مجلة الرسالة/العدد 282/ليلى المريضة في الزمالك

مجلة الرسالة/العدد 282/ليلى المريضة في الزمالك

مجلة الرسالة - العدد 282 المؤلف زكي مبارك
ليلى المريضة في الزمالك
ملاحظات: بتاريخ: 28 - 11 - 1938


للدكتور زكي مبارك

صديقي. . .

سألتني أن أكتب كلمة عن ليلى المريضة في الزمالك، فأثرت في صدري لوعة محرقة كنت أرجو أن تصير بفضل الكتمان والتناسي إلى الخمود

وماذا يهمني من أمر تلك الإنسانة الظلوم؟

إن الدنيا كلها سخفٌ في سخف، والحب كله بلاء في بلاء فلتمض تلك الذكريات إلى جحيم النسيان والجحود

وقد تعلمت في حياتي أشياء، وكان أثمن ما تعلمت هو اليأس من وفاء القلوب

وأقسم بالله وبالحب ما خططت هذه العبارة إلا وأنا أقاوم طغيان المدامع، فمن الحسرة واللوعة أن أنْفُضَ يدي من العواطف بعد أن جعلت الكتابة في العواطف مذهباً أدبياً أنصار وأشياع في سائر الأقطار العربية

ولكن خيبتي في الحب لها أسباب

وآه ثم آه، من الاعتراف بالخيبة!

ليت ضلالي في هواي كان دام حتى أخرج من دنياي وأنا موصول العطف على الملاح!

فان سألتَ عن أسباب القطيعة بيني وبين ليلى المريضة في الزمالك فإني أحدثك بأن تلك الأسباب ترجع في جملتها إلى سبب واحد هو العظمة الحقيقية التي فطر الله عليها قلبي

ومعاذ الأدب أن أكون من المفتونين أو المخدوعين، فلي قلب ما عرف الناس مثل جوهره النفيس في قديم أو حديث

هو قلب فطر على الحب والعطف والوفاء

وقد شاء هذا القلب أن يبسط حنانه على ليلى المريضة في الزمالك.

فماذا صنعت تلك الحمقاء؟

لا تسأل كيف كنا إلى خريف سنة 1937

كنا عاشقين

وما أسعد العشاق! كنا نعرف أطايب الخلوات على شواطئ النيل

وما أسعد من يستصبحون بظلام الليل على شواطئ النيل!

كان قلب ليلى أصغر من قلبي

ولكنها مع ذلك كانت تملأ قلبي، وهو قلبٌ يرضى بالقليل في بعض الأحيان

وكنت أتلقى القليل من عطف ليلى بالحمد والثناء

والذوق كل الذوق أن تفرح بالقليل من الملاح

كانت ليلى تَعِد وتخلف وكنت أرى إخلافها من الدلال

وكنت أروضها بنفسي على الإخلاف، لأني كنت أحب أن أخلق منها دُمْيَةً روحانيةً أعاقر في محياها كؤوس النبل والصفاء

وكان ما أردت وأراد الحب العذريُّ حيناً من الزمان

أردنا مرة أن نؤلف رواية. . .

فهل ألفنا الرواية؟

ليتنا ألفنا الرواية!

آه من ليلى ومن زماني!

ودامت دنيانا في قَبض وبَسط وبُؤس ونعيم، إلى مساء اليوم الثامن عشر من الشهر التاسع سنة 1937

ففي ذلك المساء تفضلتْ ليلى فدعتني إلى تناول العشاء لتمنحني القبلة الموعودة قبل رحيلي إلى العراق

وكانت لحظة من الحياة لن أنساها ما حييت، وإن كدَّرتها ليلى بعد ذلك

أحبك يا ليلى، أحبك لتلك اللحظة التي بلبت نجوم المساء

أحبك يا ليلى وأن صيَّرتِ حياتي بؤساً في بؤس، وشقاءً في شقاء

أحبك يا صغيرة القلب، ويا ضعيفة العقل، ويا قليلة الوفاء

أحبك يا مثال النزق والطيش والجنون

أحبك لتلك اللحظة القصيرة التي بددت أضواؤها ظُلمات قلبي

وفي اليوم التالي رحلتُ إلى بغداد وأطياف الزمالك تؤنس روحي ثم سمعتْ ليلاي في الزمالك أني تعرفت إلى ليلى المريضة في العراق

فماذا صنعت الحمقاء؟

أرادت أن تنتقم مني ففتحت أبواب قصرها للواغلين من أدعياء الأدب والبيان

ولم تكتف بذلك، بل أعلنت غضبها عليّ في رسائل نشرتها في مجلة الصباح

وأسرفت الشقية في الحمق فنشرت في مجلة المصور أخبار سهرة تناول فيها السامرون عندها أكواب الصهباء

وكانت الشقية تعلم أن ذلك سهمٌ سيصيب صدر حبيبها في العراق

ولكني تجلدت وتماست، وكتبت إليها أعتب في رفق ولطف فأجابت الحمقاء:

(هل كنت تنتظر أن أضع يدي على خدي إلى أن ترجع من بغداد؟)

خبر أسود!

