مجلة الرسالة/العدد 293/التاريخ السياسي

مجلة الرسالة/العدد 293/التاريخ السياسي

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 02 - 1939



النزاع الإيطالي الفرنسي

وموقف المستر تشمبرلين

للدكتور يوسف هيكل

لم تأت سياسة (تهدئة الخواطر) بما كان يتوخاه المستر

تشمبرلين منها. بل إن هذه السياسة أكثرت المشاكل الأوربية

وعقدتها. فنجاح الهر هتلر في ميونخ قاد ألمانيا إلى مهاجمة

بريطانيا والتهكم بها، وجعل الفوهرر يعد العدة لتحقيق

مشروعاته الواسعة في شرق أوربا؛ فعظم الخطر الألماني

وتفاقم. . .

أما إيطاليا فقد ازدادت تدخلاً في أسبانيا وازدادت جرأة وتبجحاً، فقامت تهاجم فرنسا مطالبة إياها بقسم من أملاكها. واشتدت مظاهرات هذه المطالب فتحولت إلى نزاع بين باريس وروما يهدد العالم بحرب ضروس. فما هي المطالب الإيطالية؟ وماذا كان تأثيرها في فرنسا؟ وهل تستند إلى حق صحيح؟ وما هو موقف المستر تشمبرلين منها؟

بينما كانت فرنسا آخذة في تحسين علاقاتها بجاراتها اللاتينية، فعينت سفيراً لها في روما، واعترفت بالإمبراطورية الإيطالية، جابهتها إيطاليا بمطالب جديدة فيها اعتداء على أملاك حكومة باريس، وإهانة للجيش الفرنسي. وللتهرب من مسؤولية ذلك، لم تضع حكومة روما هذه المطالب في قالب رسمي، بل عمدت إلى التمثيل في إسماع حكومة باريس مطالبها. وكان مسرح التمثيل قاعة البرلمان في روما، وكان الممثلون وزير الخارجية وأعضاء مجلس النواب. وموجز المشهد أنه في 30 نوفمبر سنة 1938 ألقى الكونت شيانو وزير خارجية إيطاليا خطاباً سياسياً في مجلس النواب، نوه فيه بـ (مطالب الشعب الإيطالي الطبيعية) وعندما لفظ الوزير هذه الجملة، وقف النواب وقفة رجل واحد صائحين: (نريد تونس وكورسيكا ونيس). . . وفي الأيام التالية أخذت الجموع الإيطالية تطوف الشوارع مطالبة فرنسا بمطالب نوابها، وقامت الصحافة الإيطالية وهي شبه رسمية تبرر موقف النواب، وتوضح شعور الجماهير الإيطالية المطالبة بحق طبيعي لها في الممتلكات الفرنسية الثلاث السالفة الذكر. ولم تكتف الصحف الإيطالية في بيان ما تدعيه حقاً لإيطاليا، بل أخذت ولا تزال تأخذ في التنديد بفرنسا وانتقادها انتقادات مرة؛ فقابلتها الصحف الفرنسية بالمثل، فنشأ بين البلدين جدل صحفي كان من تأثيره ازدياد توتر العلائق بين روما وباريس. وفي هذه الأثناء لم يرد الطلبة في فرنسا الوقوف موقف المتفرج، بل قرروا الرد على المظاهرات الإيطالية، فقامت جموعهم بمظاهرات في أنحاء المدن الفرنسية هاتفة بهتافات تهكمية منها (صقلية وسردينيا لفرنسا) و (إيطاليا للنجاشى)

كان للمشهد التمثيلي في البرلمان الإيطالي وقع سيئ في الدوائر الفرنسية. وقد اهتمت حكومة باريس به اهتماماً كبيراً، فدعا المسيو بونيه وزير خارجية فرنسا سفير إيطاليا لمقابلته في اليوم التالي للحادث، وقابل المسيو فرانسوا بونيه سفير فرنسا في روما الكونت شيانو في 2 ديسمبر واحتج على حادث مجلس النواب الإيطالي، فنفى الوزير مسؤولية الحادث عن حكومته بقوله (إن الحكومة الإيطالية لا تعد مسؤولة إلا عن مسلكها ومطالبها الرسمية)

