مجلة الرسالة/العدد 282/من دموع القلب!
مجلة الرسالة/العدد 282/من دموع القلب!
(مهداة إلى الأستاذ أنور العطار)
للأستاذ علي الطنطاوي
(هل تذكر يا أنور، يوم جزنا بمقربة الدحداح ونحن طفلان يتيمان في طريقنا إلى المنزلين الصغيرين المتجاورين في (السمانة) فوقفنا ساعة على القبرين المتدانيين نزور أبوينا. . . ثم ذهبنا مسرعين لنودع آلامنا صدر الأم؟
أتذكر ما قلت لي يومئذ عن حبك أمك وتعلقك بها، وما قلت لك؟ أتذكر أننا اتفقنا على أن الحياة مستحيلة علينا بعد الأمهات وأننا سنبقى معهن أبداً وشملنا جميع وعقدنا متصل؟
لقد كان ما ظنناه مستحيلاً يا أنور. . لقد ماتت أمي وأمك واحتواهما ذلك القبر الذي حوى أبوينا من قبل وعشنا بعدهما. . . لم نعد نملك منهما يا أنور إلا دموعاُ حرى في العين وحسرات لاذعات في القلب. . . لقد غابتا إلى الأبد!)
(علي)
لست أدري ما الذي يحملني على ذكر الماضي ونبش عظامه النخرة؟ وما الذي يغريني بأن أتلمس مكان أحلامي من الواقع. . . وأنا أعلم أن الماضي قد ذهب بمسراته وأحزانه ولم يبق في يدي منه إلا هذه الذكريات التي طالما حاولت أن ألقي بها في الزاوية المظلمة من نفسي لتنام فيها إلى الأبد، فكانت تستفيق كلما أردت نسيانها فتسود صفحة الحياة في ناظري حتى لا أرى فيها جميلاً ولا بهيَّاً. . . وأنا أعلم أن أحلامي التي بنيتها بقطع قلبي، وأنقاض أيامي، ورويت رياضها بدمع عيني، قد جف زهرها، وصوح نبتها، وانهارت أمام عيني دفعة واحدة، كما ينهار بيت من ورق اللعب ضربته كف إنسان. . . فأيست منها وذهبت أعيش بقلب محطوم وكبد مكاومة، فأضحك وأمزح حتى ليظنني الناس أسعد الناس وأنا أشقاهم وأخيبهم أملاً، وأشدهم ألماً. . .
فلماذا أعود الليلة إلى الماضي التي ماتت أيامه، وماتت أحلامه ومات ناسه؟
كنت أطل من شرفتي في الفندق على شارع الرشيد في بغداد الذي يمثل الحياة ويفسرها ويصور حقيقتها أكثر من تصوير الأدباء وتفسير الفلاسفة، بل إن ساعة واحدة تشرف فيها على شارع الرشيد أجدى عليك في فهم الحياة من دراسة عشر سنين في هذه الكتب. . .
وماذا في الكتب إلا الحيرة والضلال؟ ومنذا الذي تبلغ به الحماقة وتفيض على نفسه حتى يدعى أنه فهم الحياة من الكتب؟ أنا أحد صرعى هذه الكتب وضحاياها فسلوني عن خيبتي وخساري؟
قالت الكتب: إن المستقيم أقصر الخطوط فأسلكه تصل، واستقم تبلغ غايتك، فسرت قدماً فاصطدمت بأول جدار لقيته فشج رأسي وقعدت مكاني، واستدار غيري والتوى كما تستدير طرق الحياة وتلتوي فوصل
قالت الكتب: كن فاضلاً واحرص على مكارم الأخلاق فهي السبيل، فوجدت أهل الرذيلة هم الذين يصلون، ورأيت أسفل الناس أخلاقاً صار أستاذاً للأخلاق في أكبر مدرسة، فعجبت من سخر الحياة!
وقالت الكتب: الحق، وقالت الحياة: القوة. . . وقالت الكتب: الفضائل. وقالت الحياة: الشهوات. وقالت الكتب. . . ولكن لم يكن إلا ما قالت الحياة!
ونظرت إلى شارع الرشيد، فإذا السيارات من كل جنس ولون، والعربات من كل شكل ونوع، والدراجات والعجلات، كلها يعدو يريد أن يصل أولاً، وكلها يزاحم، وكلها يزأر ويصيح ويهدد، ولكنها إذا بلغت الغاية رأت أنها لم تصل إلى شيء فعادت أدراجها تزاحم وتعدو وتصيح. . .
فقلت: كذلك الحياة. . . سباق وتزاحم، ولن ما هي الغاية؟ لا شيء. . .!
