مجلة الرسالة/العدد 291/القصص
مجلة الرسالة/العدد 291/القصص
الدموع
مترجمة عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
كان ريكاردس أرملاً يعيش مع ابنته الوحيدة. وكان كثير التنقل من مسكن إلى مسكن، ولكنه لم يترك لوندرا في وقت من الأوقات. وكانت المساكن التي يقيم فيها من النوع الحقير الذي تؤجر فيه كل غرفة على حدة، وتدفع أجرتها مقدماً
وكان كثيراً ما يلجأ إليه المجرمون للاستشارة، فيفتيهم بما يدفع عنهم العقاب أو يجد لهم الوسيلة للخلاص. ولكنه هو نفسه لم يكن مجرماً، وإن أعتمد في رزقه عليهم وعلى مؤلفات صغيرة يضعها عن المجرمين والإجرام
كان أكثر زواره من طبقة الحدادين والنشالين واللصوص المبتدئين وخدم المنازل. وكانوا يطلقون عليه لقب (العلامة لتفننه في ضروب الحيل) وكان يقول لهم إنه قضى الشطر الأول من شبابه طالباً في جامعة اوكسفورد، وإن له أصدقاء من بين الوزراء واللوردات. وكانوا يجدون أمامه كل ما زاروه أكداساً من الكتب، ومجاميع من صور العظماء. وكانت بنته فيوليت ذهبية الشعر جميلة العينين رشيقة القد. وهي تقوم في المنزل بكل أنواع الخدمة، من الطبخ إلى الكنس إلى مشترى الحاجات من السوق. وكانت زكية نشيطة، وقد بدأ أبوها يحد من حريتها ويراقبها مراقبة شديدة لما بلغت عامها الرابع عشر. وذلك لأنه لاحظ أن بعض زواره كانوا يغمزونها بألاحاظهم، وظن أنها كانت تنتهز فرصة يكون فيها غافلاً فتبسم لاحدهم. وقد لاحظ مرة أو مرتين أنها تركته في أثناء حديث له معتذرة بعذر من الأعذار. ولكن اتضح أن العذر مكذوب، وأنها خرجت لتحادث أحد الشبان على السلم وكان في مثل هذه الحالة يغضب ويحتد ويطرد زائرهُ ويأمره بعدم العودة، ثم يستدعي فيوليت فيأمرها بملازمة حجرتها
وفي يوم من الأيام استأذنته فيوليت في الذهاب إلى السينما مع أحد أصحابها فقال: (كلا لا تذهبي) قالت: (حتى ولا مع سواني جيمز؟). فقال: (لا تذهبي مع أي إنسان)
قالت وقد بدا عليها ما يبدو على سائر الفتيات في حالة العناد: (ولكنني أريد أن أذهب فلماذا تمنعني؟) فقال: (لأني آمرك بعدم الذهاب)
فهزت رأسها الجميل الشعر وقالت: (هب أنني ذهبت بالرغم من منعك؟). فقال: (إذن أضربك عند عودتك)
قالت: (وهب أنني لا أعود إلى المنزل؟). ثم اغرورقت عيناها الجميلتان بالدموع وقالت: (هب أنني ألقيت بنفسي تحت الترام أو القطار أو في البحر؟)
فهز العلامة كتفيه وأجابها بجواب خشن. واعتادت أن تسكت عند مثل هذه الحالة وتكف عن مطالبته بالذهاب