لم تكتف الحكومة الفرنسية بهذا الرد، وعولت على أن تبرهن أنها لا تتهاون في مصالحها ولا تسمح بالتفكير في الاعتداء على أملاكها، فردت على مظاهرة البرلمان الإيطالي المدبرة رسمياً، بزيارة المسيو دلادييه لكورسيكا وتونس في 3 يناير سنة 1939، بموكب عسكري، فقوبل فيها بترحاب عظيم. وقد هتف أهل كورسيكا وسكان تونس الفرنسيون بحياة فرنسا، وأظهروا أنهم فرنسيون لا يريدون من جنسيتهم بديلاً. أما أهل تونس العرب فأكدوا - إن كان لا بد من المفاضلة بين فرنسا وإيطاليا - أنهم لا يترددون في التمسك بفرنسا، ولا يقبلون قط الانتقال إلى الحكم الإيطالي. وزيادة على ذلك فقد صرح المسيو دلادييه، والمسيو بونيه داخل البرلمان وخارجه، أن الحكومة الفرنسية لن تتنازل عن شبر واحد من أملاكها.

لم ترتح إيطاليا لزيارة المسيو دلادييه لكورسيكا وتونس، بل رأت فيها اعتداء صريحاً عليها وسبباً لزيادة توتر العلاقات بين الجارتين. كما إن تأكيد الدوائر المسؤولة في باريس برفض المطالب الإيطالية، أغضب رجالات إيطاليا وصحافتها. فاشتدت في حملتها على فرنسا، وحاولت إثبات عدالة تلك المطالب الطبيعية.

لم تكن نيس وكورسيكا يوماً ما تابعتين لإيطاليا الحديثة، إذ أن نيس ومقاطعة سافوا كانتا من أملاك الدون دي سافوا وجزءاً من مملكة سردينيا. ولما قام الملك فكتور عمانوئيل ووزيره كافور بتوحيد إيطاليا، احتاجا إلى مساعدة فرنسا لهما ففاوضا نابليون الثالث في مساعدتهما على إخراج النمساويين من اللومباردي وفي موافته على توحيد البيمون مع الدول الوسطى. ووعداه مقابل ذلك بالتنازل لفرنسا عن نيس ومقاطعة سافوا. فتم الاتفاق بينهم على ذلك عام 1860. وعندما جرى استفتاء التنازل لفرنسا في 15 أبريل عام 1860، كان 25743 صوتاً محبذين الانتقال و 160 صوتاً فقط ضد التنازل.

أما كورسيكا فقد كانت تابعة لجنوا منذ القرن الخامس عشر حتى عام 1768، الذي فيه باعت جنوا سيادتها على هذه الجزيرة لفرنسا. ومنذ ذلك التاريخ وكورسيكا جزء من فرنسا.

وأما تونس فقد تدخلت فيها الدول الاستعمارية عن طريق قرض الأموال لها. ثم تذرعت هذه الدول كعادتها باضطراب الأحوال المالية والإدارية، ففرضت على تونس عام 1869 رقابة مالية قوامها ممثلون لبريطانيا وفرنسا وإيطاليا. وأخذت هذه الدول الثلاث تتنافس وتسعى كل منها بأن يكون لها القسم الأول من التدخل في شؤون تونس ونشر نفوذها عليها. وكانت إيطاليا تأمل في احتلال تونس وجعلها مستعمرة لها. ولما أرادت تنفيذ رغبتها، أبدت ما عزمت عليه لإنكلترا لأخذ موافقتها، فأجاب رئيس وزارتها حينئذ، أن بريطانيا العظمى لا ترى بعين الارتياح ساحل تونس وساحل صقلية في يد حكومة واحدة. ولا تزال بريطانيا تحتفظ بهذه السياسة حتى الآن حفظاً لسلامة طرق المواصلات في البحر الأبيض المتوسط. وكانت فرنسا ترغب فيما كانت ترغب فيه إيطاليا من ضم تونس إليها، فاتفقت مع بريطانيا بأن تترك لها حرية العمل في تونس نظير موافقة فرنسا على ضم إنكلترا جزيرة قبرص.

وفي عام 1881 سارت قوة عسكرية فرنسية إلى داخل تونس بحجة مطاردة بعض القبائل التي اعتدت على حدود الجزائر، وأخذت تتوغل في البلاد التونسية وتستولي عليها. . . فاضطر (باي) تونس إلى النزول عند رغبة الغزاة، وتوقيع معاهدة (بردو) في 12 مايو 1881 التي بموجبها قبل الحماية الفرنسية.

تأثرت إيطاليا من عمل فرنسا كثيراً، واعتبرته اعتداء على أمانيها وعلى حقوقها الطبيعية، حتى أنها لم تعترف بفتح فرنسا لتونس إلا عام 1896، الذي به تم الاتفاق بين باريس وروما على منح الرعايا الإيطاليين البالغ عددهم حينئذ 55 , 572 إيطالياً، امتيازات خاصة، يحافظ الإيطاليون بموجبها على جنسيتهم.

