مجلة الرسالة/العدد 295/المصور

مجلة الرسالة/العدد 295/المصور

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 02 - 1939



شاهدت حاكية تأتي على الصوَرِ ... كأنما يتحدى رسمها القدرا

فقلت خلق بلا سمع ولا بصرِ ... لينفخ المرء فيها الروح إن قدرا

محمود غنيم

رسالة المرأة

فن التجميل والمرأة في مختلف العصور

للآنسة زينب الحكيم

بينت في مقال الأسبوع الماضي نشأة فن التجميل، وأوضحت اتجاه المرأة بالنسبة له. واليوم نتحدث عن فن التجميل في مختلف العصور.

استفسرت من أميرة كردية في راوندوز عن الوسائل التي يتزين بها بعد أن أثنيت على جمالهن، وعجبت إذا كان كله من إبداع الطبيعة! فقالت: إننا نحن الكرديات ليست لنا أسرار. قالت ذلك علناً أمام رجلين من الأكراد كانا في مجلسنا. وعندما هممت بالانصراف، وجدتها تستبقيني لحظات بعد انصراف الرجلين، وانتحت بي ناحية خاصة من الحجرة الكبيرة، ثم قالت: الآن أستطيع أن أصدقك القول جوابا عن سؤالك لي عن وسائل زينتنا. ورفعت غطاء حريرياً ثقيلاً عن صندوق، فلما فتحته أوضحت لي محتوياته، فأرتني نوعاً من المسحوق الأبيض غير النقي، وقالت: هذا نوع من تربة بلادنا كردستان نستعمله لتبييض وجوهنا بعد أن نمزج قليلاً منه بالماء

ثم أرتني نوعاً من الكحل ونوعاً من الدهن يستعملنه لشعورهن، وأطلعتني على عدد من مناديل اليد الحريرية الزاهية الألوان، هذا إلى جانب الحلي الذهبية الكثيرة التي تحملها فوق رأسها وصدرها وأطرافها، والثياب الفخمة الثقيلة التي تلبسها وأسّرت إليّ: (إننا كجميع النساء لا بد لنا من بعض الأسرار)

وما كان أشبه هذا الحادث بما حصل مرة مع أميرة هندية، سئلت عن وسائل تزينهن قالت: (ليس لنا نحن الهنديات أسرار لأننا كجميع النساء كلنا أسرار) ومع ذلك، فقد كانت تحمل أنواعاً من صناديق المراهم والدهون أينما ذهبت، ووسائل تزين هاتين (الكردية والهندية) توضح أبسط وسائل الزينة وأيسرها اتباعاً

وفي الحق أن التفاني في اللجوء إلى الجمال المصطنع، والتغالي في إتقان فن التجميل دلت عليه نهضة صناعة قديمة تضارع أقدم الحضارات

فقد أوضحت الاستكشافات الأثرية، وبرهن التاريخ، على أنه قد وجد في مقابر قدماء المصريين، وعلى زهريات اليونان، وفي نقوش بابل، وفي الفسيفساء الروماني، أن الدهون قد استعملت بكثرة غامرة، بحيث تجعلنا نتخيل أن الوسائل التزين والتجميل استعملت في تلك الأيام بحالة لا يمكن أن تكون أقل انتشاراً مما هي عليه في أيامنا

فطالما وجدت تحت أكوام الآثار القديمة عشرات الآنية التي احتوت على أنواع الكريم والأصباغ وسوائل التدليك من كل صنف

أما المرأة الرومانية واليونانية كما يقرر عنها أتنيس فقد استعملت مسحوق المحار الأرجواني اللون (كالروج) للوجنتين، واستعملت للشفاه أحمرها المعتاد. ومن المشاهد أن هذا اللون الأرجواني لصبغ الوجنتين، قد أعيدت بدعته من نحو سنتين، ولا يزال يعرض في الأسواق اليوم وتستعمله بعض السيدات؛ وهذا دليل على تقصي مهرة مصنفي وسائل التجميل لتاريخ فن التجميل، ودراستهم لنفسية المرأة، وتتبعهم تفننها وتنوّع ميولها في مختلف الحقب

أما المصريات فقد استعملن الكحل (الأثمد)، ومن الغريب أنهن كن يسودن طرفي الفم بحيث يصل طول الخط الأسود الممتد من طرف الشفتين نحو سنتمتر أو أكثر قليلاً، وتوجد نماذج من التماثيل التي توضح ذلك في المتحف المصري بالقاهرة

