مجلة الرسالة/العدد 294/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 294/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 02 - 1939



محمد شريف باشا

كان شريف في عصره رجلا اجتمعت فيه الرجال وكانت

مواقفه توحي البطولة وتخلق الأبطال

للأستاذ محمود الخفيف

كان في استقالة شريف معنى الغضب، ولكنه لم يكن غضب فرد لشخصه فحسب وإلا لما كان له ما كان من خطر، كان غضب رجل لشخصه ولقوميته معاً أمام لجنة من الأجانب تريد أن تظهر بمظهر السيادة، وتحرص أشد الحرص على ذلك المظهر، ولذلك كان ذلك الغضب ثورة؛ وما لبثت تلك الثورة أن بعثت في كل نفس من نفوس الأحرار ثورة مثلها، وبذلك تهيأت البلاد لأن تثبت أمام الأجانب وجودها، واغتدى شريف بما فعل رجلها ورأس أبطالها

ورب قائل يقول وماذا كان في ذلك الموقف من معاني البطولة؟ هذا رجل اعتزل منصبه فكيف يكون الابتعاد عن الميدان رجولة؟ ولكن الذين يعلمون مبلغ ما وصل إليه نفوذ الأجانب يومئذ، ومبلغ ما مني به المصريون من خور، وما عرف عنهم من الحرص على المناصب الحكومية، يدركون ما ينطوي عليه موقف شريف من عزة وتضحية. هذا إلى ما سبق الاستقالة من تحد للجنة وسلطانها. ولو أن الخديو آزر شريف يومئذ لما ترك منصبه تاركاً اللجنة بذلك في أحرج المواقف ممعناً في عصيانه وترفعه. . . ولكن الخديو على جلال قدره طلب إلى اللجنة في لهجة تشبه الرجاء أن تكتفي من شريف أن يرد على أسئلتها كتابة. ولما رفضت اللجنة ذلك لم يرد الخديو عليها بعمل أو بقول يكون فيه معنى التأييد لرجله والاستنكار لفعل الأجانب، ومعنى ذلك أنه لم يبق أمام شريف إلا أن يتخذ من استقالته مظهراً من مظاهر الاحتجاج على تدخل الأجانب في شؤون البلاد، فكان ذلك المظهر أول نذر الثورة. . .

أخذت لجنة التحقيق العامة تدرس الحالة. ولقد جعلت اللجنة هدفها بطبيعة الحال العمل الصالح للدائنين، ولذلك فلم تأل جهداً في أن ترجع بكل المساوئ إلى الخديو وحكومة الخديو متناسية ما فعله الدائنون من مخاطراتهم بأموالهم ابتغاء الربح الوفير وما جره جشعهم على البلاد من دمار، وما انطوى عليه مكرهم من غدر وبهتان وزور واختلاس.

تعامت اللجنة عما كان يقاسيه الفلاحون يومئذ من شقاء، ولم تراع في تقريرها بؤس أولئك الذين أثقلتهم الضرائب وهدهم الجوع، أولئك المساكين الذين كانوا كثيراً ما يفرون من أرضهم لكثرة ما كان يطلب منهم، أولئك الذين غمرهم في سنة من تلك السنين السود سيل جارف لم يكن أقل هولاً عليهم من سيل الضرائب، ألا وهو فيضان النهر على قراهم وأراضيهم، أولئك الذين أحاط بهم المرابون والأمراض معاً وباتوا يتمنون الموت من قبل أن يلقوه

وتغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين كانوا يهربون بضائعهم وينجون بها من الجمارك ثم لا يدفعون عنها شيئاً داخل البلاد في ظل تلك الامتيازات المشؤومة التي كانت من أكبر المساوئ التي منيت بها مصر والتي قل أن يجد المؤرخ مثيلاً لها فيما كانت تتضمنه من الجور، وما كانت تقوم عليه من الباطل والبهتان؛ وكذلك تغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين تزايد عددهم في الحكومة المصرية، والذين كانوا يتقاضون الأجور العالية جزاء على ما اتصفوا به من الكسل وقلة المروءة وجمود العاطفة؛ بينما كانت مرتبات الوطنيين لا تدفع لهم إلا في مشقة وعناء وهي من القلة بحيث كانت تحفز الكثيرين إلى الاختلاس والتهاون في العمل.

