مجلة الرسالة/العدد 29/صفي الدين الحلي

مجلة الرسالة/العدد 29/صفي الدين الحلي

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 01 - 1934



- 3 -

(تتمة)

كانت مصر إذ رحل إليها الشاعر في عهد زاهر مثمر من اكثر نواحي الحياة، فهبط إليها كما يهبط الطائر الصادي على الروض الندى اليانع؛ ينهل من موارده في شوق ويتنقل على دوحاته في طرب، ثم ينثني عنه وقد ارتوى إلى وطنه شاديا مترنما!

فقد أصبحت بعد إن شل المغول عرش بني العباس وأسدلوا على بغداد الستار، مركز الثقافة الإسلامية الأكبر وموئلها الحصين، تنهض فيها جامعة الأزهر والمدارس الأخرى بأعباء الرسالة العظمى للعلم والأدب، وتشترك سلاطينها بأيدٍ عاملة نشيطة في تعضيد هذهالحركة وتغذية روحها بعوامل القوة؛ بما تحدثه من المدارس وما تغدقه في كرم على العلماء والأدباء من هبات وصلات.

وكان عصر السلطان الناصر بن قلاوون من خير عهود دولة السلاطين الأولى؛ إذ كان السلطان نفسهـ كما يقول السير وليم موير - (مثقفاً ثقافة عالية، درس علوم الفقه والقانون ونال شهادة فيها فكان يحب العلم والعلماء ويشاركهم في كل أمر يفيضون فيه) وكثيرا ما يكون الملوك المثقفون نعمة على رسل الثقافة لما يملكون من حسن التقدير لأعمالهم، وصدق الشعور بحلاوةثمراتهم، وقد روي عنه انه اقطع أبا الفداء المؤرخ الشهير ولاية حماة تقديراً لمكانه وجزاء لما قدمه إليه من معونة في بعض الحروب. وفي عهده كانت مصر تنعم بشيء من راحة الظافر بعد أن شلت حركات المغول وأنقذت الشرق العربي من بين براثنهم المسمومة، وبعد أن طاردت حملة الصليب المستكلبين في هدم الإسلام والشرق، وقذفت بهم في قوة إلى البحر! ولكنها مع ذلك لم تكن تغفوا عن حراسة هذا الملك وقطع أذناب العدو كلما امتدت اليه، وهو ملك شاسع مترام يمتد ما بين الفرات والحجاز وآسيا الصغرى وجنوب النوبة، ولما كانت إذ ذاك لا تزال طريق التجارة والرحلة بين أوربا والشرق قبل أن يكشف رأس الرجاء الصالح، وعرفت مصر كيف تستغل هذا المورد الثرى أحسن استغلال، وكانت تجبى إليها ثمرات تلك (العاهلية) الكبرى، فقد حازت من المجد المالي ما يمكنها من مواصلة السير في طريق مجدها العلمي والحربي.

لذلك لا نعجب أن نرى القاهرة حينذاك تموج بوفود رجال العلم والأدب فتحسن وفادتهم، وان نسمع صفى الدين وقد أقبل إليها فانتظم زمنا في حاشية الملك الناصر يصوغ آيات المدح لمصر ومليكها، ويعود إلى وطنه فيلهج بأجمل الذكريات لما لقي فيها من روعة الكرم وحسن الضيافة. وقد اتصل أثناء أقامته في مصر بحلقاتها الأدبية التي كان يمثل زعامتها الكتابية (علاء الدين بن الأثير) رئيس ديوان الإنشاء، وزعامتها الشعرية (جمال الدين بن نباتة) الأديب الشهير، وتوثقت بينهم جميعا روابط الصداقة والإخلاص، فلم يفتأ بعد رحيله يتراسل معهم في مساجلات أدبية ممتعة تعبر عن عواطف الشوق ويعترف في إحداها بزعامة ابن نباتة لجميع الشعراء

والآن نستعرض إحدى قصائده التي تجمع بعض هذه الأمور، وقد قالها يوم احتفال مصر بيوم الخليج وابتدأها بوصف الربيع في مصر:

خلع الربيع على غصون البان ... حللا فواضلها على الكثبان

وتتنوجت هام الغصون وضرجت ... خد الرياض شقائق النعمان

وتنوعت بسط الرياض فزهرها ... متباين الأشكال والألوان

والظل يسرق في الخمائل خطوه ... والغصن يخطر خطرة النشوان

وكأنما الأغصان سوق رواقص ... قد قيدت بسلاسل الريحان

واستمر هكذا في أوصافه الجميلة التي يعبر بها عما أودعته طبيعة مصر الفاتنة في نفسه حتى قال:

