مجلة الرسالة/العدد 292/أعلام الأدب
مجلة الرسالة/العدد 292/أعلام الأدب
هوميروس
للأستاذ دريني خشبة
(إلى أستاذي الجليل أحمد حسن الزيات أهدي هذه الفصول)
ألم ينظر هوميروس غير الإلياذة والأوديسة؟
لقد ذكر كالينوس الشاعر اليوناني القديم (660 ق. م) منظومة لهوميروس تدعى لما يعثر عليها إلى عصرنا هذا. ويظن بعض المؤرخين أنها لا تعدو أن تكون الإلياذة في صورة أفخم نظمها للإنشاد في طيبة اليونانية ولذلك أطلق عليها هذا الاسم
وعثروا على آثار للشاعر سيمونيدز (أمورجوس) الذي كان يعيش في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، وردت فيها مقتطفات من هوميروس يُظن أنها من الإلياذة - منها ذلك البيت المشهور: (وكما تَسَّاقط الأوراق (في الخريف) فكذلك تَسَّاقط أرواح البشر)
وبعد ذلك بقرن كامل (556 - 468) رَوى شاعر آخر يدعى: سيمونيدز (من كيوس) بالتواتر عن هوميروس شعراً من ملحمة مفقودة لا تمت بصلة لا إلى الإلياذة ولا إلى الأوديسة
أما بندار (522 - 448 ق. م)، وهو زعيم الشعر الغنائي في اليونان القديمة، فقد كان مشغوفاً بهوميروس وإن لم يمنعه شغفه به من مآخذ أخذها عليه فيما يتعلق بأوديسيوس. . . وقد ذكر لهوميروس ملحمتين طويلتين عن أخيل ما تزالان وا أسفاه مفقودتين إلى اليوم. . . وإذا كانت الأوديسة قد بلغت هذه الغاية من الإبداع في سمو القصص وكثرة الوقائع وهي لبعض أبطال الإلياذة، فما بال هوميروس في ملحمتيه في أخيل وهو بطل أبطال الإلياذة جميعاً؟! أية ثروة أدبية من شعر البطولة قد فقدها العالم!! لقد كان يندار يعجب بهاتين الملحمتين (الإلياذة الصغيرة والأثيوبيون) إعجاباً فائقاً جعله يشدو بهما كما يشدو عصفور الكناريا باللحن الموجع. . .
أما إسخيلوس فقد كان يقول عن مآسيه التي نيفت على الثمانين ولم يصلنا منها ويا للأسف إلا سبع: (إنهن فتات من موائد هوميروس الحافلة!!) والثابت أنه استخدم أبطال الملاح الهومرية في أكثر ما ألف إن لم يكن في كل ما ألف. . . فهل كانت جميع مآسي اسخيلوس عن أبطال الإلياذة والأوديسة فقط؟!