واقترحت اللجنة في قرار تمهيدي أن يتنازل الخديو عن سلطته المطلقة إلى وزراء مسؤولين، وإن ينزل عن أملاكه في نظير مرتب معين، وكذلك تنزل أسرته عن أملاكها. . . كل ذلك دون أن تفكر اللجنة في أن يتنازل الدائنون عن شيء من ديونهم وهي تعلم كيف تراكمت تلك الديون وكيف تزايدت أرباحها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه

وقبل الخديو تأليف الوزارة المسؤولة فاستدعى نوبار من أوربا وعهد إليه تأليف وزارة يتضامن أعضاؤها في التبعة وتقوم بالحكم في البلاد، ونظر المصريون فإذا وزارة المالية تسند إلى رجل إنكليزي، وإذا وزارة الأشغال تسند إلى رجل فرنسي، وهكذا سيطر الأجانب على مصر سيطرة تامة!

ومن غريب أمر هذه الوزارة أنها بينما كانت تسمى (وزارة مسؤولة) لم يكن لمجلس شورى النواب حق إسقاطها بل لم يكن له حق محاسبتها، ولم يك للخديو سلطان عليها، ومع ذلك كانت تلقب بذلك اللقب! فليت شعري كيف كانت مسؤولة ومن كان إليه يرجع الأمر يومئذ؟

كان الوزيران الأجنبيان هما صاحبي السلطان الحقيقي في البلاد، فلئن كانت ثمة مسؤولية على نوبار ومن معه من الوزراء المصريين فأمام الأجانب كانت تلك المسؤولية، وعلى ذلك فمن هذه الوجهة يصح تسمية تلك الوزارة بما سميت به، أما أن تعتبر وزارة مسؤولة كالوزارات التي يكون للشعوب حق محاسبتها وإسقاطها من مناصبها فتلك سخرية من سخريات الأجانب كانت في ذاتها من أبلغ نكاياتهم يومئذ بالبلاد وأهل البلاد

ولكن شريفاً كان عضواً في تلك الوزارة، أسندت إليه وزارة الحربية، وحل محله رياض في الداخلية. ولنا أن نتساءل كيف قبل شريف أن ينضم إلى تلك الوزارة؟ والذي نستطيع أن نستخلصه من حوادث ذلك العهد وملابساته أنه فعل ذلك على الأرجح لأن الخديو كان يرى فيه يومئذ الرجل الذي يستطيع بما أوتي من شجاعة وثقافة أن يراقب أعمال نوبار ومن معه من الأجانب، وفي هذا من الغض من شخصه ما لم يكن يسعه السكوت عليه

على أن شريفاً على رغم ثقة الخديو به وإيثاره إياه بالمحبة كان يكره استبداد الخديو بالأمر بقدر كراهته لنفوذ الأجانب، وكان يضمر ذلك في نفسه حتى تحين الفرصة كما سيظهر من أعماله عما قريب

وسرعان ما دب الخلاف بين الخديو ووزرائه أو على الأصح بينه وبين نوبار والعضوين الأجنبيين، فلقد كان في الوزارة رجال غير شريف يدينون بالولاء لحاكم البلاد الأعلى ومن هؤلاء علي مبارك ورياض. . . وتزايد هذا الخلاف حتى أصبح إسماعيل ولا هم له إلا أن يتخلص من تلك الوزارة التي لم تترك له من السلطة إلا اسمها

وسنحت له الفرصة في حادث مظاهرة الضباط، فإن نفراً من الضباط الذين استغنى عنهم عملاً بسياسة الاقتصاد قد تجمهروا أمام وزارة المالية واعتدوا على نوبار والعضو الإنكليزي السير ريفرزولسن، وكادوا يلحقون بهما الضرر البالغ لولا أن شخص الخديو بنفسه وفرق المتظاهرين. . . وأعلن إسماعيل على أثر ذلك أنه غير مسؤول عن شيء في البلاد ما دام محروماً من السلطان ومن ثم رأى نوبار أنه لا قبل له بمواجهة الحال بعد ذلك فرفع إلى الخديو استقالته، وبذلك تخلص الخديو وتخلصت البلاد من تلك الوزارة التي اعتاد الناس أن يسموها الوزارة الأوربية

وإنا لا نستطيع أن نمر بحادث الضباط هذا دون أن نشير إليه ولو في أيجاز، فنقول إن هذا الحادث كان أول خطوة في الحركة العسكرية التي سوف تكبر حتى تكون الجانب العسكري في الثورة العرابية، ذلك الجانب الذي سوف يفسد على الثورة مبادئها ويميل بها عن وجهتها ويكون في النهاية سبب فشلها وتحويلها إلى كارثة تجرف البلاد إلى هوة بعيدة القرار. . ذلك الجانب الذي كان له بسيرة شريف صلة وثيقة، فلسوف نرى أنه لا تطوف العرابيين وشططهم لسار شريف بالبلاد سيراً كان يصل بها بلا شك إلى غاية لو أنها أتيحت لها لتغير بها تاريخها واتجه وجهة غير التي سيق إليها