إني وقد صفت المياه وزخرفت ... جنات مصر وأشرق الهرمان؟

واخضر واديها وحدق زهره ... ونيل فيه ككوثر بحنان

وبه الجواري المنشآت كأنها ... أعلام بيد أو فروع قنان

نهضت بأجنحة القلوع كأنها ... عند المسير تهم بالطيران

والماء يسرع في التدفق كلما ... عجلت عليه يد النسيم الواني

وأخذ بعد ذلك يصف السلطان بقوة والفصاحة والسيادة على جميع الملوك، وليس الملوك في الحقيقة إلا مظاهر للأمم من أكثر الوجوه، فإذا كانوا أقوياء أو كرماء فما ذلك إلا فيض أممهم ومنحة رعاياهم، وإذن فكل مدح للملك إنما يتجه إلى الأمة التي أكسبته أسباب المدح ووهبته ما يتيه به من أثواب المجد. ونود أن نشير هنا إلى أن مصر لم تكن تنظر إلى سلاطينها الذين كانوا في الأصل مماليك إلا بعين التجلة؛ لأنها كانت إذ ذاك تفهم معنا الوطنية كما يقرره الإسلام، دينها الذي تعتز به، وهو دين ديمقراطي حر يأمر أهله ألا يأنفوا من الحاكم المسلم العادل ولو كان عبد حبشياً. كذلك لم يكن هؤلاء السلاطين في نظر مصر إلا جنداً مسلمين تربوا في أرضها ودافعوا طويلاً عن مجدها ثم ارتقوا باستيلائهم على شؤونها الحربية إلى عرش الملك، فرضيت بهم وعهدت إليهم بتمثيل قوتها في السياسة والعلم والحرب، فمثلوها احسن تمثيل، ثم لما فرغ دورهم أرخت عليهم السدول وبقيت مصر هي مصر الخالدة.

ومما قاله صفي الدين في أحدهم وهو الناصر المذكور:

لا عيب في نعماه إلا أنها ... يسلو الغريب بما عن الأوطان

شاهدته فشهدت لقمان الحجا ... ونظرت كسرى العدل في الإيوان

وشهدت منه فصاحة وسماحة ... أعدى بفيضهما يدي ولساني

ملك إذا اكتحل الملوك بنوره ... خروا لهيبته إلى الأذقان

وقال:

أبقا قلاوون الفخار لولده ... إرثاً وفازوا بالثناء مكسبا

قوم إذا سئموا الصوافن صيروا ... للمجد أخطار الأمور مراكبا

عشقوا الحروب تيمنا بلقا العدا ... فكأنهم حسبوا العداة حبائبا

وكأنما ظنوا السيوف سوالفا ... واللدن قدا والقسىّ حواجبا

يا أيها الملك العزيز ومن له ... شرف يجر على النجوم ذوائبا

أصلحت بين السلمين بهمة ... تذر الأجانب بالوداد أقاربا

وحرست ملكك من رجيم مارد ... بعزائم أن صلن كن قواضبا

كان لصفي الدين قدرة فائقة في رسم المناظر الأخاذة بدقة الفني وتأثر الشاعر، وذلك لما وهبه من ميزتين عظيمتين: إحداهما دقة النظر وصدق المشاهدة، والأخرى قوة الابتكار والتخيل. فقد كان يدرك بالأولى جزئيات الأمور ونواحي المناظر التي تخفى على غير الموهوب، ثم يتولى خياله ما أدركه فيحكم نسجه ويضفي عليه الوانه، ويزيد فوقه نقوشه، فإذا بوصفه قطعة فنية رائعة تثير الإعجاب.

قام الشاعر برحلات عدة كما ذكرنا قبل، في صحاري العرب والشام ومصر، وانتظم أزمنة طويلة في حواشي الملوك الذين كان لهم غرام وشغف بالنزه الخلوية في أودية حماة والحلة وماردين فكان ذلك داعيا لشدة قربه من الطبيعة ومذكيا حبه لها، ولما كان بفطرته يملك نفسا شاعرة فقد استجاب دعوة الجمال واخذ يرصد الطيور حائمة في الجو، والوحوش هائمة في الصحراء، والحيوان الأليف والسائم ينقش صورها جميعا في شعره نقش المصور الماهر، وفي ديوانه أمثلة كثيرة لكل هذه الأوصاف.

ومن مظاهر أوصافه الدقيقة أيضاً وصفه للخمر ومجالس الندامى، فان الصفي كان رجلا طروبا متهافتا على موارد اللهو والسرور، يشرب من لذائذه الكؤوس الدهاق: يعاقر الخمر ويعشق النساء والولدان ويختال بين الرياض، ويتجول في الصحراء؛ غير آبه لما حرم من اللذة أو حل، وذلك لأنه اتخذ لنفسه مذهبا خاصا في فهم أحكام الدين يطاوع هواه كل المطاوعة، وقد عبر عن هذا المذهب بقوله:

فارتكب اجمل الذنوب لنفع ... واعتقد في ارتكابه التحريما

ثم تب واسأل الإله تجده ... لذنوب الورى غفورا رحيما!

