مجلة الرسالة/العدد 292/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 292/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 02 - 1939



أقلام الناشئين

للأستاذ فليكس فارس

أمامي كتابان نشرهما الشيخ أحمد جمعة الشرباصي، الأول بعنوان (حركة الكشف) صدر منذ سنتين، والثاني بعنوان (محاولة) صدر في هذا الشهر

ولقد رأيت في هذين الكتابين من روعة الإنشاء ودقة الشعور والنضوج المبتسر ما أهاب بي إلى إرسال كلمة فيهما

إن المؤلف يرمي في كتابه الأول إلى إظهار ما في نظام الكشافة من محاسن وفوائد، داعياً إلى تكوين فرق تعمل بهذا النظام من الشبيبة المنتسبة إلى المعاهد الأزهرية، مستنداً في دعوته هذه إلى أن تقويه الناشئة، وتعويدها الصلابة والطاعة وتدريبها على توحيد الحركة والسير نحو هدف واحد في غاياتها الأخلاقية، إنما هي جميعاً من قواعد الإسلام الأساسية. فلا يمكن أن يعد تكوين هذه الفرق في المعاهد الدينية بدعة أو اقتباساً لطريقة تخالف العقيدة، أو تشذ عن التقاليد الموروثة عن السلف الصالح

ومما تجدر الإشارة إليه أن كتاب (حركة الكشف) صدر سنة 1936 حين كان المؤلف في السابعة عشرة من عمره، وقد وقفت فيه متعجباً بل مندهشاً أمام هذا التسلسل في تدوين تاريخ الكشف وتطور أساليبه وأمام هذا المنطق الرصين يقدر الحوادث ويزن أعمال الرجال ويتغلغل في التاريخ ليثبت فضل العرب المهتدين بنور الوحي على نهضة الغرب في تفكيره وتنظيمه

أما في الكتاب الثاني فالمؤلف يذهب في محاولته ذهاب من رسخت عقيدته متعالية عن تردد المحاولين، فيأتي بسلسلة مقالات أولها عن الصديق الصدوق يجيء فيها على وصف إخلاص أبي بكر الصديق للرسول الكريم سارداً ما حدث للأول مع عمر فيرسم أروع صورة شهدها التاريخ للوفاء والإقرار بالخطأ وإنصاف سيد المنصفين. ثم يدبج مقالاً بعنوان (محمد عبدة، النابغة الذي عاش في وطنه غريباً) فتقع بصيرة القارئ في هذا الفصل على الصورة الخالدة التي ستحل للأمام الكبير في روع الجيل الآتي بعدنا فترى هذا الجيل أشد إنصافاً منا نحن أبناء حقبة الانتقال وأوسع إدراكاً لعظمة أبطال النهضة وأعمق تأثراً مما لاقوا في زمانهم من أذية واضطهاد

ويكتب الأزهري الناشئ قطعة (أمام المحراب) بشعر منثور فإذا هي صرخة نفس تتجه إلى خالقها بإيمان يختلج له القلب ويتنبأ لرجال اليوم بتفوق رجال الغد عليهم في إدراك عظمة العبادة ومبادئ الدين الحق

وتقرأ بعد هذه الصلاة مقالاً بعنوان (نزعة الإجرام) يقف فيه الفتى المعمم - وهو لما يبلغ العشرين من سنيه - وقفة الشيخ الحكيم ينفذ بنظراته إلى ما وراء القانون المدني من وازع في الشرع والأخلاق يجتث الإجرام من أصوله

وهكذا يسير الفتى الناضج فيكلمك عن غدر الصديق وعن أيام قضاها في رأس البر يرجع منها يعبر عن الصيانة ومكارم الأخلاق وعن أمل المحبين في مناجاة للقمر، كلها وصف دقيق وشعور رقيق، وعن إصلاح الصحافة فيعرض لها في منازعها وأحزابها وفي قوتها وضعفها. ويصور لك الفراش الدائر بالمصباح وخيانة ابنة ساطرون لأبيها في سبيل عشقها لعدوه كسرى سابور بقصة من أروع وقائع التاريخ، ثم يورد أسطورة الأميرة ليستغل منها عبرة التعاون بين الناس، وينشدك بعد ذلك قصيدة عامرة يهيب فيها بالشباب للدفاع عن الوطن ثم يرسل نجواه إلى لليل فيريك كيف يتجلى النضوج في روح الشباب إذ هو اتخذ الدجنة مركضاً للتفكير لا ستراً للمعاصي وارتكاب الموبقات، ويوجه بعد ذلك خطاباً للمرشدات تدلك على احترام فتى مصر لفتاته ورفعه لمقامها إلى حيث أراد الشارع الأعظم، ثم يعطف على زهرة القبور يناجيها فتى شاعراً وشيخاً مؤمناً، فلا تدري أيسمعك هذا الهاتف قصيدة أم ابتهالاً. ولا يفوت الشيخ الفتى أن يعقد فصلاً عن شهر الصيام يتجلى فيه الزهد والعزم قوة واحدة تجاه الحياة

وأخيراً يعرض عليك قصة عربية عن الحب اتخذ الأندلس مسرحاً لها ليعرض للحب الأسمى وللشهوة الدنيئة بتحليل رائع، ويتبع هذه القصة بأخرى عن سرعة الخاطر عند العرب وبأسطورة عن السعادة ويختم الكتاب برواية مسرحية للأطفال.

إن العبقرية العربية تنتبه في هذا الجيل الذي يتقدم ليحل محلنا على الذروة نحن النازلين منها إلى الأغوار.

لقد ولدت أقلامنا أقلاماً خيراً منها، وما كان بيننا من يكتب بين الخامسة عشرة والعشرين ما تكتبه الناشئة في نضوجها المبتسر في هذه الأيام. فليعطف شيوخ الدب على هؤلاء الأحفاد. إن أقلامنا ستبعث في أقلامهم، وصوتنا سيدوي في أصواتهم حين تتحطم أقلامنا ويخرس الموت أصواتنا.

فليكس فارس