مجلة الرسالة/العدد 283/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 283/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 12 - 1938



عبقرية الشريف الرضي

تأليف الدكتور زكي مبارك

بقلم الأديب حسن حبشي

الدكتور مبارك من أكثر أدبائنا إنتاجا. لا يكاد يضع القلم من كتاب حتى يتهيأ لتأليف آخر. وهذه ناحية من النشاط محمودة. وإنه ليخيل لقارئ كتب الدكتور زكي أنه يضن بما يضطرم في نفسه من خواطر، وما يجول في ذهنه من أفكار وآراء ألاّ يسجلها في مؤلفات يطالعها الناس، ومن هنا كانت كثرة ما كتب، وقد اعترف هو نفسه بذلك في مؤلفه هذا (ج2 ص197) في الفصل الذي عقده عن حجازيات الشريف

وكتاب (عبقرية الشريف الرضي) والتصوف الإسلامي آخر مطبوعات الدكتور وليسا آخر مؤلفاته، وأحسب أن لن يكون ثم كتاب أخير له حتى لا يكون في الوجود زكي مبارك

والمترجم له من فطاحل شعراء العربية، وهو مغمور إن قيس بأنداده الذين ذهبوا بالذكر والشهرة، أما الرضيَّ فلم يظفر إلا ببضعه أسطر أو صفحات مبعثرة في ثنايا الكتب الأدبية، وببعض مقالات نشرت هنا وهناك، وذلك على الرغم من الدور العظيم الذي مثله على مسرح السياسة والأدب في عصره

تناول الدكتور زكي في هذا السفر صاحبه الرضي من نواح عدة، إلا في السياسة فقد مرَّ عليها سريعاً، كما ألم ببعض مواقف الشريف وحوادثه، غير أنه كان يعرض أحياناً للرواية دون بحث أو نقد، وقد يكون ظاهرا فيها الوضع. أوَ ما ترى ذلك فيما نقله عن صاحب التبيان (ج1 ص278) من أن المرتضى نظم ذات يوم أبياتا فوقف به بحر الشعر، فأشار على من يحملها إلى الرضي ليتمها فأتمها بقوله:

فردَّتْ جوابا والدموع بوادِرٌ ... وقد آن للشْمل المشتِّ ورودُ

فهيهات من ذكرى حبيب تعرَّضت ... لنا دون لقْياهُ مَهامِهُ بيدُ

قال أبو الحسن النحوي: (فأتيت بها المرتضي، فلما قرأها ضرب بعمامته الأرض وبكى وقال: يعزَّ عليَّ أخي يقتله الفهم بعد أسبوع) فما جاء الأسبوع إلا وجاء نعي الرضي. هذ ما نقله صاحب التبيان، وجاء به صاحب العبقرية، فانظر ماذا كان تعليقه ونقده عليها. قال: (. . . وهذه نادرة يستبعدها الناس، ولكنها طريفة، إذ تجعل موت الشريف بالشعر شبيها بحال من يخنقه أرج الأزهار فيموت) أما كاتب هذا المقال فلا يرى فيما نقله الدكتور عن صاحب التبيان إلا قصة ظاهراً فيها الوضع، وأية دلالة على موت الشريف قد اضطم عليها البيتان السابقان؟ ثم أين نقد الدكتور لهذا الوضع الظاهر؟ أشهد لقد غلب خيال الشاعر على موقف الناقد في تعقيب المؤلف. فان في تعليق الأستاذ مبارك بهذه العبارة السابقة روحا من الشعر، وعبيقا من الفن الأدبي

ألمَّ الدكتور زكي بنواح عدة من الشريف الشاعر، وأحسب أن مقاله عن الجندي المجهول الذي أستهل به كتابه، إنما هو من المقالات التي تظهر فيها شخصية الرجل الذي يقدر كل التقدير منزلة الشريف، فهي رثاء للعبقرية الموءودة في كل زمان، ونفحة من نفحات الإجلال للنبوغ المقتول، وللذكاء المحكوم عليه بالإهمال في الشرق.

