقة الحياة والموت والقدر واللذة والألم والطبيعة والخالق وغيرها من مشكلات الحياة التي لن تحل أبداً. والأديب هو ذلك الشخص الدقيق الإحساس الرقيق الشعور الذي يتأثر بكل عوامل الحياة أتم التأثير وأقواه، والذي منحته الطبيعة القدرة على التعبير عن آرائه واحساساته التي دفعت به إلى الكتابة. والكتاب الجيد من أثمن النعم التي تتيحها الحياة لمن حبته الذوق الفهم، لأنه خلاصة حياة عظيمة غنية واسعة الأفاق بعيدة الغور؛ وهو ينبوع عذب، فيه ري وفيه حياة لأثمن وأرفع ناحية من نواحي الطبيعة الإنسانية. فالكتاب الجيد يعمق ويهذب شعورنا ويوسع آفاق نفوسنا ويقوي قدرتنا على التفكير ويفتح أعيننا على أنواع من الجمال لم نكن نعرفها أو نحس بها. والإنسان مفهوم بحب الحياة، ودّ لو عاش أعماراً مضاعفة وتذوق كل ما تفيض به الحياة من لذات وآلام، ولكن العمر شحيح. ومن جهة أخرى فالحياة بخيلة لا تتيح أو تسمح لكل إنسان أن يقلب أبصاره بين آفاقها ويخوض بحارها باحثاً عن دررها. لم تتح الطبيعة هذا إلا لأشخاص معدودين جعلت كل واحد منهم أشبه بقيثارة تستنطقها كل أنغامها، وهم الأدباء والشعراء. وبقراءة ما خلف هؤلاء نشبع حب الحياة في نفوسنا. فالكتب تضيف أعماراً إلى أعمارنا، وهي سياحة في المكان والزمان. فالقارئ الجالس على كرسيه في غرفة ضيقة يطوف بذهنه في فجاج الأرض كلها، بل يرقى إلى السماء ويتملى أنوارها، ويرتد إلى الماضي السحيق يحدق في كهوفه وظلماته، ويتقدم إلى المستقبل البعيد يتملى بهاءه وجلاله. فإذا كان الأدب على هذه القيم والأهمية فكيف نقرأه؟

1 - أول شروط القراءة هو حسن اختيار الكتاب، فالعمر لا يتسع لقراءة كل ما كتب في لغة واحدة - ناهيك بأدب أمتين أو ثلاث - ولا كل ما كتب يستحق القراءة. والملاحظ أن الأدباء - وهم أحسن من يجيدون القراءة - لا يعيرون أهمية كبيرة لما يكتب في عصرهم، بل يوجهون كل اهتمامهم إلى الكتب التي أثبت الزمن قوتها وحيويتها وقدرتها على البقاء. والزمن وحده هو الذي يحكم للكتاب أو عليه؛ والزمن وحده هو الذي حفظ لنا هوميروس وأفلاطون وشكسبير وإضرابهم، لأن أدبهم يشتمل على عناصر الحياة الجوهرية التي لا حياة بدونها. وكم من أديب عاش ومات في غمرة النسيان! وكم من أديب تألق ثم خبا! وكم من أديب يعيش على فضول الكتاب والقراء. علينا أن نهمل كل هؤلاء وأمثالهم وأن ننتخب ما نقرأ من بين أحسن ما كتب. هذا إذا أردنا أن نحيا حياة ذات قيمة.