ودخلت الغرفة وأغلقت عليَّ بابي، وأردت أن أفيء إلى عزلة أسكن فيها نفسي، وأجد فيها راحتي، ولكن الباب قرع، وجاء السيد حيدر الجوادي، الرجل الذي ملك على الدكتور زكي مبارك أمره، وأطربه وأعجبه حتى غدا لا يصبر عن سماعه حيثما رآه، وحتى اضطره إلى الغناء في المكتبة العامة، وقال له: غنّ هاهنا فوالله لتحدثن بها الناس وليقولن إن زكي مبارك ابتدع الغناء في المكتبات. . . جاءني فغناني (أبوذية) من (أبوذيات العراق) التي ما أظن أن إنسياً أو جنياً عرف نغمة أشجى منها وأسرع إلى القلب وصولاً، وأشد للألم تصويراً. هي قطرات من الدمع صورت نغماً. هي خفقات القلب صيغت نشيداً. هي. . . هي خلاصة الفن العبقري الذي يصور الألم العبقري. . . فهز نفسي هزاً عنيفاً، فتح صفحاتها جميعاً ووصل ماضيها بحاضرها، وأسلمها إلى ذهلة عميقة - لذة ممتعة - ولكنها أليمة موجعة، ذكرت (العتابا) تلك الأغنية التي ترن بها أبداً أودية لبنان، وتنحدر أصداؤها على سفوحه وحدوره، ولا يدري أحد من هو الذي وضعها ونظم مطلعها وألف لحنها، (العتابا) الخالدة التي يشترك في تأليفها العصر الجديد والعصر الغابر، ويزيد فيها كل جيل أدواراً فيكون منها الصورة الصادقة لعواطف الشعب وهواجسه وأمانيه وذكرياته، تلك التي تعيش في ترنيمة السواقي المتكسرة على الشعاف والصخور لتبلغ قرارة الوادي، وفي نشيد الرياح في الأودية البعيدة، وفي همس الأوراق في غابات الصنوبر الضاحكة، وفي عطر كل زهرة، وصمت كل صخرة، وأشعة الشمس المطلة من وراء الذرى للسلام، والمشرفة من آخر الأفق للوداع، وفي نور القمر الذي يغمر لبنان بفيض من الشعر والحب والسحر، وتعيش في كل ذروة من لبنان!
رجعتني هذه (الأبوذية) إلى سالفات أيامي، فذهبت أعرض صور حياتي فيها وهي تمر بي متتالية متعاقبة كمناظر السينما ملتفة بضباب الماضي، فأرى مآسيها المغسولة بالدموع وفواجعها الدامية ولكني لا أرى منظر بهجة ولا سرور. . . فهل أرى البهجة والسرور بعد أن أشرفت على الثلاثين؟
كنت أفكر دائباً في المستقبل، وأنتظر المستقبل، فها هو ذا المستقبل قد صار حاضراً، فهل وجدت فيه إلا الخيبة والألم؟
لقد جربت الصناعات والفنون وطوفت في البلدان، فما أفدت من ذلك كله إلا أني تركت في كل بلد قبراً لأمل من آمالي. لقد أضعت الحب والمال، وأضعت المجد الأدبي، حتى هذه الألحان التي تدور في نفسي ضاعت مني. . . فلم أستطع أن أسمعها الناس أغاني وأصواتاً، ما سمع الناس إلا أقصر أغاني وأقبحها، وتلك هي مقالاتي التي نشرتها، فمتى يسمعون أجمل ألحاني وأطولها؟
في المستقبل!
يا ويح نفسي! هل بقي لي مستقبل إلا الموت الذي غدوت أحبه وأناديه لو كان يسمع النداء؟
لقد وجدت المستقبل عدماً فهل عليَّ من لوم إذا عدت إلى ماضي أعيش فيه؟
في هذا الماضي دفنت أمي، وفيه دفنت أبي، وفيه دفنت أحلامي. . . لقد أحببت كثيراً وتألمت أكثر مما أحببت، ولكن الحب الحقيقي الواحد الذي انطوى عليه قلبي، والألم الفرد الصادق الذي عرفه، هو حبي أمي، وألمي لموتها، وكل ما عداهما حب كاذب، وألم عارض
إني لأنسى البلاد كلها حتى منازل حبي، وربوع هواي، ولكني لا أنسى أبداً ذلك الزقاق الضيق الذي يمتد من العقيبة في دمشق إلى رحبة الدحداح، لأن سعادتي ولدت في أول هذا الزقاق، وماتت في أخره حين مات أبي وأمي. . .
فيا رب ارحمني بالنسيان، وأين مني النسيان؟
إني لأنظر إليها الآن وهي مريضة على فراشها، كأنما كان ذلك منذ ساعة، فيبكي قلبي ولا أستطيع أن أكتب عنها حرفاً. لا أحب أن أنشر أحزاني حتى لا تلوكها ألسنة الناس، فليبق الألم في صدري أحمله وحدي. . . أنا لا أصدق أن هذه السنين السبع قد مرت على ذلك الحادث. . . أأنا أعيش سبع سنين لا أرى فيها أمي، وقد كنت آلم إن غبت عنها يوماً؟ أأعيش وهي نازحة لا تعود بعد عام ولا عشرة، لا تعود قبل يوم القيامة؟
اللهم صبراً فإني والله ما أطيق الصبر!
