مجلة الرسالة/العدد 292/صحائف من تاريخنا القومي

مجلة الرسالة/العدد 292/صحائف من تاريخنا القومي

مجلة الرسالة - العدد 292
صحائف من تاريخنا القومي
ملاحظات: بتاريخ: 06 - 02 - 1939



قاسم أمين - الرجل

للأستاذ أحمد خاكي

اشتهر قاسم أمين بدفاعه عن المرأة لأن ذلك كان أوضح ما كتب عنه، لكنه عندنا من أكبر المصلحين المصريين الذين ظهروا في أوائل هذا القرن. وليس دفاعه عن المرأة إلا شعبة من آرائه في الحرية والتربية واللغة وسائر وجهات الإصلاح.

ولو أنك تصفحت كلماته قبل أن تقرأ كتابيه في (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة) للمحت عقلية جديدة نفذت وراء الحجب التي تكاتفت على عقول المصريين خلال قرون طويلة، ورأيت كيف تستطيع النفس الحساسة أن تندسّ إلى ما وراء الحجب فتلقي الحقيقة سافرة غير مقنعة، ثم لشاقك من حياة هذا الرجل أنه كان شجاعاً، ولاتخذت من حياته مثلاً أعلى للتفاني دفاعاً عن الفكرة

ظهر في أعقاب القرن الماضي قليل من أمثال قاسم أمين، لكنهم لم يلقوا ما لقي هو من العنت والسخرية والاستهزاء. كان يعيش أكثر إضرابه في أجوائهم، لكن قاسماً كان يعيش في جو خاص به هو ونفسه. وذلك ما استعدى عليه المتعصبين من أصحاب الدين وأنصاف المتعلمين من أصحاب العلم؛ وقليل أولئك الذين قدروا تلك النفس الحساسة التي تؤمن بالحرية إيمانهم بنعيم الحياة. وكثير أحسوا بما كانت ترسف فيه المرأة المصرية من أغلال، لكن أحداً من هؤلاء لم يؤتَ من شجاعة النفس ما استطاع أن يصمد به للمهاترين والمغالين ممن أعمتهم التقاليد على أنه ليس يعنينا اليوم في حديثنا عنه وجوه الإصلاح التي فيه إليها وتحدث فيها وإنما يعنينا أن نرى قاسم أمين الرجل وأن نتعمق في درس تلك النفس الزكية التي أوتيت كثيراً أمن الغضب الكريم. وأشهد لقد هممت بالكتابة عن النقاش الذي دار بينه وبين الدوق داركور، لكنما رأيت أن الكلام في ذلك سوف يصبح ناقصاً لا غناء فيه ما لم أتحدث عن قاسم أمين (الرجل) لأن قاسم أمين (الرجل) هو الذي غضب للقومية المصرية، وهو الذي غضب. للإسلام والمسلمين؛ وهو بعد ذلك الذي دافع عن مصر والإسلام بحرارة المجاهد الرشيد

وأول ما يمتاز به قاسم أمين (الرجل) نفس محسّة تجيش بمختلف العواطف، فهو قد أ الكمال من الحس الدقيق والشعور المرهف، وهو من أول المصريين الذين اعترفوا بأن النفس جماع لمختلف العواطف والمشاعر والوجدانات إلى غير ذلك مما يتصل بالدراسات النفسية الحديثة. ولعله أحد المصلحين القلائل الذين اهتدوا إلى تلك النتائج قبل أن يتعمق الناس في دراسة علم النفس. فهو يعترف بأن الإنسان مجموعة من الأعصاب تتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، وأن القلب الذي يكنّ البغض هو نفسه الذي يكنّ الحب، وأن النفس الشريرة تنمو - إذا نمت - لأنها تصادف جواً صالحاً يؤثر فيها

وقد كان شديداً على البيئة التي نشأ فيها قاسم أمين تؤمن بما جاء به، كان شديداً عليها أن تعنو للنتائج القيمة التي وصل إليها لأنها كانت بيئة نصف متعلمة ونصف متدينة في وقت معاً، أما العلم الذي تشبثت به فقد كان خليطاً من القشور والخطل، وأما وجهتها الدينية فقد كانت ملتوية تمتاز بالنفاق والجدل. لذلك لم يعترف أنصاف المتعلمين بالغرائز التي تندفع في نفس الإنسان، ولم يحاول أنصاف المتعلمين أن يتبصروا فيما انحدر إليهم من أصول القرآن والسنة. ولو أن أولئك وهؤلاء قد اجتمعوا على أن يذوقوا ما ذهبت إليه تلك النفس الحاسة لرأوا رأياً آخر غير الذي بسطوا فيه أقلامهم وألسنتهم عن جهالة

