مجلة الرسالة/العدد 283/مقالات في كلمات

مجلة الرسالة/العدد 283/مقالات في كلمات

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 12 - 1938



للأستاذ محمود غنيم

الحياة والأمل

قالوا: إن فرعون حينما أراد أن يبلغ الأسباب، أسباب السموات فيطلع إلى إله موسى، هيئ له تابوت ذو أربعة أعمدة، ثم علق في أسافل تلك الأعمدة أربعة نسور خماص، وفي أعاليها أربعة حملان مسلوخة الجلود، ثم استقل فرعون التابوت فانطلقت النسور تشق أجواز الفضاء، تمني نفسها عبثاً بذلك اللحم الغريض، ثم كان من أمرها ما كان

وما أظن أننا في هذه الحياة إلا أشبه بتلك النسور، وما أظن الغاية التي نسعى إليها أقرب من تلك الحملان، مع تعديل طفيف في طرفي التشبيه، فنسور فرعون تسعى وراء أمنية لا يتسنى تحقيقها، ونحن كلما تحققت لأحدنا أمنية أسلمته إلى أخرى، وهكذا يقضي الإنسان عمره وراء سلسلة من الآمال متصلة الحلقات غير متناهية، حتى يخر صريعاً وأمانيه حوله، وقد حال بينهما من الموت سد منيع

هذا طالب ينشد شهادة، وهذا حامل شهادة ينشد راتباً، وهذا ذو راتب يريد أن يتضاعف، إلى آخر تلك السلسلة التي لا تنتهي حلقاتها

ثم هذا شاب يريد أن يتزوج، وهذا زوج يريد أن ينجل، وهذا ناجل يريد أن يرى أنجاله رجالاً، إلى أخر تلك السلسلة التي لا تنتهي حلقاتها

ثم هذا قائد يريد أن يكون وزيراً، وهذا وزير يريد أن يكون أميراً، وهذا أمير يريد أن يوطد نفوذه أو يوسع رقعة ملكه

قالوا لنابليون ذات عشية ... إذ كان يرصد في السماء الأنجما

بعد افتتاح الأرض ماذا تبتغي؟ ... فأجاب أنظر كيف أفتتح السما؟

الحياة نار مشوبة وقودها الأمل؛ وهي قطار، وهو بمنزلة البخار، وإن للطبيعة في خداع الناس عن هذا الطريق أفانين، فهي تزين للإنسان الغاية من الغايات، فيدمى أخمصيه سعياً وراء تحقيقها، حتى إذا جاءهم لم يجدها شيئاً، فتلوح له بأخرى، وهكذا يقضي الإنسان حياته في سعي متواصل، وهي لا تتورع في هذا السبيل عن خداع الناس بالحق وبالباطل، وعندها لكل صنف من الناس صنف من الآمال يخلب لبه ويغريه ببريقه. أرأيت ذ الشيخ المحطم الذي يقف بإحدى قدميه على حافة القبر، والذي لا زوجة له ولا عقب يرث ماله من مال أو لقب؟ لقد اخترعت الطبيعة له شيئاً يقال له طيب الأحدوثة، وخلود الأسماء بعد الفناء، فأجهدته في شيخوخته المحطمة ولم تدعه يقضي أيامه المعدودة في أمان واطمئنان

قرأت في بعض المجلات أن الإمبراطور غليوم لا يزال يمني نفسه بالعودة إلى عرش ألمانيا، وأنه لا يزال يترقب اليوم الذي يثوب فيه الشعب الألماني إلى رشده، فيستدنيه من منفاه، ويسلم إليه مقاليد الأمور. ولعلك لا تعلم أن المحكوم عليهم بالإعدام لا ييئسون من الخلاص حتى ساعة التنفيذ، ولهم فروض لا تخطر بالبال، تنتهي كلها إلى غاية واحدة هي النجاة

إنها الطبيعة، الطبيعة التي سلحت النساء بالنعومة والجمال لإغراء الرجال، والتي سلحت الزهر بطيب العرف وألوان الطيف ليجذب الطيور فيشاطر الريح حمل حبوب التلقيح. هي هي التي حاكت لنا خيوط الآمال، لنتعلق بها فيعمر الكون، ويسير نحو الكمال

