مجلة الرسالة/العدد 293/ابن الرومي

مجلة الرسالة/العدد 293/ابن الرومي

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 02 - 1939



الشاعر المصور

للأستاذ عبد الرحمن شكري

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

وترى ابن الرومي بالرغم من إطالته في المدح وإكثاره فيه يذم هذه الخطة فيقول:

وإذا أمرءٌ مدح امرأً لنواله ... وأطال فيه فقد أراد هجاءه

ويقول للممدوح:

فإن الله أعلى منك جِدّاً ... ويرضيه من الحمد اليسيرُ

على أن له بالرغم من كل ذلك مقدرة كبيرة على توليد معاني المدح كما في الأبيات التي يقول فيها:

والناس تحت سماء منك مُشْمِسةٍ ... والناس تحت سماء منك مدرار

فيتتبع هذه المعاني الشائعة ويولد منها معاني أخرى، وله الأبيات التي يقول فيها:

هب الروض لا يثنى على الغيث نشره ... أمنظرة يُخْفي مآثره الحُسْنى

والتي يقول فيها:

له هيبة لم يكتسبها بكلفة ... إذا اكتسبت ذاك الوجوهُ العوابس

والتي يقول فيها:

آراؤكم ووجوهُكم وسيوفُكم ... في الحادثات إذا دَجوْنَ نجوم

والتي يقول فيها:

خِرْقٌ تَعَرَّضَتِ الدنيا له فصبا ... إلى المكارم منها لا إلى الفتن

له حريم إذا ما الجار حل به ... أضحى الزمان عليه جد مؤتمن

كأنه جنة الفردوس قد أمنت ... فيها النفوس من الروعات والحَزَنِ

ولكن أهاجيه بالرغم من ذلك أبرع وأشد أثراً، وهو فيها أكثر ابتداعاً للمعاني والخيالات، وأحياناً يسوق فيها الأخيلة الفكاهية مترادفة ويولد الذم من الذم والهجاء من الهجاء وينتشي بالهجاء ويعربد كل عربدة ويطلق لنفسه العنان كراكب الجواد الذي يطلق العنان لجواده يعدو ما شاء العدو. ومن شعره المشهور في الهجاء قوله:

ولو يستطيع لتقتيرِهِ ... تَنفّس من منخر واحد

وقوله:

إن للجد كيمياء إذا ما ... مسَّ كلباً أَحالهُ إنسانا

وقوله:

فلو لم تكن في صُلبِ آدم نطفة ... لخر له إبليس أول ساجد

وقوله:

لو كنتمُ صحتي وعافيتي ... فررتُ من قربكم إلى السِّقمِ

وقوله في هجاء طبيب:

سلَّط الله عليه طبَّهُ ... وكفاه طبه لا بل كفاني

وقوله:

وأخرق تضرمه نفخةٌ ... سفاها وتطفئه تفلة

وقوله:

وقال اعذروني إن بخلي جِبلةٌ ... وإن يدي مخلوقة خلقة القفل

طبيعة بخل أكَدَّتها خليقة ... تخلَّقتُها خوفَ احتياجي إلى مثلي

وقوله: وقد أبدع واستطرد في وصف صور السعادة التامة وتصويرها تصويراً بارعاً كي يقول: إن سعادة الناس التامة لا تقتضي الشكر عليها ما دام المهجو منهم، فانظر إلى براعة الرسم والتصوير في قوله:

ما كرَّمَ الله بني آدم ... إذ كان أمسى منهمُ خالد

والله لو أنهمُ خلِّدُوا ... حتى يبيد الأبد الآبد

وأصبح الدهر حفياً بهم ... كأنه من بِرِّهِ والد

ولم يكن داءٌ ولا عاهة ... فالعيش صافٍ شربه بارد

ودامت الدنيا لهم غضة ... كأنها جارية ناهد

ما كلِّفوا الشكر وقد ضمهم ... وخالد اللؤم أب واحد

على أن هذا كله أهون ما في شعره من الهجاء، وأسهل تحملاً من فحشه الذي أطلق لنفسه العنان فيه وخلع الحياء، وأتى بأشد مما جاء به كل الشعراء. فلا الحطيئة ولا الأخطل ولا جرير يدانيه في الهجاء، وهو مع ذلك أحياناً يخلط الهجاء بالحكمة والمثل كما في قوله:

توَقىِّ الداء خيرٌ من تصدِّ ... لإيسره وإن قرب الطبيب

وكما في الأبيات المشهورة التي يقول فيها:

رأيت الدهر يرفع كل وغد ... ويخفض كل ذي شِيَم شريفهْ

كمثل البحر يغرق فيه حي ... ولا ينفكُّ تطفو فيه جِيفهْ

أو الميزان يخفض كل وافٍ ... ويرفع كل ذي زنةٍ خفيفهْ

فترى أنه مُغْريً دائماً بتتبع الصور وبالتصوير سواء أكان ذلك في مدحه أو ذمه. وتظهر مقدرته على التصوير أعظم ظهور في وصف الأزهار أو الأنهار أو الأشجار أو القفار أو الرياح أو السماء أو السحاب أو الفواكه أو الروائح أو المأكولات، وله في كل هذه الأشياء أشعار كثيرة. أنظر إلى وصفه للنسيم:

وشمائل باردة النسيم ... تشفي حزازات القلوب الهِيْم

كأنها من جنة النعيم

وقوله في وصف الأرض والمطر:

أصبحت الدنيا تروق من نظرْ ... بمنظر فيه جلاء للبَصَرْ

أثنت على الأرض بآلاء المطر ... فالأرض في روض كأفواف الحبر

نَيِّرَةَ النوار زهراء الزَّهَرْ ... تَبَرَّجَتْ بعد حياء وخَفَرْ

تَبَرُّجَ الأنثى تصدت للذكر

ويقول في غروب الشمس:

كأن خُبوَّ الشمس ثم غروبها ... وقد جعلت في مجنح الليل تمرض

تخاوُص عينٍ مس أجفانها الكرى ... يُرَنِّقُ فيها النوم ثم تُغَمِّضُ

ومن بدائعه القصيدة التي يقول فيها (حيتك عنا شمال طاف طائفها) والتي يقول فيها: (ورياضٌ تخَايَلُ الأرض فيها) والتي يصف فيها النرجس والورد في قوله (للنرجس الفضل المبين لأنه) والأخرى التي يصف فيها فواكه أيلول ويقول: إنه لولاها لزهد في الحياة. وله القصيدة البديعة التي يصف فيها غروب الشمس.

وأول وصفها قوله فيها:

وقدر نَّقَت شمس الأصيل ونفَّضت ... على الأفق الغربيِّ ورسا مذعذعا

وفيها يتخيل أن الشمس تودع النبات ويودعها النبات وكأن كلا منهما يحس لوعة الفراق. ويخيل إلى أنه لو كان نقاشاً لرسم ونقش صورة مملوءة بالحياة كأبدع ما صنع المصورون في معنى هذه القصيدة، ولكن ما أحسب أن مصوراً يأتي بأحسن مما جاء به في الشعر، وله وصف العنب الأبيض الذي يقول فيه:

لم يُبْق منه وَهَجُ الحرور ... إلا ضياءً في ظروف نور

وله في وصف الخمر:

لطفت فقد كادت تكون مُشاعَةً ... في الجو مثل شعاعها ونسيمها

وأمثال هذا الوصف كثير في شعره. وهو مصور أيضاً في غزله. أنظر إلى وصفه محاسن النساء في قصيدة (أجنت لك الورد أغصان وكثبان) ووصفه الجمال والغناء في قصيدته الدالية في وحيد المغنية وهي التي يقول فيها: (يا خيلليَّ تَيَّمَتْني وحيد) وكأنما هو فيها يُصورُ الألحان كما يصور الوجوه الحسان. ومن بدائعه في الغزل قوله: (وحديثها السحر الحلال لو انه) وقوله: (لو كنتَ يوم الفراق حاضرنا) وقوله: (لا تكثرنَّ ملامة العشاقِ) وقوله: (وفيك أحسن ما تسمو النفوس له) وقوله: (شفيعك من قلبي شفيعٌ مُشَفَّعُ). وله غزل كله شهوة، وله مجون شنيع، وكان يفتخر بالقدرة الجثمانية على الملذات. وهذا كله لا يليق نشره ولكن له مع ذلك غزلاً وجدانياً رقيقاً، فهو قد جمع الأطراف لأنه كان مرهف الإحساس كما كان مرهف الحواس وتراه يجمع الوجدان والتصوير في قوله في حب الوطن:

بَلدٌ صحبتُ به الشبيبة والصِّبا ... ولبست فيه العيش وهو جديد

فإذا تمثَّل في الضمير رأيته ... وعليه أفنان الشباب تميد

فهنا أيضاً نزعة التصوير غالبة عليه في البيت الثاني. وله أشعار أخرى في حب الوطن، ولا غرو فإنه كان يمقت الأسفار. ومن رأيي أن تحسُّرَ ابن الرومي على ذهاب الشباب ليس له مثيل في شعر الشعراء وإن كانوا قد أكثروا في هذا الموضوع. وأحسن قصائده فيه قصيدته التي يقول فيها (كفى بالشيب من ناهٍ مطاعٍ) ومن أبياته فيها، وقد غلبت عليه النزعة إلى التصوير في هذه الأبيات:

يُذَكِّرُِني الشبابَ جنانُ عدن ... على جنبات أنهار عِذَابِ

تفيء ظلها نفحات ريح ... تهز متون أغصان رطاب

إذا مَاسَت ذوائبها تداعت ... بواكي الطير فيها بانتحاب

يذكرني الشباب وميض برق ... وسجع حمامة وحنين ناب

وكانت أيكتي لِيَدِ اجتناء ... فصارت بعده ليد احتطاب

وهو لا يكتفي بما يكتفي به غيره من جعل الحياة بعد الشباب كالموت بل يقول إنها عذاب. وله قصائد أخرى في التحسر على الشباب منها قصيدة (دَابَرَ أوطارَهُ إلى الذِكَر) و (خليليَّ ما بعد الشباب رزية) و (لا تَلْحَ مَنْ يبكي شبيبته) و (أيام استقبل المنظور مبتهجاً) وقوله:

اكتهلتْ همتي فأصبحتُ لا أب ... هج بالشيء كنتُ أبهج بِهْ

وحَسْبُ من عاش من خلوقتِه ... خلوقة تعتريه في أَرَبِهْ

وهذا الرجل المنهوم بمحاسن الحياة ولذاتها، المولع بوصف مباهجها وفتنها وأطايبها، له حالات إذا وصف فيها الزهد أتى بالقول المؤثر، كما في قصيدته في وصف الزُّهَّادِ، وهي قد جمعت أيضاً بين التصوير والوجدان، وهي التي يقول فيها:

تَتَجافَى جنوبهم ... عن وطئ المضاجعِ

ولكن الجمع بين التهافت على الملاذ في وقت من أوقات الحياة وشدة الشعور الديني في وقت آخر أمر مشهود؛ وقد يتردد صاحبهما بينهما مرات عديدة.

وقصائد ابن الرومي في الإخوان والعتاب متنوعة الأغراض والمعاني والأنغام والصور. وأشهرها قصيدة: (يا أخي أين ريع ذاك اللقاء) وفيها يتخيل مناظرة ونقاشاً طويلاً بينه وبين هنات صاحبه، وهي بارعة في التصوير والتفكير؛ ولكن له من القصائد ما هو أكثر وجداناً وعاطفة، وله مقطوعات موسيقية كقوله:

طلبتُ لديكم بالعتاب زيادة ... وعطفاً فأعتبتم بإحدى البوائق

فكنتُ كمستسْقٍ سماءً مخيلة ... حياً فأصابته بإحدى الصواعق

وقوله:

عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنَّ من الصحاب فإن الداَء أكثر ما تراه ... يحول من الطعام أو الشراب

والأبيات التي ذكرت من قبل وأولها: (تخذتكم درعاً وترساً لتدفعوا) وهي من أبدع ما قال في العتاب الوجداني، وكذلك قوله: (أتاني مقال من أخ فاغتفرته). وقوله: (إني لأغضى عن الزلات مجتنباً). وكثرة العتاب في شعره تدل على أنه كان منكوباً في الإخاء والأنصار. وقد أجاد ابن الرومي أيضاً في الرثاء لأنه كان منكوباً في أولاده، وإنما هذه نكبة الرزء والموت لا نكبة الجفاء التي دعت إلى إجادة العتاب، ولا أذكر قصيدة في رثاء الأبناء في اللغة العربية تقارب قصيدة ابن الرومي الدالية في رثاء ابنه الأوسط غير قصيدتي التهامي، ومطلع قصيدة التهامي الأولى:

حكم المنية في البرية جاري ... ما هذه الدنيا بدار قرار

ومطلع الثانية:

أبا الفضل طال الليل أم خانني صبري ... فخيِّلَ لي أن الكواكب لا تسري

وفيهما يرثي ابنه كما رثى ابن الرومي ابنه بقصيدته التي أولها مخاطباً عينيه:

بكاؤكما يشفي وإن كان لا يُجدِي ... فجودا فقد أودى نظيركما عندي

وتغلب نزعة الرسم والتصوير على الشاعر، فيصف ابنه يعالج المرض والموت، ويصف حزنه إذا رأى أخويه يلعبان في ملعب له. وهذه القصيدة من أجلِّ ما قال ابن الرومي من الشعر، بل من أجلِّ ما قال شاعر من الشعر، وهي أكبر دليل على أن الشعر الرفيع المقام لا يكون إلا إذا وجدت العاطفة، وأما الصنعة وحدها فلا تخلق شعراً عالياً. ولابن الرومي قصائد أخرى في الرثاء تستجاد، منها رثاء يحيى بن عمر العلوي التي مطلعها:

أَمامك فانظرْ أي نهْجيك تنهج ... طريقان شتى مستقيمٌ وأعوج

وفيها يقارن بين ترف العباسيين وبين ما كان العلويون فيه من تشريد واضطهاد. ومما يؤسف له أنه شانها بالفحش الشنيع في هجاء العباسيين؛ وهذه القصيدة تذكرني بقصيدة دعبل الخزاعي الرائعة في آل البيت وهي أعمق أثراً ومطلعها:

مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات

والذي يقرأ شعر ابن الرومي يرى أنه أشد ذوي الفنون عجزاً عن حبس بعض ما يجول في خاطره من الخواطر، وهذا العجز يجعل صاحبه كأنه أسوأ خلقاً ونفساً من الناس، وهو قد يكون وقد لا يكون، فإن كان إنسان - كما قال سمرست موام - القصصي الإنجليزي في كتاب (الخلاصة) تخطر على خاطره خواطر السوء حتى على بال القديسين المطهرين الذين كانوا يشكون في نقاوتهم وطهارتهم بالرغم من أنهم كانوا لا يفعلون ما يدعو إلى هذا الشك؛ وذوو الفنون، بسبب النزعة الفنية إلى تصوير أنفسهم والتعبير عن خوالجها، قد يعجزون عن كتم هذه الخواطر التي يكتمها غيرهم. وإني أميل أحياناً إلى الاعتقاد أن قصص المجون في شعر أبي نواس وابن الرومي لم تحدث حقيقة ولم يفعلوا ما زعموا أنهم فعلوا أو على الأقل بعضها لم يحدث، وإنما هي خواطر السوء التي تمر بخاطر الناس ويكتمها الناس ويعجز بعض الفنانين عن كتمها بل يصنعون منها قصصاً فخراً بها أو صنعة. وعلى هذا القياس نستطيع أن نفهم قصيدة ابن الرومي التي أولها: (لهف نفسي على رصاص مُذابٍ) أي رصاص منصهر كي يصبه في فم عدوه حتى يموت ويتشفى بسؤاله عن صحته أثناء ذلك، وهي قصيدة شنيعة. ولكن كم من الناس إذا تألم من عداء رجل ألماً شديداً لا تخطر له مثل هذه الخواطر إذا اشتد به الألم وكان مرهف الإحساس؟ أما أن يصب الرصاص المنصهر في فم إنسان فهذه مسألة أخرى، فقد يكون صاحب هذه الخواطر أعجز الناس عن إتيان الشر كما هو أعجز الناس عن كتمان ما يجول بخاطره من خواطر السوء. ولا ننس أن ابن الرومي كان مرهف الإحساس حتى أنه أعد خنجراً مسنوناً كي يقضي به على حياته فيما زعموا إذا اشتد به الألم في الحياة، وقد اشتد واشتد ولم يفعل.

عبد الرحمن شكري