وقد ألف سوفوكليس أربعاً وعشرين ومائة مأساة. . . وكانت ثلاثياته تحوم حول أبطال هوميروس كما كان يفعل إسخيلوس، فهل كانت أبطاله في هذه الأربع والعشرين والمائة المأساة كلها من الإلياذة والأوديسة؟
يقول المؤخرون حين يعرضون لهذا إن كلا من إسخيلوس وسوفوكليس كان يعد كل ما وصل إليه من ملاحم العصر القديم هومريا، ولو لم يكن من نظم هوميروس. . . ومن هذا التراث العظيم استمدا موضوعات مآسيهما. . . بل يقولون إنهما كان يدعوان ذاك العصر كله العصر الهوميري. . . على أنه ليس في هذا الكلام دليل على أن هوميروس لم ينظم غير الإلياذة والأوديسة، وإلا يقل إسخيلوس إن مآسيه فتات من موائده الحافلة، لأن إسخيلوس كان يعني ما يقول أكثر مما يحاول مؤرخو زماننا هذا أن يفهموا من عبارته وجهها الصحيح، وهو ولا شك كان يعني هوميروس نفسه، ولم يعن عصره كله وبعض العصر الذي سبقه وبعض العصر الذي جاء بعده أو ما يسميه المؤرخون العصر الهوميري، أو ما يزعمون أن إجزنوفان (القرن السادس) كان يدعوه كذاك
هذا وقد اعترف تيوسيديدز لهوميروس بالإلياذة وبالأوديسة وبترتيلة أبوللو؛ أما أفلاطون فلم يستشهد بأكثر من نتف من الإلياذة والأوديسة وملحمة فكاهية تدعى (مارجيتس) ضاعت فيما ضاع من تراث الإغريق. . . أما أرسطرخوس الإسكندري العظيم (160 ق. م) فلم يعترف له بأكثر من الإلياذة والأوديسة
وعلى ذكر أفلاطون وأرسطو نروي أن كلا منهما كان يقني نسخة من الإلياذة مختلفة في كثير من فصولها عن النسخة الأخرى، ولم يستطع المؤرخون تعليل ذلك بعد، الهم إلا ما يعزى إلى بِزِسْتراتوس - منظم أشعار هوميروس فيما يقال - من أنه تناول الإلياذة بشيء من التحوير، وأقحم عليها زيادات في تمجيد الأثينيين. . . وهو ما يشك في صحته الأساتذة لانج وموراي وبوروا والعلامة كارل موللر
على أنه ليس بزستراتوس وحده الذي اتهم (بتحشية) الإلياذة والتزوير على هوميروس، بل إن صولون نفسه قد أتهم بمثل ذلك. . . بل اتهمت به كل مدينة يونانية. . . وما حدث للإلياذة من ذاك القبيل هو ما حصل لحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما اختلفت الأحزاب وأراد كل منها أن ينصر مذهبه بأثر من كلام الرسول، فكثر التلفيق وشاع الوضع، ثم نشأ بعد ذلك ما نشأ من مدارس الحديث وشمر الأئمة للتجريد والتضعيف وما إلى ذلك. . فمثل هذا حدث في اليونان القديمة
ولقد ساهمت مدرسة الإسكندرية بأوفى نصيب في درس الإلياذة والأوديسة، وفرغ من تلاميذها الأفذاذ لكلتا الملحمتين عدد عظيم استطاعوا عرفان الزائف من غيره، وكان إمام هذه المدرسة المؤرخ الناقد الكبير أرسطرخوس الذي وضع لنقد الأدب الهوميري قواعده الرائعة
ويحددون عصر البطولة الذي وقعت فيه حوادث الإلياذة ثم حوادث الأوديسة بالقرنين الثاني عشر والثالث عشر، وذلك إن القبائل اليونانية (الأيونيّة والأيوليّة والدوريّة) كانت قد أخذت تنهض فجأة وتناضل في سبيل مجدها وتناوئ الحثيين والمصريين على السواء، وكان لابد لها قبل كل شيء من أن تقهر طروادة المحصنة القوية الرابضة على ضفة الهلسبنت (الدردنيل) الشرقية. . . وبعد أن وضعت الحرب أوزارها. . . وبعد أربعة قرون أو نحوها، جاء هوميروس ليروي وقائع هذه الحرب في منظومته الخالدة، أو وقائع السنة الأخيرة من السنوات العشر من حصار طروادة - أو اليوم - كما كان يدعوها غالباً.