ولكن لا يحسب القارئ أن معاملته إياها كانت خشنة على الدوام، فقد كان كثيراً ما يلاطفها خصوصاً إذا شرب وانتشى، ويصفها بأنها عزاؤه وتسليته ويقول لها إن أمها أوصته وهي تموت بأن يعني بها، وإنه لهذا السبب يحرص عليها ويبذل من أجلها كل ما يستطيع، وإنه إذا منعها عن جيمز وأمثاله فإنه يعلم أن أمثال هؤلاء سيجرون إليها المتاعب في المستقبل، وإنه سيجد لها الزوج الكفء في الوقت المناسب لكن كل شيء من هذا قد ذهب وفات أوانه وأصبحت فيوليت في السابعة عشرة فلم يعد يستطيع تهديدها بالضرب ولم تعد تجدي معها النصائح، فإذا ما أراد إرغامها على رأيه هددت بالانتحار فيضطر إلى الإذعان. ولم يعد له من سلاح غير لسانه الذي يلجأ إليه في قليل من الأحيان
وكانت في هذه الحالات تلجأ إلى الدموع
ولما تجاوزت العام السابع عشر وجد أبوها وسيلة جديدة للرزق هي إرسال خطابات يطلب فيها المساعدة من كبار المؤلفين والكتاب وإلى من يقيمون من أنفسهم مقام الرعاية لحملة الأقلام. وكان يقول في خطاباته إن حرفة التأليف كسدت في مدة الحرب وفي العهد الذي تلاها، وإنه يرتزق من قلمه، وإنه لا يملك حتى طابع البريد الذي يرسل به الخطاب، وإنه لذلك يبعث به مع أبنته الوحيدة فيوليت.
ثم يسلم الخطاب إلى ابنته ويأمرها بأن ترتدي أقدم ثيابها وتضع في كفيها قفازين باليين، ويبحث في فهارس الكتب عن أسماء المؤلفين وعناوينهم، ويوصي ابنته بأن تتصنع الكآبة وتزعم أنه ليس في المنزل طعام وبأن تقلل معهم من الكلام بقدر المستطاع
قالت: (وهل أقول ليس في المنزل شراب أيضاً؟) فقال: (إياك أن تذكري اسم الشراب، ولتقفي حتى يسلم إليك الرد)
وفي أول مرة كلفها بذلك ذهبت وعادت فوضعت أمامه عشرة جنيهات فاستخفه الطرب وقال: (كيف أمكنك الحصول على كل هذا؟)
فقالت: (لقد فعلت كما أمرتني، فأبى الرجل أن يعطيني شيءً ولكني بكيت)
قال: (بكيت؟ كيف؟ هل آذاك؟)
فقالت: (كلا)
قال: (ولكن كيف تبكين؟ هل تأثرت من ذهابك بهذه الرسالة؟) فقالت: (كلا يا أبي ولكني وجدت البكاء وسيلة لتنفيذ المهمة التي ذهبت من أجلها)
قال وقد بدت عليه علائم الراحة والاطمئنان: (خبريني يا فيوليت. هل في استطاعتك البكاء كلما أردت؟). فقالت: (نعم. فإن معاملتك إياي منذ الصغر سهلت عليَّ اصطناع البكاء)
فلاطفها وواساها وقال: (تعالي يا ممثلتي العزيزة. إنني أهنئك بمستقبل باهر)
وكان ذلك اليوم بداية عهد جديد ترك فيه العلامة إفتاء المجرمين وترك حرفة التأليف، وعكف على تحرير الخطابات وإرسال ابنته بها ولقد أغنته هذه المهنة فأيسر، ولكنه ما زال عاكفاً على إرسال الخطابات
وفي يوم من الأيام جاءت إليه الخادم بخطاب وقالت: إن الفتاة التي حملت هذا الخطاب تنتظر مقابلته بالباب. فقال: (أسمعيني ما في خطابها) فقرأته، وهو خطاب من مؤلف كسدت سوق بضاعته، وليس في منزله طعام، ويريد مساعدة مالية لا تقل عن عشرة جنيهات
قال ريكاردس: (اطردي التي جاءت بهذا الخطاب).