والأثمد يستعمل الآن بكثرة في الشرق الأدنى لتسويد الأهداب، وإظهار الحواجب، وتفخيم العيون، وكان يستعمل معجوناً كدهان للجفون السفلى مما أكسبها نظرة جذابة، ولعل (الرِّمل) الذي يستعمل الآن هو اختراع مهذب عن ذاك

والإنجيل يخبرنا أن الزيوت العطرية كانت تستعمل لدهن الشعر، وكثير من رءوس الموميات المصرية وجدت مغطاة بآثار شعر مصفف بطرق أنيقة لتجعيد الشعر وكيه وقصه ووجدنا أن الزهريات الرخامية الفاخرة، تحتوي على مراهم يرجع تاريخها إلى 3500 عام قبل الميلاد.

ووجدت مرايا من أيام الأسرة السادسة، أي من نحو 2600 سنة قبل الميلاد، وأقلام لتزجيج الحواجب من عهد الأسرة الثامنة عشرة أي منذ 1500 سنة قبل الميلاد

وبفحص ما عثر عليه من آثار توت عنخ آمون الفخمة في مقبرته، وجدت آنية تحتوي على عطور لا تزال باقية من نحو 3300 سنة

وكان السعتر والمر، والبخور والناردين، وأنواع الزيوت ولا سيما زيت السمسم واللوز والزيتون، كلها كانت المواد التي استعملت في أقدم أصناف الدهون، وكثير منها استخدم مع الكحل، والحناء التي استعملت لصبغ الأصابع والأقدام، ولا يزال يستعملها بعض الناس إلى اليوم

بل لقد اختص المصريون باختراع أغطية متقنة من الذهب والفضة، لتغطية أظافر السيدات وتجميلها، فكانت ترفع أو تستعمل وفق التقاليد.

ولعل الطلاء الأظافر الفضي اللون والذهبي الذي يستعمل اليوم، طريقة أسهل وأرخص من ذاك الاختراع الذي أخذت عنه على ما يظهر

والإسلام يأمر باتخاذ الزينة والتطيب، والنظافة الشخصية. واستعمل العرب السواك كفرجون للأسنان

واستعلمت الرومانيات الزنك الأبيض والطباشير لتبييض وجوههن في بعض الأزمنة، كما استخدمن الكحل لأعينهن، والأحمر لوجناتهن وشفاههن

أما النساء المتمدنات اللائى وجدن في الآثار القديمة فقد عرف أنهن استعملن مسحوقاً لطلاء الأسنان، صنع من نوع من الأحجار. . .

وصنعت أنواع الكريم للتجميل من دقيق الشعير والزبد. وبيض النساء شعورهن بطريقة يظهر أنها تشبه الطريقة البلاتينية التي اخترعت في أيامنا

وكانت مناضد زينتهن تحمل ثلاثة أصناف من الدهون في أوان قيمة، كما استعملن أنواعاً من الذرور الثمينة مثلما يستعمل نساء اليوم

وشاع استعمال العطور والمساحيق وحمامات اللبن ووسائل تجميل أخرى في أظلم الأوقات من العصور الوسطى! بل لقد عمت البدع المتبعة، ونقلت من الشرق إلى الغرب وبالعكس بواسطة الصليبيين الذين أحضروا الفرسان وعرفوهم أسرار التجميل التي كانت محفوظة في (الليفان أي شرقي بحر الروم

أسباب لها تأثيرها في طابع الأمم

في سنة 1770م قدِّم اقتراح للبرلمان الإنجليزي، يهدد بتحريم أي زواج لإحدى رعايا الملك إذا استعملن الروائح والأصباغ والدهون، كما حرم اتخاذ الأسنان الصناعية وغيرها. ولست أدري إذا كان هذا الاقتراح هو السبب في شدة اعتدال المرأة الإنجليزية في استخدام أصباغ الوجه، وانصرافها عن عمليات التجميل التي تحسن الأسنان الشائهة مثلاً، فإن الإنجليز ناس تقاليد ونظم!