فالإلياذة من هذه الوجهة قصيدة حربية حافلة بأنباء المعارك، تكاد تسمع صليل القتال وأنت تتلوها، وتكاد تشرف منها على ميدان صاخبٍ ثائر النقع، شديد الروع، فائر بالدماء. . . وإذا كنت من رجال الحرب سرتك الخطط المرسومة والخُدَع المحبوكة، وراعتك هذه الفيالق المجيّشة تأخذ أماكنها ثم تتحرك كالموج، ثم ترتد قطعة بعد قطعة وهي في حالتي الكر والفر كالرجل الواحد، أو كالبنيان المرصوص. . . والإلياذة من هذه الوجهة أيضاً تصور لك حياة الجند في الثكنات أبرع تصوير وأروعه، كما تصور وأروعه، كما تصور لك حياة البحارة والرياضيين والرعاة ورجال الجبال. . . لكنها لا تبلغ من ذلك ما بلغه هسيود في ملاحمه، وذلك ما نرجئه لفصل آخر
الإلياذة وصف قوي لهذه المجازر التي نشبت بين جيل من الناس. يسكن في طروادة، وبين جيل مختلف عن جيل طروادة. . . لأنه جيل من أنسال الآلهة، وذراري أرباب الأولمب، فيما تزعم أساطير اليونان. . . جيل توالد من تزاوج عجيب بين هذه الأرباب الأولمبية وبين إنسيات فاتنات من بنات حواء. . . فليس أخيل العظيم ولا أوديسيوس ولا أجاممنون ولا منالايوس ولا ديوديميد ولا نسطور ولاأجاكس ولا أبطال أخايا جميعاً أشباهاً لهكتور ولا باريس ولا أبيهما بريام ولا لأبناء طروادة، لأن الأولين أبناء آلهة والآخرين أبناء بشر مثلنا
شخصيات عجيبة جداً تلك الشخصيات التي أخترعها هوميروس فهو لم يكتف بأن صنع للإغريق لا هوتا يعج بكل زوج من الآلهة بل زاح يزاوج بين تلك الآلهة وبين الناس ثم ينسل أولئك الأبطال العظام الذين دوخوا طروادة، وأرووا سوحها بالعزيز الغالي من دماء أبنائها
فالسيدة هيلين، التي بسببها نشبت الحرب، هي ابنة زيوس كبير الآلهة من ليدا التي أحبها الإله الأعظم في غفلة من زوجة هيرا.
وأخيل - بطل الإلياذة - هو ابن بليوس ملك فتيا - لكن أمه عروس الماء الحسناء المفتان ذيتيس - التي استطاعت أن تزلزل قلب الإله الأكبر - زيوس - بجمالها الساحر، وأن تجعله، وهو سيد أولمب، بعض عبادها، كما استطاعت كذلك أن تسحر قلوب الآلهة الذين أهرعوا من كل مكان ليشاركوا في زفافها ويشربوا النخب في أكواب مما أهدى إليها الصب المدنف، إله الخمر، باخوس!
وأوديسيوس - بطل الأوديسة، وثاني أبطال الإلياذة، وصاحب فكرة الحصان الخشبي - يتصل بزيوس من أمه مايا - وكذلك ابنه تليماك
أما أجاكس، وهو من أبرز فرسان الإلياذة وأشدهم بأساً، فهو من حفدَة دردانوس
وأجاممنون، وأخوه منالوس، هماولدا أتريوس حفيد تنتالوس، ذلك الملك القاسي المتحجر القلب الذي حاول مرة أن يطعم الآلهة من شواء صنعه لهم من بدن ابنه. فكان جزاؤه النفي إلى ظلمات هيدز حيث قاسى الظمأ الممض وهو غريق في نهر من الماء العذب لا يصل إليه فوه، وإن بينه وبين الماء لشبراً واحداً
وجميع الأبطال الآخرين هم حفدة الآلهة، وأبناء السماء كما دعاهم هوميروس (الإلياذة ج 2 سطر 513) على أن أبطال طروادة يمتون هم أيضاً بوشائج النسب إلى بعض الآلهة. فبريام وأبناؤه التسعة (هكتور وباريس. . . الخ) ينحدرون من أسلاف أجاكس (دردانوس)