على أن تلك النفس الحساسة التي اعترفت بالخير والشر جميعاً هي النفس التي أعانت صاحبها على أن يستوعب الآثار الدقيقة التي مارسها في حياته. هو قد اعترفت بالغرائز الدنيا وقد اعترفت بالعواطف العليا، وهو قد رأى الشر إلى جانب الخير، فكان في كل ذلك يمثل المعلم المتبصر الرشيد، ولن يكون الزعيم ولا المعلم حتى ولا القاضي أهلاً لما يرجى منه حتى يرى النفس الإنسانية من ناحيتها وحتى يقدر الشر والخير والرذيلة والفضيلة، وحتى يعترف بالشر والرذيلة ويتفحص هذه وذلك ليترسم السبيل السوية نحو الخير والفضيلة وكل ما ينطويان عليه من معان

تلك النظرة الدراسة هي التي أقامت عند قاسم أمين كل المعايير التي حاول أن يطبقها على المجتمع المصري، ولأنه كان يؤمن بأن النفس جماع العواطف والوجدانات فقد قال: (إن الفضيلة والرذيلة يتنازعان السلطة على نفس الإنسان في جميع أدوار حياته. فتارة يخضع للأولى وتارة تتغلب عليه الثانية، ولا يوجد رجل مهما بلغ في التربية والعلم يكون آمناً من السقوط يوماً في الرذيلة، كما لا يوجد رجل مهما أحاطت به الرذيلة إلا وفيه استعداد لأن يأتي يوماً بأفضل الأعمال

(وحقيقة الأمر أن أخلاق الإنسان ليست شيئاً يتم دفعة واحدة، وليس لها حد تقف عنده، إنما هي في تحليل وتركيب، في تكوين مستمر يعتريها الانحلال زمناً وتعود بعده إلى التماسك) بل هو قد استطاع أن يقيم معياراً صحيحاً يقيس به رغبات الرجال ونزعاتهم. ولسنا ندرى هل كان يتنبأ بكشوف علم النفس الحديث حين قال: (إن الإنسان أسير الشهوات ما دام حياً. وإنما تختلف شهواته باختلاف سنة: فشهوة اللعب عند الطفل، وشهوة الحب عند الشاب، وشهوة الطمع عند رجل الأربعين. وشهوة السلطة عند شيخ الستين، جميعها شهوات تعرض صاحبها للهفوات واقتراف الخطايا)

وقد كان قاضياً، على أنه كان ينظر إلى نفس المجرم نظرة دارسة أخرى. كان يرى أن المجرم مسير أكثر مما يكون مخيراً، وأنه (لابد أن تكون الغاية النهائية للتربية الأدبية هي العفو عن الخطيئة - العفو عن أكبر خطيئة، العفو عن كل خطيئة)

(هل المخطئ مسئول أو غير مسئول؟ وما هي درجة مسئوليته؟ مسألة عظيمة يجب على من يريد الحكم على غيره أن يحلها. لكن حلها يكاد يكون محالاً، إذ لا يستطيع أحد أن يلم بجميع العوامل التي تتركب منها الذات الإنسانية بوجهيها الأدبي والمادي، والقليل الذي يعلمه من ذلك يبين أن سلطة الإرادة على النفس محدودة وخاضعة لمؤثرات كثيرة شديدة تنازعها وتقارعها وتضعف قوتها على نسبة مجهولة ومقدار لا يصل إلى تقديره عقلنا. وكل تاريخ الإنسان في الماضي يدل على أنه لم يكن متولداً عن الحيوان المفترس مباشرة، فهو مشابه له في شره وأطماعه وشهواته. خلق عليل النفس كما هو مريض الجسم. خلق على أن تكون صحته الجسمية والعقلية صدفة سعيدة وعارضاً مؤقتاً)

(فالخطيئة هي الشيء المعتاد الذي لا محل للاستغراب منه. تركه آدم وحواء لأولادهما التعساء من يوم أن اقتربا من الشجرة المحرومة. . . من ذلك اليوم البعيد لوثت الخطيئة طبيعتهما، وانتقلت منهما إلى ذريتها جيلاً بعد جيل. وذلك هو الحمل الثقيل الذي تئن تحته أرواحنا الملتهبة شوقاً إلى الفضيلة. . .)