وهل يمكن أن يكون هو السبب ذاته في عدم تشجيع القوم هناك على العناية بالنظافة الشخصية، مضافاً إلى ذلك حالة الجوّ! أظن أنهما معاً السبب المباشر في الروائح التي تنبعث من بعض المجتمعات الإنجليزية مما ينفر من حضورها أو الإقبال عليها، لا سيما إذا ما كانت في أمكنة ضيقة

حاولت بعض المستعمرات الأمريكية أن تسن قوانين مشابهة لتلك، قاصدة إلى إحباط نشاط المرأة في سبيل التزين ولكنها لم تفلح كثيراً

أما النساء الفرنسيات في بلاط لويس الثالث عشر فكان لهن ملء الحرية في استعمال الدهون من أغلى الأنواع، وبذلك ساعدن على اختراع وتركيب العطور والكريمات وجميع المنتجات التي تزيد من جمال المرأة على أساس صناعي تجاري

وأظن من الواضح ما نشاهده من تأثير تلك الحرية بالنسبة لفن التجميل عند المرأة الفرنسية التي تغالي جداً في استخدام الأصباغ والعطور بحسن تصرف وذوق حسن كما سبق أن نوّهنا

ولقد روج هذا، دون ريب، تجارة وسائل الزينة وصناعتها، وأحدث موجة من نوع خاص في جملة بلاد ولا سيما في الولايات المتحدة

فمثلاً حلاقو الشعر وأصحاب محال التجميل وأطباء جراحات التجميل للوجه والجسم، وغير هؤلاء من الأخصائيين تعاونوا مع الصيدليين والمجربين على اختراع طرق ووسائل لما تركته الطبيعة بدون تشكيل حسن في نظر العصر وذوق التطور، أو ما سببه شذوذ الخلقة من نقص أو ما فعلته تأثيرات ظروف حياتنا الحاضرة ومن عوامل التوفيق أن تدخلت الحكومات في هذا العمل من ناحية تقييد المقادير ومراقبة المركبات الكحولية خصوصاً المركبات السائلة

أما الصناعات الإضافية مثل صناعة القوارير الجميلة للروائح وآنية الذرور وأصباغ الشفاه وأشباهها فساعدت كثيراً على رواج استعمالها

على أنه مع كل الذي أسلفنا لا يزال هناك معارضة من بعض النواحي للتزين واستخدام الأصباغ: من ناحية الفضيلة من جهة، ومن جهة أخرى من ناحية مبدأ الإنسان الشخصي الذي لا يتفق والصورة المصطنعة التي تظهر بها الفتاة الحديثة والسيدة المقلدة

ولكن ما العمل و (الموضة) معلمة شاقة الرسالة والتطور سنة الحياة؟

إن كثيراً مما يظهر مجرد بدعة وعجب لأول وهلة أصبح ضرورة ملحة في سبيل المجاهدة للحياة التي يتعرض لها كثير من السيدات اللائى يضطلعن بالوظائف والحياة العملية

فعارضة الأزياء، والبائعة، والتشريفية، والزوجة، والفتاة التي تنتظر الزواج، عليهن جميعاً أن يكن أنيقات غير متبرجات، ولا داعي لأن ننبه الأذهان أيضاً إلى ما يستلزمه موقف الممثلة والراقصة والمغنية

لقد أصبحت روح العصر تحتم أن تكمل ما ننقصه الطبيعة، وأن نصلح ما تخطيء فيه، لهذا تقدم المختصون في التجميل بأنواعه جالبين معهم جميع ما يستطيعونه من المغريات للتزين ومحرضين عليه بشتى وسائل الإعلان.

لا عجب إذا في نهوض فن من أقدم الفنون، تدرج في نشوئه من مئات السنين، وليس مما يطمس هذه الحقيقة، أو يحط من قدر الفن ذاته، الفكرة التي سادت بين الناس من نحو قرن أو أكثر قليلاً، وهي أن الوسائل الاصطناعية للتجميل ليست إلا مغريات لسفلة نساء الأمم. إنما شدة مغالاة النساء في التزين راجعة إلى قفزة عنيفة قفزتها المرأة لتحطم بعض ما تبقى من القيود الثقيلة التي شلت حركتها، وعطلت تفكيرها طويلاً.

وما إسرافها الذي نلحظه ولا نوافق عليه إلا رد الفعل الذي يأتي بعده الإصلاح والتوجيه، وهذا ما سيكون موضع عنايتنا إن شاء الله.

زينب الحكيم