وكانت تولد بالبلاد يومئذ حركة وطنية قوية، حركة سوف تلتقي فيما بعد بالحركة العسكرية فيتألف من التيارين تلك الثورة التي تعمد كثير من المؤرخين تشويهها والتي أخطأ فهمها عدد منهم ليس بالقليل حتى تبينت آخر الأمر على حقيقتها. . .

وكان لتلك الحركة الوليدة مركزان أولهما المركز الرسمي وهو مجلس شورى النواب، وثانيهما المركز الأهلي وهو بيت البكري حيث كان يلتقي الأحرار من العلماء والنواب والأعيان. . وبهذين المركزين كان شريف دائم الاتصال لا يسهو ولا تفتر له همة

كان شريف دائم الصلة بالنواب أن جاز أن نسمي أعضاء المجلس على حالتهم هذه نواباً؛ وكان يتمنى أن يتخذ منهم قوة يناوئ بها الأجانب ويحد من سلطان الخديو، ولن يتم ذلك فيما يرى إلا أن يكون الوزراء مسؤولين أمام هذا المجلس كما هو الحال في المجالس الأوربية التي تسير على القواعد الدستورية. ولقد بذل شريف جهداً محموداً في إنشاء هذا المجلس وظل يتعهده بنصحه ورعايته، وأنه ليأمل أن يتطور مع الزمن حتى يصبح هيئة لها مكانها في النظام الحكومي في مصر

وكان شريف يرقب حركة هؤلاء الأحرار من الرجال الذين كانوا يجتمعون في بيت البكري، وكان لا يفتأ ينصح لهم ويشير عليهم بما يعملون، وإن له بينهم لمكانة تجعله مناط آمالهم ومعقد رجائهم، وما أشبه تلك الظروف بظروف مصر غداة الهدنة التي انتهت بها الحرب العظمى يوم كان الرجال يجتمعون خفية يفكرون في مصير بلادهم ويتجهون بأفكارهم وإن لم يقصدوا إلى رجل بعينه يحسون أنه سيغدو عما قريب زعيم ثورتهم

سقطت الوزارة الأوربية ولكنها ألفت من جديد برياسة الأمير توفيق، فلقد رفض قنصلا إنجلترا وفرنسا أن يرأس إسماعيل نفسه الوزارة كما طلب. ولقد أرادت الدولتان على لسان قنصليهما أن يدخل نوبار الوزارة الجديدة فرفض الخديو وصمم على الرفض ورأت الدولتان مبلغ حرص إسماعيل على إبعاد نوبار، فاشترطتا انهما تقبلان ذلك إذا أعطى العضوان الأوربيان في الوزارة حق (الفيتو) على قرارات مجلس الوزراء، ورضى إسماعيل بذلك فصار للعضوين الأوربيين حق إيقاف أي قرار لمجلس الوزراء لا يوافقان عليه؛ ومعنى ذلك انهما صارا يحكمان البلاد حكما ديكتاتورياً لا يدع للخديو في مصر سلطة أو ظلها!

وآن لمجلس شورى النواب أن يخطو خطوة ما كان أعظمها من خطوة؛ نمى إلى المجلس فيما نمى إليه من أنباء الوزارة الأوربية أنها تأتمر بالمجلس وتنوي التخلص منه فصمم الأعضاء ألا يتفرقوا وإن يظلوا في أماكنهم للنظر في شؤون البلاد في تلك الآونة العصيبة. . . ألسنا نرى في ذلك صورة مما حدث في فرنسا في مستهل عهد ملكها لويس السادس عشر، حين اشتدت الضائقة المالية ورأى نواب الشعب وجوب العمل على وضع حد لسوء الحال؟ لقد أدت الظروف إلى أن يصبح مجلس شورى النواب تلك الهيئة التي لم يكن لها حول ولا قوة - هيئة تحاسب الوزراء وتملك حق إقصائهم عن مناصبهم إذا ما تهاونوا في حقوق البلاد

لقد كان لشريف الفضل كل الفضل فيما وصل إليه المجلس من حقوق حتى ليعد شريف بذلك مؤسس الحركة الدستورية في مصر.