2 - العامل الثاني هو إجادة القراءة. فهناك قراء يوجهون كل همهم إلى الإحاطة وينسون الإجادة والعنصران قلما يجتمعان إلا في القليل النادر. وقراءة كتاب واحد قراءة تفهم وإمعان أجدى من قراءة عشرة كتب قراءة سطحية. إن الكتاب - كما قلنا - هو زبدة حياة المؤلف، والقارئ النابه لا يتجه إلى مجرد القراءة العابرة، بل إلى تكوين صلات وعلاقات مع المؤلف. فلنجعل نصب أعيننا صداقة المؤلف يجب أن نفهم الكاتب كما نفهم صديقاً: نحيط بظروف حياته: آماله وآلامه، أحلامه وهمومه، فكهاً أو وقوراً، متفائلاً أو متشائماً، وهكذا. . . والخلاصة أنه يجب أن نفتح قلوبنا ليصب الكاتب فيها دمه ونترك ذلك الدم يجري حاراً في عروقنا

3 - العامل الثالث هو نظام القراءة، فكثير من القراء يتبعون في مطالعاتهم سبيلاً ملتوية: كتاب من الشرق وآخر من الغرب؛ كتاب حديث وآخر قديم؛ وهكذا دون ضابط ولا نظام. وهذا المسلك قلما يثمر بل الواجب أن نختار كاتباً معيناً ونقرأ كل ما كتب، لأن كتب الكاتب ما هي إلا جوانب متعددة لشخصية واحدة، ولا حق لنا أن نتحدث عن كاتب أو نصدر عنه حكماً إلا إذا درسنا أدبه دراسة وافية كاملة. ويجب أن نتبع في هذه الدراسة نظاماً خاصاً، فيجب أن ندرس كتبه حسب ترتيب كتابتها، فلا نتناول إنتاجه في أوان شيخوخته، ثم في أوان شبابه الأول، ثم في أوان نضجه، بل يجب أن نبدأه بقراءة باكورة إنتاجه، ثم ما تبعه، ثم ثالث كتاب أخرجه، وهكذا. . . وبهذا فقط يتاح لنا أن نعرف تأثير الحياة والتجارب في تطور شخصية الكاتب: كيف شق لنفسه طريقاً إلى فلسفته؟ وكيف خلص إلى آرائه عن مشكلات الكون؟ هل ابتلته الحياة بالفتور واليأس؟ هل شك في عدالة الكون وعاف الحياة؟ أم هل انجلت عن ناظريه عمايات الصبا وغواياته ودعا إلى الحياة الفاضلة مؤمناً بالله مبرراً سلوكه مع الإنسان؟ هل بقي ساخراً لا يعرف لنفسه فلسفة ولا يخلص إلى عقيدة حتى ذهب في طريق من ذهب؟ وما أثر ظروف حياته من فقر وغنى وصحة ومرض في نفسه؟ هل تغلب عليها واحتفظ بنضارة قلبه وسلامة روحه؟ أم تركها تتسرب إلى أدبه وتكسبه لونها الخاص؟ هل تأثر بروح عصره وجارى سلفه ومعاصريه أم أثر هو في روح العصر ووجه الأدب في طرق جديدة وتناول بالنقد والتفنيد ما استهجنه ودعا إلى مثل جديدة؟ وما أسباب كل هذه المسائل ودواعيها. . .؟ هذه كلها موضوعات يهتم بها القارئ الحصيف، ولكن لا يمكنه أن يكون رأياً عادلاً عنها إلا إذا قرأ بنظام. بهذا فقط يتأتى لنا دراسة الحياة نفسها دراسة شاملة تفهمنا روحها وطبيعتها وفلسفتها. إن التفكير المجرد قلما يخلص بالمرء إلى نتائج سليمة، وعلماء النفس في الوقت الحاضر يدرسون مخلفات الأدباء بهذه الطريقة التي أسلفنا ويكونون نظرياتهم على هدى تلك الكتب، ذلك لأنها تنبع من صميم الحياة الواقعية، والحياة أعمق وأشمل من أن يحكم المرء عليها وليس وراءه إلا تجاربه؛ والفلسفة قلما تسعف الإنسان بعقيدة تغير حياته وتجملها، بل هي غالباً تبتليه بضروب الشك في قيمة الحياة والحيرة في معناها. ولكن الأدب وحده ينبع من أعماق الحياة ويصور ما نعانيه ونحسه من آلام وآمال، وهو الصورة الحقيقة الصادقة للحياة كما هي. بعكس الفلسفة فهي سياحات (فكرية) في عالم المجهول، وما من مذهب فلسفي إلا ومذهب آخر يناقضه، وكل له دعائمه وبراهينه؛ فلا عجب إذاً أن يترك علماء النفس كتب الفلسفة إلى الأدب يهتدون بهديه في تكوين نظرياتهم