فليت شعري، ماذا يدعوها إلى ذلك كله؟ أهو شيء لا نعلمه؟ أم لا شيء؟

الأيمان بالحظ

قال صديقي في تهكم: ألم يبلغك نبأ التعينات الجديدة؟

قلت: لا، وماذا يعنيك من أمرها؟

قال: إن بين المعينين مدرساً جديداً، كان بالأمس لي من الأولاد، فأصبح الآن من الأنداد

قلت: وماذا في هذا؟

قال: فيه شيء كثير، فقد كان صاحبنا هذا هدفاً لسهام المعلمين - وأنا من بينهم - وكان المثل في كساد الذهن، وقلما وقعت عيني عليه إلا نائماً أو متثائباً. وكنت أعتبره (ترمومتر) الفصل، ما فهم أمراً إلا اعتبرته مفروغاً منه مفهوماً من الجميع

قلت: هون عليك يا صديق، وماذا أنت فاعل إذا جاءك هذا المتثائب النؤوم غداً يفحص أعمالك، ويقفك منه موقف المسؤول من السائل، تتلقى إرشاداته، وتتقبل نصحه بقبول حسن؟

إنك يا صديقي لا تؤمن بالحظ، أما أنا فإنني مؤمن قوي الأيمان به. أعتقد أن للجد (بفتح الجيم)، المرتبة الأولى في تصريف الأمور، وللجد (بكسر الجيم) المرتبة الثانية، فلو شبهنا العالم بفلك لكان الأول بمنزلة الربان، والثاني بمنزلة السكان

لعل التربة التي أنبتت نابليون - أنبتت من أمثاله عشرات لهم مواهبه ومقدرته على تعبئة الجيوش، وتسلق الجبال، واختراق البحار، ولكن أحدا منهم لم يمهد له الحظ ما مهد لبونابرت من الأسباب. ولو أتيح له ذلك لكان نابليونا ثانيا يصرف ملوك أوربة تصريف قطع الشطرنج، ويلعب بعجينتها كما يلعب الأطفال بالصلصال

إن الحظوظ والمصادفات تلعب دوراً هاما في تاريخ الجماعات بله الأفراد. ومن يدري ماذا يكون مصير مصر لو لم يقع مارك أنطوان في حب كليوباطرة؟ وماذا يكون مصير الإسلام لو لم يتح للمسلمين التغلب في بدر؟ بل ماذا كان يكون مصير البشرية جمعاء لو لم تهف نفس حواء إلى شجرة الحنطة أو التفاح؟

إذا قلت يا صديقي: إن الرجال يسعدون أو يشقون بما يقدمون من أعمال، فما بال الأطفال، يولد أحدهم في الغربال، وتدق لثانيهم البشائر قبل مولده فإذا استهل وجد عرشا يمهد له، وأمة تراض على طاعته، وتهافتت عليه المراضع، وترامت على أقدامه الحواضن؟

إن الإنسان يا صديقي ليقضى زهرة شبابه في كد وتحصيل، ثم يسعى حتى ينتعل الدم في سبيل الوصول إلى منصب يدر عليه في عام ما يتقاضاه بعض المطربين في يوم من الأيام، فهل كون المطرب صوته، وخلق لهاته بيديه؟

وماذا عملت الفتاة تخلع عليها الطبيعة مسحة من جمال، فيتهافت على بابها من الخطاب وفود، بينما لا تجد أختها زوجا من عود؟

وبعد، فإذا قلنا: إن الملوك قادوا الجيوش فتبوؤا العروش، فعلى أي أساس شرف الله - جلت حكمته - برسالته أناسا من الدهماء، فجعلهم أنبياء، وبشر بهم قبل ميلادهم بمئات من السنوات؟