خبر أسود!

خبر أسود!

كذلك هتفتُ كما يهتف الفلاح المصري حين ينزعج، وعبارات الفلاحين تسبق إلى لساني حين يثور غضبي

إن ليلى المريضة بالزمالك لا تريد أن تضع يدها على خدها حتى أرجع من بغداد، وهي تعرف أني هاجرت إلى العراق لغرض نبيل هو توثيق علائق المودة بين مصر والعراق

وهل تفهم المرأة هذه المعاني؟

آمنتُ بالله، وكفرتُ بالحب!

أما بعد فقد انتهى ما بيني وبين ليلى المريضة في الزمالك، وقد حرمتُ على نفسي رؤية الزمالك إلى أن أموت، فحدثوني يا رفاقي عن أضواء الزمالك وأيام الزمالك وليالي الزمالك، حدثوني كيف يغني الكروان في الزمالك. حدثوني كيف تكون أشجار الزمالك في الليل. حدثوني كيف يثب النيل ليقبل أقدام الزمالك، حدثوني كيف تصبر عني ليلاي في الزمالك. حدثوني كيف تغيب الشمس عن الزمالك. وكيف يطلع القمر على الزمالك. وكيف تثور عواصف الحب والبغض في الزمالك

حدثوني، حدثوني، حدثوني انتهى حُلم الحب، وانتهت أيام الزمالك، وانقضت ليالي الزمالك

تلك الزمالك لم تكن إلا قطعة من وطني، ولو شئتُ لقلت إنها قطعة من كبدي

في الزمالك تعلمت طب الأرواح والقلوب

وبالزمالك شقيّ روحي ومرض قلبي

فأين السبيل إلى الرجاء؟ بل أين السبيل إلى اليأس؟

أحبك يا غادة الزمالك، أحبك يا غادرة، وأعشق ضلالي في هواك النبيل وهواك الأثيم

ليلاي، ليلاي

ما زال روحي الظامئ يحوم على وَرْدك النمير، فارحمي الطائر الذي يرفرف حول حماك في السَّحر والضحى والأصيل، ويخفق بقلبه وجناحيه كلما لذَعه الشوق إلى صهباء الرضاب

أنا مشتاق إلى الكوثر الممنوع الذي كانت قطراته تُسكر روحي وتعقر فؤادي

أنا مشتاقٌ إلى النار التي كوتْ كبدي، فمتى أواجه تلك النار العَصُوف؟

سأقبَّل قدميك حين أراك يا شقية، ولكن متى أراك؟ متى أراك؟

أفي الحق أننا تخاصمنا إلى آخر الزمان؟

أفي الحق أن عربدة الهوى لن تعود؟

لقد شمت فينا الشامتون، فمتى يندحر الشامتون؟

إنني واثق بطهارة قلبك يا شقية، ولولا ذلك لأصليتك نار العقوق.

فحدثيني متى ترجعين إليّ؟ متى ترجعين؟ متى ترجعين؟

ليلى، ليلاي التي خرجت من حماها كما خرج آدم من الفردوس، ليلاي أجيبي

مضت أعوام وأنا أتلقى منك تحية رمضان، فأين تحية رمضان؟

إن الناس يذكرون موتاهم في هذه الأيام يا معبودتي، وأنا قتيل الهوى، فمن يذكرني إذا اصدفت عني؟

لا تؤاخذيني بما جنيت في حب ليلى المريضة في العراق، فما كانت ليلاي هناك إلا صورة من صور الطهر والنبل والعفاف

أحب ليلاي في العراق، وإن تأذيت بذلك فاصنعي ما تشائين أيتها الحمقاء في الزمالك

لا أحب أن أراك إلا يوم تعرفين أني صاحب الفضل على الجميع الملاح، فلولا قلمي ولولا بياني لصارت الصبابة ألعوبة من الألاعيب

أنا أنتظر الجزاء الحق على وفائي وإخلاصي

أنتظر أن تكون دنيا الصباحة والملاحة طوع يدي

فان لم تفعلي - وستفعلين - فودعي دنيا الرفق والحنان

ليلى، ليلاي

إلى صدري يا عروس الزمالك

إلى صدري يا جارة النيل

إلى صدري العاشق الوفي الأمين

زكي مبارك