4 - العامل الرابع هو المقارنة: كيف يمكننا بعد ذلك أن نقدر الأديب تقديراً صادقاً ونصدر حكمنا له أو عليه؟ لا يمكننا أن نفعل ذلك إلا إذا درسنا معاصريه وتبيننا أين يتفق معهم وأين يختلف عنهم، لأن ظروف الحياة التي أثرت فيهم واحدة لأنهم أبناء عصر واحد، ولكنها أثرت فيهم تأثيراً مختلفاً، وسبب هذا الاختلاف هو تباين طبائعهم ومشاربهم، وبالمقارنة والموازنة بين المعاصرين يتسنى لنا أن نميز الأديب الكبير من غيره. فدراسة معاصري شكسبير مثل بن جونسون ومارلو وبومنت وفلنشر، توضح لنا عظمته وجلاله. وإذا درسنا بوروبيدس وسوفوكلس ألقى كل منهما نوراً ساطعاً على شخصية الآخر. وكذلك إذا درسنا شارلس دكنز مع وليم ثاكري، وتنسون مع بروننج، والأخطل وجرير والفرزدق، وبشار وأبو نواس، وأبو تمام والبحتري، وهكذا. . .

5 - بقي أن نشير إلى عنصر هام من أهم العناصر التي تمكن القارئ من الاستفادة التامة مما يقرأ وهو الصبر والتجاوب مع الكاتب. وكم من قارئ يترك الكتاب بعد قراءة صفحة أو اثنتين لأن الكاتب يختلف عنه ميولاً ومشرباً، وليس أخطر على القارئ من اقتصاره على قراءة ما يتفق ونظرته إلى الحياة. ومن ملاحظات الكاتب الألماني أميل لدفيج أن القراء في العصر الحاضر يطالعون الكثير من القصص لا لغاية إلا تبرير آثامهم وزلاتهم بحجة أن أبطال القصة سلكوا نفس المسلك، وهذا جبن وخور. والواقع أن الكتاب الذي يهاجم أفكارنا وعقائدنا يفيدنا أكثر من غيره. والمعركة بين الكتاب والقارئ ليست بأقل متعة أو جدوى من معركة شريفة بين شخصين إذ يجتهد كل في تبرير رأيه بإظهار براهينه وأدلته ويحاول إفحام خصمه بتفنيد مستنداته، وفي ذلك ما فيه من إذكاء الفكر وشحذ الذهن ومعاودة النظر في الآراء والأفكار والمعتقدات وتبديلها أو تعديلها على هدى نتيجة المعركة. فلم لا نسلك المسلك نفسه مع الكتب؟ ولعل هذا يجدي مع الكتب أكثر مما يجدي مع الأشخاص، لأن النفس الإنسانية مزيج من الخير والشر، وقد يعمد الإنسان إلى هزيمة خصمه بأي ثمن - حتى التضحية بالحق - مدفوعاُ بالأثرة وحب النصر والفخر، ولكنه لا يسلك هذا السبيل مع الكتب خصوصاً إذا كان أصحابها قد ماتوا من زمن

يقول الفيلسوف الإنكليزي (باكون):

(لا تقرأ كي تناقض أو تفند، ولا كي تؤمن وتسلم جزافاً، ولا كي تجد موضوعاً للحديث والمناقشة، بل كي تتبصر وتتأمل)

والتأمل ضرب من الصلاة. . . والصلاة جنة الروح!

نصري عطا الله سوس