وقد تجدد الخلاف بين فرنسا وإيطاليا فيما بعد الحرب العالمية، بسبب الجالية الإيطالية في تونس، تلك الجالية البالغ عددها الآن نحو مائة ألف إيطالي تقريباً، مقابل ما يزيد على مائة وعشرة آلاف فرنسي، عائشين بين مليونين ونصف من العرب. وأخذ هذا الخلاف يتفاقم حتى أن الصحف أخذت تتحدث عام 1931 عن احتمال وقوع حرب إيطالية فرنسية، وظل توتر العلاقات بين الجارتين شديداً حتى 7 يناير 1935، وهو التاريخ الذي تم فيه الاتفاق بين السنيور موسوليني والمسيو لافال على تسوية الخلاف القائم بين الحكومتين.

نالت إيطاليا، بموجب هذا الاتفاق، لرعاياها في تونس امتيازات جديدة. فالإيطاليون الذين يولدون في تونس قبل 28 مارس سنة 1945 يحافظون على جنسيتهم الإيطالية، والذين يولدون بين 1945 و 1965 يحق لهم اختيار الجنسية الفرنسية، وأما الذين يولدون بعد 1965 فيخضعون للقانون العام. وأما المدارس الإيطالية فتحافظ على وضعها الحالي حتى عام 1955، ومن ثم تصبح تحت الرقابة الفرنسية. وفي هذا الاتفاق أيضاً قام المسيو لافال بتنفيذ البند 13 من اتفاق لندن عام 1915، الذي بموجبه تعهدت فرنسا بتعويض إيطاليا ببعض المزايا الاستعمارية نظير دخولها الحرب ضد ألمانيا، وذلك بالتخلي لإيطاليا عن منطقة تبسي البالغة مساحتها 114 ألف كيلو متر مربع في صحراء أفريقيا، وبالتنازل عن جزيرة دوميرا في البحر الأحمر، وعن قسم من الساحل الصومالي الفرنسي المواجه لباب المندب، وعن عدد من أسهم سكة حديد جيبوتي - أديس أبابا. وظن حينئذ أن هذا الاتفاق وضع حداً للخلاف بين الجارتين.

غير أن تطور الحالة الدولية، وطموح إيطاليا إلى سيادة البحر الأبيض المتوسط، أديا بالسنيور موسوليني إلى تجديد الخلاف مع فرنسا على بساط المطالب الاستعمارية. ولم يكن في الواقع الداعي لهذه المطالب سبباً تاريخياً، أو حرص على تطبيق حق تقرير المصير، وإنما هو سبب حربي.

فلكورسيكا أهمية كبيرة في نظام الدفاع الفرنسي، كما أن بيزرت الواقعة في غربي تونس هي الميناء الحربي الرئيسي للأسطول الفرنسي في شمال أفريقيا. فوضع إيطاليا يدها على كورسيكا يضعف وضعية فرنسا الحربية في البحر الأبيض المتوسط ويزيد في أهمية المواقع الإيطالية الحربية. وأما استيلاء إيطاليا على تونس فمعناه، زيادة على إضعاف فرنسا، تمكنها من وضع رقابتها التامة على القسم الضيق من البحر الواقع بين تونس وصقلية، والذي لا تزيد مسافته بينهما على 90 ميلاً، ولا سيما أن جزيرة بانتلاريا الإيطالية قد حُصنت تحصيناً حربياً عظيماً. وبذلك تتمكن إيطاليا من شطر البحر الأبيض المتوسط إلى شطرين، ومن قطع المواصلات بين قسميه، وفي ذلك ما فيه من الأخطار الفادحة على أملاك فرنسا الآسيوية والأفريقية الشرقية، وعلى الإمبراطورية البريطانية. ومن الغريب أن بعض الصحف الإيطالية لم تخف هذا السبب، إذ قالت: إن إيطاليا لن تتغاضى عن المطالبة بكورسيكا وتونس لأن وجودهما في يد فرنسا خطر عليها. . .