وتمادى في هذا المذهب حتى احل الخمر صراحة فقال:

نهى الله عن شرب المدام لأنها ... محرمة إلا على من له علم

وذاك بقدر الشاربين وعقلهم ... ففي معشر حل وفي معشر حرم

ولو شاء تحريما على كل معشر ... لقال رسول الله لا يغرس الكرم!

ولو صدق هذا المنطق المموه لكان العلم رخصة مؤذنة لأهله أن يرتكبوا كل لذة أثيمة، ولأنه قد مارسها فعلا واغتبق من كؤوسها واصطبح، عرف كيف يتغزل في محاسنها ويصف آثارها بمهارة تشهد له بالقدرة الفنية. ومما قاله:

سلاف تميت العقل في حال شربها ... وتنعش منها الروح والجسم والقلبا

محجبة وسط الدنان ونورها ... يمزق من لألاء غرتها الحجبا

إذا مسها وقع المزاج تألمت ... وأزبد منها الثغر وامتلأت رعبا

واعجب من بكر لها الماء والد ... وترجع إني رام تقبيلها غضبى هي الشمس إلا أنها في شروقها ... إذا مزجت في كأسها اطلعت شهبا

يعض عليها التائبون بنانهم ... ويندب كل منهم عقله ندبا

وعلى كل فلا يتردد المرء بعد أن يقرا أوصاف الحلي أن يحكم له بان مرتبته في الصف الأول من شعراء الوصف في الأدب العربي أما الغزل فقد كبا فيه جواده وخانه ذكاؤه إذ العقل لا يغني وحده في هذا الميدان، وإنما مرد الأمر إلى القلب الخفاق والعاطفة المشبوبة، وشاعرنا لم يكن من فئة المحبين الذين يؤمنون باتصال الوجدان ويظلون في نجواهم باكين من هول الذكرى وألم الهجر وإنما كان رجلا حسيا يعترف حقا باللذائذ المادية ليس غير.

لهذا كان غزله قسمين متباينين، أولهما الغزل النسائي المألوف، والثاني غزل الولدان أو ما يسمونه بالغزل المذكر، ونأسف إذا نقول إن النوع الثاني كان ارق وأصفى وأدل على الصدق من الأول، ولكنا لاندهش كثيرا إذا ذكرنا مبادئه الخلقية التي وصفناها قبل؛ ويلوح لنا إن هذا الانحلال الخلقي لم يكن قاصرا عليه وحده وإنما كان ظاهرة عامة للولاة والأمراء الذين يستقلون في أطراف المملكة ببعض المناطق؛ لان وفرة المال وتحقق أسباب النعيم مع قلة الشواغل الادارية، كانت تغريهم بالعكوف على الملاهي والتمادي في الإباحة. أما غزله الأول ففيه جفاف وتكلف وترى عليه سمات التقليد واضحة ومما قاله في مذهبه:

خلياني من فترة النسوان ... وانعشاني بنشطة الغلمان!

ليس يصبو لربة الخال قلبي ... بل برب الأقراط جن جناني!

تلك هي الأغراض البارزة التي تستحق الدراسة في شعر صفي الدين، أما الأغراض الأخرى فهي لا تخرج عن السبل التي طرقتها إخوتها، وجملة القول فيها إن الزهد والألغاز ليسا إلا مثلين من التقليد والتكلف، لان الرجل كما عرفنا كان متهتكا مسرفا، وإنما أراد إن يعارض قصائد ابن الفارض وأمثاله من المتصوفة المخلصين، ولان نوع الألغاز ابعد ما يكون عن معنى الشعر. وهو، وان أجاد في الرثاء حقا، وأبدع في تصوير فجائع الموت!، نستطيع أن ندرك إجادته فيما درسنا من مدحه، لان معناهما واحد وان اختلفا في مناسبة كل منهما مع الحياة أو الموت. غير انه أتى في باب الحكمة بكثير من التجارب الصادقة وآداب الاجتماع، فلم يبقى إذن غير المجون وهي ما نستميح القارئ أن يعفينا منه صونا لحياء القلم وحرصا على وقار (الرسالة).

(وبعد) فهذه شخصية كبيرة تجمع بين الوسامة والدمامة، ولكنها في جملتها جديرة بالخلود، على أنها آية بينة تقرر إن الأدب العربي قد ظل بعد موت بغداد يتنسم الحياة قويا ناظرا؟

دار العلوم

ضياء الريس