وفي كثير من كتب الإلياذة مفاخرات عجيبة بالأنساب بين أبطال اليونان وأبطال طروادة، إذا يرد الطرفان أصولهما إلى الآلهة (اقرأ المفاخرة الجميلة بين أخيل وبين إيناس - إلياذة - الكتاب العشرون)
بيد أن أبطال اليونان في الإلياذة يبدون أكثر اقتراباً إلى الآلهة وأشد اتصالاً بهم مما تبدو العناصر المكونة لجيش طروادة
وكذلك الحال بين آلهة الأولمب، فأكثرهم يعطفون على اليونانيين ويناضلون عنهم، ويُسْدون لهم أحسن الجميل فيما تقتضيه معاركهم من تيسير وترشيد
أما طروادة، فيعطف عليها أبوللو، وتنحاز إلى صفوفها فينوس. . . أليس باريس قد قضى بالتفاحة لها من دون هيرا وميزفا؟
لذلك تكاد تكون حرب الإلياذة قائمة بين قبيلتين متفاوتين في الطبائع، فأحدهما أقرب إلى الآلهة منه إلى الناس، والآخر أقرب إلى الناس منه إلى الآلهة، وفي ذلك ما فيه من ميل هوميروس الذي يبدو هواه مع اليونانيين في الإلياذة التي نملكها، والتي هي من تمحيص اليونانيين من أهل أثينا والإسكندرية
على أن هذا الميل لم يكن حاداً أو مبالغاً فيه كما هي الحال في القصص الشرقي الذي خلفته لنا عصور البطولة ومن نحو قصة عنترة أو أبي زيد أو سيف بن ذي يزن، فالغالب في هذه القصص أن يطبع الراوي سامعيه بطابع خاص، فيجعل هواهم في جهة واحدة بحيث يطربون أبلغ الطرب وأشده إذا جال عنترة جولة فأطاح برؤوس مائة أو مائتين أو ألف أو ألفين. أو إذا انهزم الزناتي أمام أبي زيد. . . لا. . . لم يفعل هوميروس كما فعل هؤلاء، فهو بالرغم مما جعل لأبطال الإغريق من شرف النسب وكرم الحسب، وبالرغم مما أنهى به الإلياذة من فتح طروادة وإشعال النيران فيها وقتل أبطالها البارزين إلا أنه قد خصهم بنوع عجيب من البطولة يرفعهم درجات فوق الأبطال الإغريق. وذلك أنه جعلهم أناساً، وجردهم في المعمعة من هذه الحضانة الربانية التي خلعها على أخيل وغير أخيل، ومع ذلك فقد صبروا وصابروا ولقوا جموع اليونانيين بمثل الشجاعة التي لقيهم اليونانيين بها، فلم يجبنوا، ولم يهنوا، ولم يتخاذلوا عند اشتداد اللقاء، وكانوا يَقتلون ويُقتلون، وكانت الكرة تكون لهم مرة ولخصومهم مرة. . . وكانت لهم مواقف عجيبة مشرفة تنتزع من القارئ استحسانه أو رثاءه. . . وقد استطاع هوميروس أن يستدر دموع سامعيه وهو يصور وداع هكتور لزوجه وولده، وفزع هذا الولد العجيب وأبوه يتناوله من يديه أمه ليقبله القبلة الأخيرة التي لم يره بعدها، لأنه ذهب ليصاول أخيلا فيقتله أخيل بمساعدة الآلهة. . . لا لأنه أقوى منه وأشد مراساً. . .
لقد استطاع هوميروس أن يستدر دموعنا وهو يصور لقاء أخيل لبريام المحزون وقد ذهب - وهو ملك طروادة - يرجو بطل الإغريق وزعيم الميرميدون في أن يدع له جثة ولده هكتور، وأن يخلي بينه وبينها، فما كان من أخيل إلا أن أصاخ ودموعه تنزف، فترك الجثة، جثة هكتور الذي قتل بتروكلوس حبيب أخيل، ووكيله على جنده وأعز الناس إلى نفسه، والذي بكيناه أحر البكاء حينما قتل، وحينما انتزعت أسلابه، وحينما جيء به إلى معسكر أخيل معفراً بتراب المعمعة، وحينما سهدت عليه العيون، وسهرت عليه حبيبة أخيل
وهكذا يرتفع هوميروس بأبطاله في الناحيتين، ويوزع إعجاب القارئ على المعسكرين، مما سنبينه في العدد القادم
دريني خشبة