كان المجلس في وزارة نوبار قد أرسل إلى السير ريفرزولسن وزير المالية يدعوه ليحضر أمامه ليسأله عن بعض الأمور، فسوف وما طل ولم يحضر أو يرسل إلى المجلس شيئاً مما طلب المجلس أن يطلع عليه من المشروعات؛ وضاق المجلس بما فعل وزير المالية وأصبح يفسر عمله بأنه إهانة موجهة إلى الأمة في أشخاص نوابها

وفي وزارة الأمير توفيق استصدر وزير الداخلية رياض باشا أمراً من الخديو إلى النواب بأن مدة مجلسهم قد انتهت فعليهم أن ينفضوا؛ وذهب رياض يتلو على النواب هذا الأمر؛ وهنا وقف النواب وقفة جديرة أن تفخر بها مصر فيما تفخر به من مواقف البطولة، فلقد رفضوا أن يذعنوا، وهددوا رياضاً بما عساه أن يقع من الحوادث في البلاد تجاه سياسة الوزارة، وجعلوا تبعة ذلك عليها. . ولكم نرى من أوجه الشبه بين موقف هذا المجلس ومجلس طبقات الأمة في فرنسا حين وقف فيه نواب العامة يتحدون قرار الملك أثر صيحة ميرابو المدوية التي نقلت تاريخ فرنسا من فصل إلى فصل

ولكن النواب هنا لم يكونوا في الحقيقة يتحدون الخديو، ولقد كانوا يعلمون أنه يعطف على حركتهم ليتخلص بهم من تدخل الأجانب في شؤون مصر، ذلك التدخل الذي حرمه كل سلطة وإنما كان النواب يتحدون الوزارة الأوربية ويريدون أن يأخذوا السبيل عليها

وكانت مطالب المجلس يومئذ تنحصر في المسألتين الدستورية والمالية، أما أولاهما فتتلخص في أن تكون الوزارة مسؤولة أمام المجلس بحيث يصبح هيئة لها مكانها الفعلي في حكومة البلاد، وأما الأخرى فمؤداها أن يبحث المجلس المسألة المالية دون الأجانب وإن يقرر في أمر الدين والضرائب ما تمليه عليه مصالح البلاد.

وأصر النواب على تلك المبادئ فكانت حركتهم هذه حركة قومية بأوسع معاني تلك الكلمة؛ وكان يظاهر النواب أحرار البلاد من العلماء والأعيان والتجار، الذين لم تنقطع اجتماعاتهم في بيت البكري. وأخيراً اتفقت كلمة الجميع على أن يتوجهوا إلى الخديو بما عرف باسم اللائحة الوطنية، وفيها يعترض النواب على اقتراحات ريفرز ولسن التي كانت ترمي إلى إعلان إفلاس مصر، ويقررون أن إيرادات مصر تفي بدفع ديونها؛ ويطلبون إلى الخديو تقرير مبدأ مسؤولية الوزارة أمام المجلس وتأليف وزارة وطنية تقوم مقام هذه الوزارة الأوربية التي ضاقت بسياستها البلاد. . .

ولقد وضعت هذه اللائحة لجنة من النواب تحت إشراف شريف؛ فكانت هذه اللائحة الخطيرة كبرى حسناته إلى هذه البلاد كما كانت أهم خطواته السياسية وأبعدها في مجرى الحوادث اثراً؛ ووقع على اللائحة ستون من أعضاء المجلس ومثلهم من العلماء وفي مقدمتهم شيخ الأزهر والبطريرك والحاخام، كما وقع عليها عدد كبير من الأعيان والتجار والموظفين والضباط، ورفعت بعد ذلك إلى الخديو فرأى أن قد حان الوقت ليوجه إلى النفوذ الأجنبي ضربة قوية، فالبلاد من ورائه تؤيده وتشد ازره، ولذلك لم يتردد في الموافقة على اللائحة، وسرعان ما هزت فعلته البلاد هزة قوية، هزة الفرح بانتصار الحركة الوطنية والأمل في مستقبل تحطم فيه البلاد أغلالها وتنعم فيه بالراحة والرخاء

واستقالت وزارة توفيق، فاتجهت الأبصار إلى شريف وأنفقت عليه القلوب والأهواء، فما لبث أن تضاعف سرور البلاد بأن أسندت إليه رياسة الوزارة الوطنية، واصبح شريف زعيم الحركة الوطنية ورئيس وزارة الأمة فكان بذلك في مصر صاحب الرياستين

(البقية في العدد القادم)

محمود الخفيف