(وأخيراً، فإن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح المذنب، فقلما توجد طبيعة مهما كانت يابسة لا يمكن أن تلين إذا هي عولجت) وإذا أنت نثرت بين يديك كل ما قيل عن تنازع الغرائز، وإذا أنت نشدت فكرة تأخذ بجماع الغرض الأسمى للتربية، لم تجد تصويراً أدق مما ترسّمه قاسم أمين في تلك الكلمات. كل كلمة تنضح من ينبوع من الحكمة والحق والحب، وكل فقرة تجبهك بحقيقة من الحقائق التي يعيها رجال التربية ويعلمون مداها في تربية العقل والوجدان في العصر الحاضر. وإنما النفس الحساسة التي تفيض رحمة وحناناً هي التي شعرت بكل ذلك. وقاسم أمين القاضي هو الذي آمن ذلك الأيمان. أليس القاضي هو الذي يستطيع أن يبلغ بإحساسه إلى مستسرّ النفس ويتعمق بشعوره إلى أطوائها؟ إلا أنه كان قاضياً فذاً ذلك الذي استطاع أن يوفق بين العدل وبين العفو. فهو يشعر بنواحي الضعف البشري كما يشعر بها شاعر مثل شكسبير ثم لا يمنعه ذلك من أن تجري أحكامه بقسطاس مستقيم

قاسم أمين المربي وقاسم أمين القاضي هو الذي شعر بكل ذلك؛ لكن قاسم أمين المتفنن الأديب هو الذي استطاع أن يؤلف بين العفو وبين العدل وأن يداول بين المثل الأعلى وبين الفطرة الدنيا. والمتفنون في العالم هم أولئك الذين ألفوا بين المتناقضات وجمعوا الأبيض والأسود في صعيد واحد يفرقون بين هذا وذاك بما يوحي إليهم من الحكمة وبما يُلهمون من شعر أو حديث أو تصوير. ولولا أن المتفننين القدامى والمحدثين قد اعترفوا بالرذيلة والخطيئة والشر لما ورث العالم ذلك الفن الذي رفّه على الإنسان حياته. وقد أوتي قاسم أمين نفس المتفنن الأديب وهي التي ألهمته أن يرد حياة المجتمع في عصره إلى عناصرها الأولى فاستطاع أن يفرق بين الحق والباطل واستطاع أن يدافع عن الأصول التي اهتدى إليها حرارة الأدباء والمتفننين

ولسنا ندري: أإذا أتيح لقاسم أمين أن يكتب في الأدب التمثيلي أكان يكتب من المسرحيات ما يشاكل تلك النفس الفنانة التي ترددت بين جنبيه؟ لكن قاسماً كان فيما يكتب يستروح نفحة نقية من الأدب، ويتهدّي بشعور عميق من الفن. إلا أنه لأمر ما لم يتجه إلى الأدب المسرحي، أو أقل إنه أوتي الكثير من عدة. الفن لكنه لم يتهيأ لإنتاج الفن نفسه. وإنما قوام الفن تلك الحساسية البريئة التي تستطيع أن تشفق على المجرم وأن ترى الغرائز الدنيا مصطخبة مع الأفكار العليا. أنها نفس حساسة تلك التي تستجيب لكل الآثار التي تلقاها، وهي هي نفس المتفنن الأديب. وأي الرجال كان شكسبير، وأي الرجال أبسن أو برناردشو إذا هم لم يمتازوا بتلك النفس الحساسة التي تستجيب لكل الدواعي؟ وعندنا أن قاسم أمين كان أحد الذين انفعلوا لأثار البيئة التي عاشوا فيها، ثم أعطوا بعد ذلك أضعاف ما أخذوا. وهو يشبه في ذلك جمهرة الروائيين الذين صوروا الحياة كما كانت وكما ينبغي أن تكون. ولو أنه أوتي حظا من التأليف الروائي لخرجت من بين يديه مسرحيات تطاول ما ألفه الآخرون. وحسبه أن كلماته التي لم تبلغ الستين صفحة لم تزل معرضاً لنواح كثيرة من حياة الجيل السالف: معرضاً احسن تصويره أي إحسان. ولعلنا نطيل كثيراً إذا حاولنا أن نتأثر ما صوره قاسم أمين من حياتنا المصرية، فهو في مرة يصف حياة خمس من الشيوخ أحيل إلى المعاش وقضوا أوقات فراغهم في لعبة الطاولة وفي مناقشات بريئة صاخبة عن السن. قضي الموت على أربعة منهم (وبقي خامسهم منفردا كئيبا لا يتكلم ولا يخرج من بيته لا يدري ماذا يصنع بحياته ويراقب الموت الذي يخلصه منها.) وهو يكتب في مرة عن متطفل اقتحم بيت أحد أصدقائه وفيه قوما يسمرون فأفسد سمرهم. وهو في كل ما يصف شاعر بالجدل الذي يملك نفس الروائي، وهو يقول في ذلك: (يقصد الناس التياترات لرؤية الحوادث الغريبة، وسماع القصص المضحكة أو المبكية. والعاقل يكتفي بما يراه حوله ويسمعه، يتفرج مجانا على وقائع لم تبلغها مخيلة المؤلفين، ولا مهارة الممثلين).

