مجلة الرسالة/العدد 283/في سبيل الإصلاح
مجلة الرسالة/العدد 283/في سبيل الإصلاح
داء الشباب!
(الخوف من الكلام في هذا الداء هو الذي أوقعنا فيه)
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . وهل داء الشباب إلا الميل الجنسي الذي يملأ نفوسهم، ويسيطر على أرواحهم، ويتراءى لهم في كل جميل في الكون، شيطاناً لعيناً يقود إلى الهاوية وإبليساً من أبالسة الرذيلة، يدعوا إلى دين الهوى، وشرع الشهوات، ويحدر عقل من يستجيب له فينزل من مكانه في الرأس إلى غير مكانه، ويجعل صاحبه عبداً للجسم، مؤتماً بالشيطان؟
وهل يأتي ممن كان إمامه إبليس، وشرعه هواه، إلا قطْ في شهر شباط. بل ما يبلغ والله أن يكونه، فان القط تشعله الشهوة شهراً في العام، وسائر أيامه للصيد والوثب والسعي للرزق وما خلق الله له القطط، وعبد الشهوة من الناس تتعبده الشهوة في كل حين. . . وللقط طريق واحد إلى بلوغ شهوته هو (الطريق) الذي (شقه) الله لبقاء الجنس، تبعاً للسنة التي سنها، أما عبيد الشهوة من البشر فلهم مائة طريق. تسعة وتسعون منها تخالف سنة الله، وقوانين الحياة، وتأباها العجماوات، ويترفع عنها الحمير، ولا يرتضيها لنفسه (صاحب اللعنات) إبليس. . . والقط في شهر الشهوة، لا ينسى قِطيته ولا يدع صيد الفار، ولا السعي للعيش، والرجل إذا تعبدته الشهوة ينسى إنسانيته، ويهمل الواجب عليه، ويقعد عن المشي في مناكب الأرض في طلب الرزق، بل لقد تبلغ به السفاهة والجهالة أن يفرَّ من الحياة منتحراً جباناً ذليلاً، لأن. . . لأن امرأة لم تعطه من نفسها الذي يريد، ولو عقل عقل القط لتركها إلى غيرها، وليس يبالي القط مادام قد قام بقسطه من حفظ النسل، أكانت صاحبته بيضاء مبرقشة أو سوداء حالكة، ولم نعهد قطاً قطع نفسه بأسنانه، أو ألقى بها في البركة، حزناً على حبيبته القطة. . . والقط (بعد ذلك) يبقى عزيزاً، يطارد القطة مرفوع الرأس، مشدود العضل، بادي القوة، والرجل إذا استعبدته الشهوة يصبح ذليلاً حقيراً، كافراً بالرجولة، فيهمل دروسه إذا كان طالباً لأن صاحبته (أو شيطانته) لم تدع له وقتاً ولا عقلاً للدرس؛ وإذا كان موظفاً أنسته عيناه أمانة العمل، وحرمة المصلحة، وواجب الشرف، وقدسية العدل؛ وإذا كانت صاحبة سره في تجارته نسى تجارته، وأضاع الأمانة والربح، وأهمل السعي والعمل. . . فلا يكون من وراء الشهوة إلا ذل النفس، وموت الشرف، والضعة والتسفل: المعلم سيد تلميذته، والمدير أمير سكرتيرته، والطالب عزيز حيال رفيقته، فإذا جاءت الشهوة، ذل المعلم فكان هو التلميذ وهي السيدة، وذل المدير فكان هو الأجير وهي الآمرة، وذل الطالب فكان من رفيقته بمثابة كليها. . . يتبعها ويبصبص لها!
أو ليس من الذل أن تكون حياتك معلقة بغيرك، وسعادتك بيد سواك، فأنت مضطر إليه، وأنت لعبة في يديه، إن أقبل عليك سعدت، وأن أعرض شقيت، وان مال إلى غيرك اسودت أيامك، وتمنيت الموت؟
هذا والله الذل الذي لا ينفع معه المال الكثير، ولا الجاه العريض، ولا. . . (ملك إنكلترا وتوابعها. . .) وهذه هي حقيقة الحب، الحب الذي ألهه الشعراء!