قال صديقي: الآن آمنت

قلت: إذن استرحت

الذوق والشعر

تتناول قطعة من التفاح فتحس لها طعماً لذيذاً، ثم لا يطالبك إنسان أن تقدم على لذتها دليلا، ولو حاولت ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وتشم عبير الزهر، فتقول: إنه طيب، ولو سئلت: لماذا هو طيب؟ لم تحر جواباً. وتسمع عزف الموسيقى أو خرير الغدير أو سجع الطيور، فتقول: صوت شجي، ولكن لماذا هو شجي؟ لست تدري ولا المنجم يدري. وتستطيع أن تقول مثل ذلك في كل منظر جميل يقع طرفك عليه، فلا يطالبك إنسان بتعليل جماله، ولو فعلت لطال بك البحث والتدليل، دون أن تنتهي إلى تعليل

ولكنك حين تستطيب قطعة من النظم طالبك النقاد بإيراد العلل والأسباب، كأن طيب الشعر في الذوق غير طيب التفاح في الفم، والزهر في الشم، والموسيقى في السمع، والحسن في العين

إنه الذوق، ثم الذوق وحده، الذوق الذي يجعلك تتشهى طعاماً وتعاف آخر، هو الذي يجعلك تسيغ شعراً وتغص بشعر؛ وهو الذي يقسم القافية إلى قافيتين، إحداهما تشج الجبين، والثانية أندى على الأكباد من العذب البراد؛ وهو الذي يقسم دواوين الشعراء إلى قسمين، أحدهما للخلود، والثاني للوقود

لا يخضع الشعر لمنطق النقاد، فاعتبر كل ما صح من أقيستهم في ذلك سفسطة لا طائل تحتها. وكم من شعر هوجم واستعملت في مهاجمته أسلحة الأقيسة والبراهين، وآخر ناصرته تلك الأسلحة فمات الثاني في مهده، وبقى الأول خالداً، تتداوله الرواة، وتتناوله الشفاه. . .

أرأيت لو قال لك قائل: أن صوت الحمل أشجى من صوت العصفور لأن الأول ألذ طعما وأكبر حجما، وأوفر شحما ولحماً، أو قال لك: أن ريح البصل أطيب من ريح الزهر لأن الثاني مرير الطعم، سريع الذبول، لا يصلح الطعام بخلاف الأول. أرأيت لو قال لك قائل ذلك هل تصيخ إليه؟ إنه لم يكذب ولكنه لن يجد له سميعاً

من هذا القبيل قولهم: إن هذا الشعر حافل بالمعاني الفلسفية، والنظريات الكونية و. . . و. . . ثم هو مع ذلك لا يحرك مشعراً من مشاعرك، ولا يمس وتراً من أوتار قلبك، بل يسمعه النائم فلا يستيقظ، والصاحي فينام، وهبه نافعاً كما يقولون، فما مثله مع ذلك إلا كمثل (زيت الخروع) يستعيذ من شره الإنسان، وإن صحت به الأبدان

حاول ما استطعت أن تعلل سر الجاذبية في الشعر، فسوف يعييك البحث. لن تستطيع رجعها إلى لفظ ولا إلى معنى، فرب لفظين مترافدين أحدهما يقيم البيت، وثانيهما ينقضه من أساسه، ورب معنى واحد في بيتين؛ أحدهما يثير الإعجاب، والثاني يثير السخرية والاستهزاء

أيها القارئ، إذا تلاءم الشعر وذوقك فخذه، وإلا فدعه، فأن قبح الأول لك مقبح، أو حسن الثاني لك محسن، فاهزأ بقوله، واضحك منه ملء شدقيك، ثم استفت قلبك

إنني أومن بالذوق، ولكنني بجانب ذلك لا أجحد أن الأذواق تختلف، وأن منها الفاسد الذي لا يصلح للحكم، بيد أن الذوق على ما به من هنات لا يزال في نظري أصلح المعايير التي يقاس بها الشعر، فينبغي أن نعول عليه، وعليه وحده، حتى نهتدي إلى مقياس محسوس تقاس به المعنويات، كما تقاس الحبوب بالقدح والصاع، والأطوال بالباع والذراع

(كوم حماده)

محمود غنيم