مجلة الرسالة/العدد 295/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 295/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 02 - 1939



الحياة

للدكتور محمد محمود غالي

من البويضة للشيخ - فيم تختلف المادة الحية عن المادة عديمة الحياة - الكربون مكون أول للحياة - ذرة الراديوم - الشبه بين الحياة والمغناطيسية والنشاط الإشعاعي - أعمال (ليب) - إمكان تطور البويضة والحصول على كائن لا يحافظ على جنسه - آمال للتجديد في هذا السبيل

نرقي مدارج الحياة، وننتقل خلال ذلك من حالة إلى أخرى، من طفل يلهو ويعبث بما يراه، إلى غلام يلعب ويعنى بتافه الأمور، إلى شاب ممتلئ حركة ونشاطاً، يكبُ على العمل ويقوم بدوره في المجتمع، إلى رجل يهتم لأبنائه أكثر من اهتمامه لنفسه، إلى كهل يتهالك في خدمة عشيرته وبلاده، ثم إلى شيخ لا يستطيع قليلاً ولا كثيراً، يستند إلى عصاه إن تعسر عليه المسير، اكتفى بمقعد في حديقة المنزل، حتى إذا تعسر عليه هذا أيضاً قضى أيامه الأخيرة في مضجعه، طوراً بين ذكريات الماضي ومرارة الحاضر، وتارة بين الداء وزجاجة الدواء، كلنا نعرف آخر القصة، وكلنا نعرف نهاية الهرم المحتوم.

هذه طريق الحياة، كلنا عابرها، من البويضة الضئيلة في الرحم قبل مولد الطفل، إلى هيكل مهجور في الرّمس بعد التجرد من الحياة - ترى ما هي الحياة؟ وفيم يختلف الإنسان عن العصفور، والعصفور عن التفاحة، وهذه عن المحبرة التي نستعين بها لنبعث للقارئ بهذا النوع من التفكير.

لقد ذكرنا أن جزيئات المادة عديمة الحياة هي ذرات كيميائية، وأن الذرات تتركب من نواة مركزية يدور حولها إلكترونات. وذكرنا أن المركبات المادية للكائن الحي هي ذرات كيميائية مألوفة، وأن العلماء يعتقدون أنه قد حدث أن مجموعة من هذه الذرات تجمعت بطريق المصادفة بالكيفية الموجودة بها اليوم في الخلية الحية، وتساءلنا: هل المادة الحية هي مجموعة من الذرات المادية، أم هي هذه المجموعة مضافاً إليها الحياة؟

أما أن المادة الحية تختلف عن المادة التي لا حياة بها اختلافاً يدل على وجود عناصر كيميائية جديدة لا نعرفها في الثانية، فهذا لا يقوم عليه أي دليل، فكل أنواع الذرات الموجودة في إحداهما موجودة في الأخرى، فلا فارق هناك بين مادة ومادة من حيث أنها عناصر كيميائية

على أن الذي يستطيع أن يؤكده العلماء، أن المادة الحية مركبة من ذرات معتادة، لا تختلف إلا في أن لها قابلية عظيمة للتماسك أو التجمع في جزئيات كبيرة بنوع خاص، بمعنى أن معظم الذرات الأخرى المكونة للمادة المجردة عن الحياة ليس لها هذه الخاصة. خذ مثلاً الماء باعتباره المادة الأكثر شيوعاً أمامنا على سطح الأرض، فإن ذرات عنصرية الهيدروجين والأوكسجين تتحد لتكون إما جزئيات هيدروجينية أو أكسوجينية أو ماء

على أن أياً من هذه المركبات لا يحوي أكثر من أربع ذرات، كذلك لا يتغير الوقف بإضافة الأزوت، فإن جزئيات مركباته مع العناصر السابقة تحوي ذرات قليلة؛ بيد أن وجود الكاربون مع هذه العناصر يغير الموقف كلية، إذ تتحد ذرات هذه العناصر مع الكاربون لتكون جزئيات تحوي الواحدة منها آلافا بل عشرات الآلاف من الذرات، ويتكون جسمنا الحي من هذا النوع من الجزئيات الكبيرة