على أن الحب في الأصل جميل مقدس، وعلى الحب قام الوجود كله وائتلف وسار إلى غايته، والشهوة نافعة لازمة لم تخلق عبثاً، ولا أداة للشر، بل خلقت حياة للجنس وعصمة من أن يمحى أو ينقرض، ولسنا نحقر الحب ولا نذم الشهوة، وإنما نذم الغلو فيهما، وولوجهما من غير بابهما، وأخذهما على غير الوجه الذي خلق الله لهما. . . نذم منطق الشهوة، وللشهوة منطقها الذي يسلب الدين دينه والحكيم لبَّه، ويريه أن له الحق في كل النساء، وانه لم تخلق امرأة إلا للذته (هو) ومتعته، ويصنع له إبليس أدلة هذه الدعوى فيقبلها بعقله الذي انحدر من رأسه، ويتلقاها بأعصابه الهائجة المجنونة، ثم يدله إبليس على سبل تحقيقها، فيسلكها لا يبالي الدين ولا العرف ولا المروءة ولا شيئاً مما تواضع على إجلاله الناس ويتم إبليس عمله، فيدخل في رءوس نفر من الأدباء، ثم ينطق بلسانهم، ويخط بأقلامهم، هذا الأدب الوقح البذيء، أدب أبي نواس من الأولين، وآباء نواس من العصريين، الأدب الذي يستقر في أدمغة الشباب استقرار صناديق البارود في أصول البيوت، فلا يلبث أن يتفجر عند الشرارة الأولى، تخرج من عين امرأة، فينسف عقل صاحبه ودينه، وأخلاق الأمة وصيانتها، ويقطع نسلها ويؤلف (المشكلة الكبرى) التي عرضنا من أسابيع إلى وصفها. . . ولا نعدم مع ذلك من الناس من يعجب بهذا الأدب ويكبره ويسمي صاحبه بأسماء الجهابذة الأعلام من أرباب البيان وحملة الأقلام. . .
وهل في الأدب المكشوف، إلا كشف سوأة من سوءات الفكر، وعورة من عورات الضمائر، يحرص العقلاء على سترها كما يسترون عورات الجسم؟
أستغفر الله ماذا أقول إن الناس قد كشفوا عورات الجسم على السواحل وفي المصايف، وأبدوا كل سوأة، وافتخروا بها، وسموها جمالاً وكمالا، وصوروها وملئوا بها جرائدهم ومجلاتهم، أفيلام الشباب إن جن جنونه، واشتعلت في أعصابه النيران؟
اخطبوا أيها المدرسون ما وسعكم الجهد، واهرئوا ما انفسح لكم سبيل الهراء، وقولوا للشاب كن صيناً وعفيفاً. إنها لن تجدي عليه خطبكم، ولا يستقر في نفسه هراؤكم؛ إنه يخرج فيسمع إبليس يخطب بلغة الطبيعة الثائرة في السوق على لسان (حال) المرأة المتبرجة، وفي الساحل على لسان الأجساد العارية المغرية، وفي السينما على لسان المناظر المتهتكة المثيرة، وفي المكتبة على لسان الجرائد المصورة والروايات الخليعة الماجنة، وفي المدرسة على لسان أصحابه الفساق المستهترين. . . ولسان المدرسين حين يدرسون شعر أبي نواس المقرر رسمياً في المنهج!
إن الشاب تتعبده الشهوة فيخضع لها، لأن سهامها تنصب عليه من كل جانب، فلا يطيق أن يتقيها، فيصورها له خياله عالماً مسحوراً عجيباً، وجنة فينانة غريبة، فيتمنى دخولها، فلا يجد من دونها حجاباً، بل يجد من يسوقه إليها، ويحفزه عليها، فلا يخرج منها أبداً، ولا عليه إن ماتت الأمة أو عاشت، فهل فكر أحد من أطباء الأخلاق في هذا الداء؟
بناء الأخلاق ينهار، وسوق الزواج يبور، ونسل الأمة ينقطع، والمخازي والرذائل تعم وتنتشر، والقادة والمصلحون وأرباب الأمر يرون ذلك كله، فلا يبالونه ولا يفكرون فيه، ولا يفتشون له عن علاج. . . مع أن العلاج هين ميسور والعقاقير دانية قريبة، لا ينقصها إلا يد تمتد إليها فتأخذها لتجرعها المريض وأين تلك اليد؟
إن الله الذي وضع الشهوة في النفوس جعل دواءها الزواج، فإذا تعذر الزواج فهنالك طرق للوقاية من الفاحشة، وهنالك السدود دونها والحجب: هنالك الدين، فإذا علمتم الشاب دينه، وعرفتموه بربه، ونشأتموه على التوحيد الخالص، والإيمان الصحيح حتى يعلم أن الله مطلع عليه، لاستحيا من الله أن يأتي الفاحشة بسمعه وبصره، كما يستحي أن يأتيها على مشهد من أبيه الذي يجله، أو أستاذه الذي يحترمه، ويعلم أن من حق الله عليه، وقد أعطاه هذه الأعضاء وأنعم بها عليه ألا يستعملها إلا في طاعته. . . هذا أول سلاح تدرأ به المعصية، وهذا معنى قوله ﷺ (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أي لا يستطيع أن يزني وهو مؤمن أن الله مطلع عليه، ناظر إليه، ولمنعه الحياء من الله أن لم يمنعه الخوف من العقاب