وشيء آخر شارك قاسم أمين فيه أهل الفن والأدب، ذلك هو الشعور بالجمل. فلقد كان خياله سخيا لدنا، اتسع لألوان كثيرة من الجمال. وقد حاول أن يسبقه على غرائز الفطرة الأولى التي اعترف بها. فهو إذا اعترف بأن الإنسان يولد شريرا فقد ذهب إلى أن الغريزة قد يستعلي بها إلى المكان الأسمى. وهو في ذلك يختلف عن كل معاصره الذين ثاروا به. ولأن هؤلاء لم يدركوا ذلك الإحساس الأول من أسس التربية والإصلاح فقد ضل قاسم أمين عرضة لسوء الضن، وضلت كلماته غرضا لسوء التأويل؛ وهو قد كان يؤمن بأن (اعظم ما يصاب به المرء أن يحرم من الذوق السليم) وبأن (الذوق السليم هو الإحساس الفطري الذي ينمو ويتهذب بالتربية. وهو الشعاع اللطيف الذي يهدي صاحبه إلى أن يقول ويفعل ما يناسب المقام)

وكأنما قد ألهمت تلك النفس الحساسة حب الجمال إلهاماً، وكأنما تشرفت على ما تندفع به نفس الإنسان من عواطف نبيلة، كما اطلعت على ما يتدفق في أغوارها من غرائز وشهوات. والحق أن باحثاً يدرك الشر لا بد أن يرى ناحية الخير ناصعة بريئة. وقد داول هو البحث بين الخير والشر فأقام حدوداً جمالية نرى أن مصر لم تأخذ بالكثير منها. فهو قد كان يرى أن أكبر الأسباب في انحطاط الأمة المصرية تأخرها في الفنون الجميلة: التمثيل والتصوير والموسيقى، وأن هذه الفنون ترمي جميعها على اختلاف موضوعها إلى غاية واحدة هي تربية النفس على حب الجمال والكمال، فإهمالها هو نقص في تهذيب الحواس والشعور وهو يقص عليك القصة التالية لتدرك تقديره للجمال، ولترى في أي بيئة كان عايش: (دخلنا قصر اللوفر، وكنا أربعة من المصريين لنمتع النظر لأبدع ما جادت به قرائح أعاظم الرجال في العالم، فبعد أن تجولنا في غرفتين جلس أحدنا على أحد الكراسي قائلا: أنا اكتفيت بما رأيت وهاأنا منتظركم هنا. وقال الثاني: اتبعكما لأني احب المشي واعتبر هذه الزيارة رياضة لجسمي، وسار معنا شاخصاً أمامه لا يلتفت إلى اليمين ولا إلى اليسار، وما زال كذلك حتى وصلنا قاعة المصاغ والحلي. وحينئذ تنبهت حواسه وصار ينظر إلى الذهب ثم صاح: هذا ألطف ما في الدار. وصلنا إلى تمثال إلهه الجمال الفريدة في العالم أجمع، فسألت دليلنا ماذا تساوي هذه الصورة إذا عرضت للبيع؟ فقال إنها تساوي ثروة أغنى رجل في العالم. تساوي كل ما يملكه الإنسان. تساوي ما يقدر لها حائزها ويطلبه ثمناً لها، إذ لأحد لقيمتها)

وأنت تستطيع أن تقدر المرارة التي تخبث النفس الزكية حين تهتز لقطة من التصوير والنحت؛ تحس بهذه المرارة إذا ابتلاك القدر بأن تسير وشخصاً تجافى نفسه كل نوع من أنواع الجمال، فلا يرى من جمال الشعر إلا البيت المتهتك السخيف، ولا من جمال الموسيقى إلا النغم الصاخب المنفر. ولعلك تحس بالمرارة التي كان يشعر بها قاسم أمين إذ كان يساير رجلاً استغلقت عليه آيات الفن الخالدة غير بعض حلى من الذهب والفضة لأن لها بريقاً يلمع! حقاً إن قاسماً كما أسلفنا القول كان يعيش في جو خاص لا يشاركه فيه إلا القليل

احمد خاكي