وقد كان يعتقد العلماء، منذ قرن من الزمان، لزوم قوة حيوية خاصة، لإحداث هذه الجزئيات الكبيرة. على أن (فولر) استطاع بالوسائل الكيميائية أن ينتج أحد المركبات البولية (? وهو نتاج حيواني كما تمكن علماء غيره من الحصول على مركبات حيوية أخرى

ونعد إلى الكلام على ذرة الكاربون العجيبة في كونها مكونة أولى للحياة، فنرى أنها تتألف من ستة إلكترونات تدور حول نواة مركزية، كستة سيارات تدور حول الشمس، ولا يختلف الكاربون عن البورق والأزوت أقرب الذرات شبهاً به في الجدول الكيميائي، لا في أنه يزيد سياراً واحداً عن البورق، كما ينقص سياراً عن الأزوت، ويبدو أن هذا الفارق البسيط هو الذي يعين كون المادة كاربوناً أو غيره، وبالتبع يعين إمكان دبيب الحياة فيها، أو استحالة ذلك

ومن هنا نتساءل، عما إذا كانت الذرة التي لها ستة سيارات تدور حولها، لها خواص استثنائية ترجع بها لسر من الأسرار العلمية التي لم تكشف لنا؟ إن الرياضة الطبيعية، كما يقول السير جينز لا تجيبنا اليوم على هذا السؤال وتدلنا الكيمياء على ظواهر أخرى تشبه ذلك أشار إليها السير جينز في كتابه وتبدو في نظري أهم ما في هذا السفر الجليل، فالمغناطيسية مثلاً تبدو واضحة في الحديد (وذرته ذات 27 إلكترونا) وتبدو بدرجة أقل في النيكل (وذرته ذات 26 إلكترونا) وفي الكوبلت (وذرته ذات 28 إلكترونا) ويلاحظ أن لذرات هذه العناصر الثلاثة عدداً من الإلكترونات متتابعاً، كما يلاحظ أننا لا نرى في كل العناصر المادية الأخرى المعروفة لنا أي أثر للمغناطيسية، فالمغناطيسية إذن ظاهرة خاصة بالذرات التي لها هذا العدد من الإلكترونات

ولدينا في العلوم الطبيعية مثال آخر، هو النشاط الإشعاعي، وهو ظاهرة نراها في العناصر التي لذراتها من 83 إلى 92 إلكترونا والتي تبدأ في البيزميث ورادون الراديوم وتنتهي في الأيرانيوم، وقد بينا بالشكل الكيفية التي عليها ذرة الراديوم وفق بعض الاتجاهات الحديثة، فهي كما تراها مركبة من نواة وسطى يدور حولها عدد كبير من الإلكترونات يبلغ 88 إلكترونا كما هو مبين بالشكل.

على أن هذه المقارنة بين المغناطيسية كظاهرة والنشاط الإشعاعي الذي يبدو ظاهراً في الراديوم كظاهرة أخرى، هذه المقارنة توجهنا إلى أن نضع الحياة في قائمة الظواهر الطبيعية الأخرى كالظواهر المتقدمة

وعلى هذا الأساس، فإن العالم مربوط بقوانين معينة، وفق هذه القوانين يبدو أن للذرات التي لها عدد معين من الإلكترونات (6 ثم من 26 إلى 28 ثم من 83 إلى 93) لها خواص مُعينة، يطهر أثرها في الأولى بالحياة، وفي الثانية بالمغناطيسية، وفي الثالثة بالنشاط الإشعاعي وفعل الراديوم.

فالذرة إذن في جزيء المادة الحية لا تختلف في مجموع ما فيها عن الذرة في المادة المجردة عن الحياة، ولكلتيهما إذن نظام أشبه بالنظام الشمسي للمادة الذي سبق التحدث عنه، وإن كان من الصعب أن نمثل على الورق جزئيا من المادة الحية لكثرة عدد ذراته وبالتابع إلكتروناته كما مثلنا على الورقة الآن ذرة الراديوم. وبعبارة أقرب للوضع العلمي: إن كل ما يؤلف المادة الحية هو جسيمات أو كهارب في حركة ممكن إرجاعها يوماً إلى علاقات ترتبط بالبحرين الكبيرين اللذين يغمران كل الكائنات: الحيز والزمن، وبعبارة واضحة: إن المادة الحية كالمادة عديمة الحياة، ترجع في النهاية إلى حركة أو اعتبارات إلكترونية في الزمان والمكان.