أفراد المؤلف فصلا عن (أسرار العلائق بين الرضي والصابي) مع ما بين الاثنين من اختلاف في العقيدة، وقد صور المؤلف في مستهله قوة الصلة التي كانت تجمع بين أبي اسحق الصابي وأبي أحمد الموسوي والد الشريف، ويعرض لأثر الكتاب في هذا العصر (ص49 ج2)، وإلى الألفة والتوافق في المذاهب الأدبية، وهذا من الفصول القوية التحرير، القوية العرض، الدقيقة البحث في هذا الكتاب، وحجة الدكتور في هذه الصداقة التي تجمع بين الاثنين أن الصابي كان يحبب للشريف أن يطلب الخلافة الإسلامية لنفسه، وكان الشريف شاباً والشبان (يحبون أن يصلوا إلى قمم المجد في يوم وليلة، ويبحثون عمن يزكيهم ويؤيدهم ويدعى لهم التفوق، وقد تلفت الشريف وهو طفل فرأى شيخاً جليلاً يتنبأ له بمستقبل جليل فأحبه كل الحب) وفي هذا الفصل بالذات إيماءات خفيفة للنوازع والحوافز السياسية التي كانت سائدة في ذلك العصر. ولكم كنت أحب أن يعقد المؤلف فصلا أو فصلين يتناول فيهما الشريف الشيعي، وما هما بالكثير على شاعر اختلف المؤرخون - العرب والأوربيون على السواء - في مسألة تشيعه، ثم هي تتصل اتصالا وثيقاً بالحركة السياسية في عصره، وتصور ميل الشريف للفاطميين في مصر بقولة:

أحمل الضيم في بلادي الأعادي ... وبمصر الخليفة العلوي من أبوه أبي، ومولاه مولا ... ي إذا ضامني البعيد القصي

لف عرقي بعرقه سيدا النا ... س جميعاً محمدٌ وعليُّ

لقد جاءت هذه الأبيات عفواً في كتاب (عبقرية الشريف) وكان الأمثل أن يتناول المؤلف مسألة تشيع الرضي، وقد عدها الكثيرون) ومنهم ابن الأثير في الكامل (ص8 ج8)، والمقريزي في اتعاظ الحنفا (ص15) اعترافاً صريحاً من الشريف الرضي بصحة نسب الفاطميين إلى علي بن أبي طالب.

وفي كتاب الشريف مقدمة، وللمقدمات عندي أهمية قصوى فهي عرض موجز للكتاب، ولربما كانت المقدمات في بعض الكتب كتباً بذاتها لها قيمتها الأدبية والفنية والنقدية، كهذه التي يكتبها برناردشو وألدوس هكسلي وغيرهما. أما مقدمة كتاب اليوم فهي إشادة بالكتاب والكاتب، وإن كانا في غير حاجة إلى ذلك، إذ أن المؤلف عد الرضي أعظم شاعر عرفته العربية لأنه كتب عنه، ولا يدانيه في مرتبته المتنبي الذي يرى الدكتور زكي أنه سيكون أعظم شاعر - هو الآخر - يوم أن يكتب هو عنه

وإني لأسأل الدكتور ماذا يكون موقفه إن هو أبصر هذه المقدمة في كتاب لشاب؟ أكبر الظن أنه كان يتناوله بسيف المحارب ومبضع الجراح

هذه أوجه النقد في كتاب (الشريف الرضي) الذي ألفه الدكتور وطلع به على أهل العراق في محاضرات سمعوها ثم قرأها من بعدهم الناطقون بالضاد في كل صقع وناد

وأسلوب صديقنا الدكتور أسلوب عربي قوي، لا عوج فيه ولا التواء، ينساب في كثير من المواضع كالجدول الصافي، كما أن مطالع جزئيه هذين يندر ألا يقع على تعابير ذاتية مبتكرة، فليقرأ الأدباء كتابه أنه سفر بحث ونقد وأدب

حسن حبشي