ولكيما يكون لإيطاليا عذر قانوني في تجديد الخلاف مع فرنسا ومطالبتها بمزايا استعمارية جديدة، نقض السنيور موسوليني معاهدة 1935، وذلك بتبليغ الكونت شيانو في 22 ديسمبر المسيو فرانسوا بونسيه أن حكومته لا تعد المعاهدة الفرنسية الإيطالية التي عقدت عام 1935 نافذة، لأنها لا تتفق مع مقتضيات الحالة الحاضرة، ولأن فرنسا لم تنفذها ولم تحافظ على نصوصها أو روحها بل اشتركت في العقوبات الاقتصادية التي وضعتها عصبة الأمم على إيطاليا خلال الحرب الحبشية. على أن فرنسا متمسكة باتفاق 1935 الذي سوى في نظرها كل أسباب الخلاف بينها وبين إيطاليا، بدليل توقيع الحكومة الإيطالية رسمياً عليه في 7 يناير سنة 1935، والتصريحات التي أفضى بها السنيور موسوليني في ليتوريا يوم 18 ديسمبر سنة 1936 وجاء فيها قوله: (إن مشاكل إيطاليا في القارة الأفريقية حلت كلها حلاً نهائياً مشرفاً) وهي تقول إنه إذا كان اتفاق 1935 لا يلائم أحوال إيطاليا الحاضرة، فإن اتفاقات 1896 بشأن الإيطاليين في تونس لم تعد ملائمة للحالة الحاضرة أيضاً، ولذلك يكون لفرنسا الحق في وضع نظام جديد للرعايا الإيطاليين فيها. أما مسألة العقوبات فمن نكران الجميل التحدث عنها، لأنه لولا ولاء حكومة باريس للاتفاق الذي عقد مع حكومة روما لما تمكن السنيور موسوليني قط من اكتساح الحبشة وإيجاد الإمبراطورية الإيطالية.

أما ما هي المطالب الرسمية الإيطالية فلم تعلنها بعد حكومة روما، وهي تقول إنها ستتقدم بها إلى فرنسا في الوقت المناسب وبالصورة المناسبة. غير أننا نستبعد أن تكون نيس وكورسيكا من ضمن هذه المطالب. وإن ما تطمع فيه إيطاليا على ما يظهر هو الاستيلاء على تونس، أو جعلها منطقة حرة على مثال طنجة والاشتراك في إدارة قناة السويس، والاستيلاء على خط حديد جيبوتي - أديس أبابا، وعلى جيبوتي نفسها أو الاشتراك في استعمال مينائها من غير مقابل.

ومما هو جدير بالملاحظة أن الصحافة الألمانية، الناطقة بلسان حكومة الريخ بصورة غير رسمية، تؤيد إيطاليا في موقفها. وقد ذكر الهر هتلر موقف بلاده تجاه إيطاليا في خطابه الذي ألقاه في 30 يناير، ومما جاء فيه إنه (إذا كان يراد إثارة حرب تحت أي ستار كان ضد إيطاليا فإن الواجب يدعو ألمانيا إلى الوقوف بجانب صديقتها).

ومما لا شك فيه أن إثارة السنيور موسوليني الخلاف الاستعماري مع فرنسا من جديد، هو نتيجة لاتفاق مونيخ، وأن زعيم إيطاليا ما كان يجرؤ على ذلك لو أن فرنسا في المكانة الدولية التي كانت فيها قبل تضحية تشيكوسلوفاكيا. فالسنيور موسوليني أراد الاستفادة من ضعف فرنسا بسبب انهيار ما كانت تعتمد عليه من نظام التحالف بعد اتفاق مونيخ. ورأى في زيارة المستر تشمبرلين فرصة سانحة لمساعدته على تحقيق ما يريد من فرنسا، لأنه كان يعتقد أن بريطانيا ترى من الحكمة توطيد صداقتها مع إيطاليا بالنصح لفرنسا بإيثار خطة المسالمة على العمل على تبديد روح ميونيخ والقضاء عليها.

ولما كانت إيطاليا تعلم أن لا أمل لها في تحقيق مطالبها من فرنسا عن طريق المفاوضات المباشرة، أرادت أن تنقل خلافها معها إلى مجال المسائل الدولية. وبما أنها متأكدة من مساعدة ألمانيا لها في مطالبها عملت على إقناع بريطانيا بعقد مؤتمر رباعي لبحث هذه المطالب. ولنقل إيطاليا مطالبها إلى مجال المسائل الدولية وجعلها من اختصاص المؤتمرات الدولية، أعلنت أن اعترافها بالحماية الفرنسية على تونس كان مقيداً باحترام حقوق الإيطاليين في البلاد التونسية. وبما أن فرنسا لم تحترم هذه الحقوق فقد أصبحت إيطاليا في حل من الاعتراف بالحماية الفرنسية. وترى أنه من الواجب على الدول الأخرى ألا تكون مقيدة بهذا الاعتراف. وقامت الصحافة الإيطالية تؤيد هذه النظرية وتمهد الرأي العام الدولي لتحبيذ عقد مؤتمر رباعي حفظاً للسلام، وحرصاً على إيجاد التفاهم بين الدول الأوربية الكبرى. فحملت حينئذ الصحافة الفرنسية على هذه النظرية وأكدت أن مثل هذا المؤتمر لن يعقد لبحث المطالب الإيطالية؛ وإن عقد فلن تشترك فيه فرنسا. وعلى أثر ذلك أخذت الصحافة الإيطالية تلفت النظر إلى أن في نية بريطانيا التوسط لتسوية النزاع الإيطالي الفرنسي. وكان السنيور موسوليني يعلق أهمية كبرى على زيارة المستر تشمبرلين للعاصمة الإيطالية؛ فخشيت الحكومة الفرنسية من أن يتمكن زعيم إيطاليا من الضرب على الوتر الحساس عند رئيس الوزارة البريطانية، ومس نقطة الضعف فيه، فيحمله على التوسط كما حمله الهر هتلر على ذلك في المسألة التشيكوسلوفاكية.