وهنالك الشرف، فإذا ربيتم الشاب عليه، وجعلتموه يحس به ويقدره قدره، وأفهمتموه معنى المروءة وقيمة العرض، لمنعه من الفاحشة ما كان يمنع الجاهلي الشريف، من أن ينظر إلى جارته حتى يوارى جارته مأواها
وهنالك الصحة، فلو عودتموه الرياضة، وعرفتموه قيمتها، وأنبأتموه أن الله جعل مع العفاف الصحة والسلامة، ومع الفاحشة الضعف والمرض والمصائب السود لاقتصد في اتباع الشهوة، إن لم يكف عنها، ولم ينظر إليها إلا من سبيلها، وسبيلها الزواج
وهنالك طيب السمعة، وحسن الذكر في الناس، وهنالك الكثير من الأسلحة والحجبَ
والعلاج كله في يد وزارة المعارف وآباء الفتيات
أما وزارة المعارف، فتستطيع أن تعني بالأخلاق العامة، فتبذل جهدها في مراقبة الجرائد والمجلات والروايات، وتبث الوعاظ ينشرون في الناس الفضيلة ويرغبونهم عن التهتك والعري
وتستطيع قبل ذلك كله أن تهتم بأخلاق التلاميذ، فتوكل بهم من يفهمهم (قبل سن البلوغ) حقائق الحياة الجنسية بأسلوب علمي يضرب فيه المدرس المثل بتلاقح الأزهار، واجتماع الحشرات والطيور، ويبين لهم بشاعة الفاحشة على مقدار ما يتسع له القول وأضرار (العادات السرية السيئة) ويكون حكيما في بيانه، فلرب بيان مثل هذا، يخلو من الحكمة، فيقود إلى الرذيلة بدلا من أن ينصرف عنها
وتستطيع وزارة المعارف أن تعلي من شأن درس الدين، وتختار له من المدرسين من يكون قدوة في سمته وخلقه وسيرته، فان المدرس يفعل بسيرته في نفوس الطلاب ما لا يفعل بمحاضراته وتدخل هذا الدرس في الفحوص والامتحانات العامة، وتجعل الطلاب (يرسبون) إذا قصروا فيه، لأن الطلاب لا يمكن أن يعنوا بدرس لا (يرسبون) إن قصروا فيه وتستطيع وزارة المعارف أن تلزم المدرسين بأن يكونوا مثالاً كاملاً للاستقامة والعفة والمروءة، وأن يكونوا قدوة للطلاب صالحة، فأنا قد رأينا من ليس كذلك، رأينا من يصحب طلابه إلى دور الفحشاء!
وتستطيع وزارة المعارف أن تضع القوانين الصارمة لحماية عفاف الطلاب من أنفسهم ومن غيرهم. . .
أما آباء الفتيات الذين لا يزوجوهن إلا بيعاً، فهم رأس البلاء، ولكنه لا ينفع معهم الكلام
أما أنتم يا اخوتي الذين يقرئون هذا الفصل من الشباب، فإني أنصح لكم (وأنا شاب مثلكم)، بأن تصرفوا ميولكم إلى جهة علوية، فان الميل كالبخار المتصعَّد من القدر قد يجد سبيله فيدير الآلة، ويسير القاطرة، وقد يحتبس فتنفجر به القدر، وقد يسيل على الأرض هدراً، فأنا لا أحب أن تسيل ميولكم هدراً، ولا أن تضيق بها نفوسكم حتى تنفجر، بل أحب أن تتساموا بها فتسوقوها في طريق الفن والإبداع
إن من يفكر في المرأة، ويزداد به الشوق إليها، ولا يجدها زوجة لأن الآباء يضنون ببناتهم حليلات ويبذلونهن للناس خليلات، يستطيع أن يصب شوقه في القطعة من الشعر أو القصة من القصص، أو أن يصور شوقه نغمة جديدة، أو صورة بارعة يشعر إذا صنعها بمثل ما يشعر به من بلغ - ما كان يريد - ويجد الاطمئنان، ويمشي في طريق النبوغ
وإن الشباب إذا دأب على المطالعة والبحث، ورغب في التفوق على رفاقه في المدرسة، أو الفوز على خصومه في الجري أو الملاكمة، أو استغرق في تجارة فشغلته، أو صناعة فملأت حياته لا يجد في نفسه بقية للشهوة، إنما تستبعد الشهوة من كان فارغ الرأس واليد والوقت
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة!
وبعد فهذا داء عضال فتاك، فأين أطباؤه، وأين من ينتبه إليه؟ أين الكتاب الباحثون فيه؟ أين أولو الأمر المعنيون به؟ أين الغُيُر على الدين والأخلاق؟ ألم يبقى منهم أحد؟!
(بغداد - المدرسة الغربية)
علي الطنطاوي