يقولون إن المصيبة تبدأ صغيرة ثم تكبر، ولكن مصيبتي بأمي تنمو في نفسي كل يوم!
لم أعد أجد في الحياة ما يغريني بها، ويرغبني فيها؟ وماذا في الحياة؟ كل لذة فيها مغشاة بألم، فيها الربيع الجميل، ولكن فيه بذور الصيف المحرق، والشتاء القاسي. وفيها الحب، ولكن لذة الوصال مشوبة بمخافة الهجر. وفيها الصحة والشباب، ولكنهما يحملان الهرم والمرض. فيها الغنى، ولكني ما عرفته وما احسبني سأعرفه أبداً.
لقد كرهت الحياة، وزادها كراهة إلي هؤلاء الناس، فلم يفهمني أحد ولم افهم أحداً. إن حزنت فأعرضت عنهم مشتغلاً بأحزاني قالوا، متكبر، وإن غضبت للحق فنازعت فيه قالوا، شرس، وإن وصفت الحب الذي أشعر به كما يشعرون قالوا، فاسق، وإن قلت كلمة الدين قالوا، جامد، وإن نطقت بمنطق العقل قالوا، زنديق، فما العمل؟ إليك يا رب المشتكي فما لي في الدنيا بعد أمي صديق!
تلك هي التي كانت تقبلني على علاتي، والناس لا يقبلون إلا محاسني. تلك التي كانت تحبني أنا، والناس يحبون أنفسهم فيّ. تلك هي الحبيبة الوفية التي لا تهجر ولا تخون، تلك هي دنياي، فو أسفي، إن دنياي قد احتواها التراب!
لم يبق من آثار هذا العالم الحافل بالإخلاص والحب إلا قبر منعزل وساقية صغيرة، تميل عليها شجرة صفصاف، وهذا كل شيء. . .
إني لأقدس ذكرى هذه الشجرة، وأخشع لها. إن حركات غصونها لتحرك في نفسي عالماً كاملاً، ولكنها لا تبالي ذكرياتي ولا تحفلها. إنه قائمة تحنو على اللص الفاتك، كما تحنو على المحب الثاكل، وتؤوي المجرم الهارب، كما تؤوي الشاعر المتغزل، فما أضيع ذكريات المحبين عند الطبيعة، وما أضيعها عند الناس!
لقد انصرف عني السيد حيدر الجوادي، ونام عني أصحابي، وتركوني أتجرع غصص آلامي وحيداً، فمن هو الذي يعطف علي، ويشاركني حمل الآلام؟ لقد أيست من الطبيعة ومن الأصحاب، فهل تسعدني أنت يا أيها المحسن المجهول الذي لا أعرفه أبداً؟ أنت يا من يجوز مع الشمس بمقبرة الدحداح يزور حبيباً له طواه الرمس، هل تمن على غريب متألم فتحيى عنه هذه البقعة وتعطف على ذكريات له فيها، هي أعز عليه من الحياة، لأنها كانت جمال الحياة؟ هل تترفق في سيرك وتتئد وتعلم أن في هذه الرمال التي تطؤها أطلال قلب كان من قبل عامراً سليماً. . . ترفق فانك لو ملكت حاسة تدرك بها الذكريات لرأيت في هذه البقعة ما بين رمالها وترابها، بقايا قلب محطوم، بقايا دامية حزينة شاكية، ولسمعت نشيجها
ما تصدع هذا القلب من هجر الحبيب، ولا هدته أحداث الغرام، ولكن عصفت به عاصفة من موت الأم فهدت أركانه، فأسكب على بقاياه قطرة من الدمع تحيها بها ساعة، أو قل كلمة تسعد بها روحه الحزينة، ثم توجه إلى القبر المحبوب، إلى قبر أمي وأبي أيها الصديق المجهول، فاسأل الله لساكنيه الرحمة والغفران، فما بقي لي بعدهم أحباء، ولا بعده دنيا. . .
لقد تركت تحت أقدامك قلبي وحبي يا أيها المحسن المجهول، فارفق بهما. اسعد هذا اليتيم الضعيف، وإن كان الناس يدعونه شيخاً، وإن كان في الثلاثين من عمره!
رب، رحمة لهذا اليتيم الضعيف، ابن الثلاثين!
(رب أغفر لي ولوالدي؛ رب أرحمهما كما ربياني صغيرا) (بغداد - المدرسة الغربية)
علي الطنطاوي