وللحيلولة دون ذلك قابل المسيو كوربان في لندن اللورد هاليفاكس، وأعلمه أن فرنسا ترى أن المطالب الإيطالية من الشؤون التي يجب أن تسوى بينها وبين إيطاليا وحدهما؛ وأن فرنسا لا توافق، وعلاقاتها سيئة مع حكومة روما، على منح إيطاليا شيئاً ما بقناة السويس. وفي 11 يناير يوم وصول المستر تشمبرلن واللورد هاليفاكس باريس في طريقهما إلى روما نشرت جريدة (الطان) الناطقة بلسان وزارة الخارجية الفرنسية أن لا وساطة هناك، لأن فرنسا لن تسمح بأي مناقشة دولية عندما يتعلق الأمر بمصالحها الحيوية ووحدة إمبراطوريتها، وهي لن تشترك في أية مساومة رباعية أو ثلاثية في هذا الموضوع. ومن الأكيد أن بريطانيا تشارك فرنسا في وجهة نظرها، ويستطيع السنيور موسوليني أن يتحقق ذلك بنفسه، إذا رأى فائدة من مفاتحة الوزراء البريطانيين في هذا الصدد.

وقبل أن يزور المستر تشمبرلين روما زار باريس وتحدث مع وزارتها، وفي هذه الزيارة أكد المسيو دلادييه أنه لا يريد التوسط في الخلاف القائم بين روما وباريس. فكان ذلك خيبة للآمال التي كان السنيور موسوليني يعقدها على توسط المستر تشمبرلين، وصدمة للدول التي كانت تعمل على التفريق بين لندن وباريس.

أما محادثات روما فقد فشلت فشلاً تاماً في جميع المسائل التي طرحت على بساط البحث. وكان هذا الفشل نجاحاً باهراً من وجهة نظر بريطانيا وفرنسا، لأن تلك المحادثات لا تعد ناجحة في نظرهما إلا إذا فشلت. وكل ما استفيد من هذه المحادثات هو إدراك إنكلترا أن المستقبل قاتم على رغم إظهار إيطاليا نيات سليمة، وتأكد إيطاليا من متانة التضامن الفرنسي الإنكليزي، وأنه ليس من السهل زعزعته أو الحفر تحته.

وفشل هذه المباحثات جعل جريدة (تلغرافو) ذات العلاقات الوثيقة بالكونت شيانو تصرح بأن (ليس معنى نقض إيطاليا لاتفاق 1935 أنها تريد الحرب، بل معناه أنه يجب البحث عن اتفاق آخر. فالحكومة الفاشية لا تعارض في مباشرة مفاوضات جديدة، ولكن ذلك يعد أمراً متعذراً في الجو الحالي). وذلك الجو لم يصف منذ ذلك الحين بل تلبدت غيومه، فاشتد الجفاء، وتعاظمت حملة صحف الطرفين، مما جعل السنيور جايدا يشير إليها بقوله (إن المدافع ستطلق من تلقاء نفسها) على أن إيطاليا لم تفعل شيئاً لتحسين علاقاتها بفرنسا، بل زادت الحالة خطورة بدعوة فرق من الإيطاليين لحمل السلاح، وبحشد فرق من الجيش الإيطالي في الحبشة قرب حدود الصومال الفرنسي، مما جعل فرنسا ترسل فرقاً وبوارج حربية إلى جيبوتي. ولعل السنيور موسوليني يأمل نيل مطالبه عن طريق التهديد بالحرب، وإرهاب الرأي العام.

فهل ينجح بذلك كما نجح الهر هتلر خلال شهر سبتمبر الفائت؟ هذا ما نشك فيه.

يوسف هيكل