فقالت الخادم: (أخشى يا سيدي إلاَّ يكون هذا في استطاعتي. إنها تبكي وحالتها مؤثرة جداً، وتقول أنه ليس في منزلها طعام)
قال: (اطرديها. فلماذا يلجأ إليَّ من أرسلها؟ عنده نقابة المؤلفين وعنده الجمعيات الخيرية المختلفة)
فخرجت الخادم وهي تفكر في وحشية سيدها الذي يأمر بطرد فتاة مسكينة لا تجد هي ولا أبوها القوت الضروري. ثم عادت فقالت: إن الفتاة أبت أن تنصرف، وألحت عليه أن يقابلها. فنزل ريكاردس ووجد الفتاة في ثياب سوداء وفي يدها قُفاز كله ثقوب. وبكت أمامه بدموع حارة، وأقسمت بصوت متهدج، أنه ليس في منزلها قوت. فأضطر ريكاردس أمام هذه الدموع إلى إعطائها خمسة جنيهات)
وربما أدرك القارئ أن تلك الفتاة لم تكن سوى فيوليت متنكرة، وقد غيرت صوتها، وأنها تمثل أمام أبيها نفس الدور الذي كان يرسلها لتمثيله أمام الناس
وفي يوم قريب من هذا الحادث طلبت فيوليت إلى أبيها أن يأذن لها بالذهاب مع جيمز للنزهة. فأبى وأصر على إبائه، وأطاعته وقد كظمت غيظها وأصرت على فكرتها
في عصر ذلك اليوم سلم إليها أبوها خطاباً إلى أديب كبير في ضاحية من ضواحي المدينة لأنه كان قد استنفذ أسماء المقيمين فيها، فذهبت لأداء هذه المهمة بعد أن زارت مكتب أبيها وأخذت منه أوراقاً وانقضى اليوم ولم تعد، وانقضى اليوم التالي كذلك، وكاد أبوها أن يجن وأشيع أنها تزوجت من جيمز وأنها تقيم معه في منزل قريب من منزل أبيها
وتفقد مكتبه فوجد كيس نقوده مفقوداً، وكذلك دفتر مذكراته الخاص وبيان طويل بأسماء المؤلفين وعنواناتهم، فكان حزنه على البيان والدفتر أكثر من حزنه على المال المفقود لعلمه أن هذين هما مصدر ثروته. وأدرك أنها ذهبت إلى جيمز لتؤدي له الخدمة التي كانت تؤديها لأبيها فامتلأت نفسه بالأحقاد على هذا المزاحم
وبعد أسبوع واحد تقابل ريكاردس وجيمز في الطريق فأمسك الأول بتلابيب الثاني وطلب إليه أن يرد أبنته أو يسوقه إلى البوليس، لأن فيوليت لم تبلغ العام الحادي والعشرين فلا حق له في الزواج منها إلا بإذن أبيها. وقال إنه إما أن تكون معاشرته إياها سفاحاً معاقباً عليه لعدم بلوغها تلك السن، وإما أن تكون متزوجة بعقد مزور
قال جيمز: (إذن فلنذهب إلي البوليس وأنا مستعد للعقوبة إن كان ثمة عقوبة، ولكني سأقدمك للمحاكمة وعندي الأدلة بخطك من دفتر مذكراتك، ومن بيانك بأسماء المؤلفين. وسأقول إنك تعيش من أموال تحصل عليها بطريق النصب لأنك تطلبها بأسباب غير صحيحة؛ وبنتك تشهد عليك)
لما سمع ريكادس ذلك وجف قلبه وفتر تحمسه وترك خصمه وذهب قانعاً من الغنيمة بالإياب
وفي اليوم التالي نشرت الصحف إعلاناً هذا نصه: (رجل من المشتغلين بالأدب متقدم في السن يريد أن يتبنى فتاة يتيمة في السابعة عشرة من العمر. العنوان: صندوق البريد رقم 7315)
وليس في استطاعتي إلا أن أفهم أن صاحب هذا الإعلان هو ريكاردس وأنه يريد الاستعاضة باليتيمة عن بنته وممثلته فيولت.
عبد اللطيف النشار