بقى أن نتساءل عن أمرين:

الأول: هل يجوز إذن، ابتداء من مادة عديمة الحياة، أن نحصل في مختبراتنا على مجموعة من المواد الحية كالمجموعة المكونة لنا؟ أي مجموعة لها خاصية التناسل والتكاثر والمحافظة على نوعها؟

الثاني: هل في مجموعة الظواهر الحيوية ما يفسرها بموضوعات طبيعية كيميائية؟ وبعبارة أوضح، هل يمكن بمعلوماتنا الحالية، وبالرجوع إلى الميراث العلمي أن نرجع مجموع الظواهر الحيوية إلى موضوعات طبيعية كيميائية؟

ولو أننا بعد التحري الجدي، وجدنا الإجابة على الأمرين بالإيجاب، لجاز لنا أن نعتقد أننا كالتفاحة التي نأكلها، والمحبرة التي نكتب بها، بل لجاز لنا أن نعتقد أن لحياتنا الاجتماعية والأخلاقية، أساسا علمياً، يرجع إلى قواعد تتوافق مع نتائج البيولوجيا العلمية والطبيعية النظرية التجريبية

أيستطيع البيولوجيون والطبيعيون أن يرجعوا يوماً كل مظاهر الحياة، كل ما فيها من صفات وغرائز موروثة، حتى عظمة الرجل الذي يموت في سبيل بلاده وهو راض، حتى حنان الأم التي تتفانى في سبيل أولادها وهي سعيدة؟ أيستطيع العلماء إرجاع كل هذا، كل ما في الرجل من إرادة وآمال، كل ما في الأم من عطف وحنان، إلى حوادث داخل أجسامنا، تجد تفسيرها المادي في الكيمياء والطبيعة والرياضة؟ هذا ما أريد أن ألم به في ختام هذا المقال

للعالم ليب أستاذ جامعة بركلي بالولايات المتحدة كتاب الفكرة الميكانيكية للحياة، صادف نجاحاً في أمريكا، ترجمه إلى الفرنسية العالم المعروف هنري موتون أستاذ الكيمياء الطبيعية في السوربون، صادفت ترجمته أيضاً نجاحاً حتى أصبح البعض يعرف (موتون) بها أكثر مما يعرفه باكتشافه للألتراميكروسكوب وبأبحاثه في (تأثير المجال المغناطيسي على الظواهر الضوئية)

لقد لازمت موتون سنوات عديدة، وطالما جمعتنا الأيام منفردين في مَخْبَره بمعهد باستير، وطالما حدثني في العلوم بما لا يَمُتُّ لعملي في شيء، وكان لهذه الاجتماعات أثر في تكويني، وعجيب أنه لم يذكر (موتون) يوماً شيئاً عن (ليب)، ولم أشعر أن أعمال الأخير شغلت يوماً حيزاً من فكر صديقي العالم

وعندما افترقنا في سنة 1935 بوفاة (موتون) وبعودتي إلى مصر، اقتنيت بطريق المصادفة تلك الترجمة المتقدمة التي أخرجها الآن من مكمنها بين الكتب بعد أن ظلت محتجبة أربعة أعوام، لأستدل من رجل قضي سنين طويلة من حياته في البحث التجريبي على الإجابة على ما تقدم، ولأستدل على ما قد يُرضي رغبتي أن أجد في الحياة أمراً غير التفاحة التي نأكلها، والمحبرة التي أستملي منها

والواقع أنه قد نجح (ليب) وغيره نجاحاً باهراً في نواحي تجاربه العديدة، هذه التجارب التي هي آية في الدقة والتي تبعث على الإعجاب في الوصول إلى تفسير مادي لكثير من الظواهر الحيوية، هذه التجارب التي وإن انحصرت في مخلوقات كالأسماك والحشرات إلا أنها قد تمتد يوماً إلى الحيوانات العليا كالإنسان. وعند (ليب) وزملائه أن اتجاه الفراشة نحو الضوء في خط مستقيم ليس إلا أثراً ضوئياً - بل إن تلقيح البويضة وإمكان تطورها إلى مخلوق دون الالتجاء إلى الحيوان المنوي أو بالالتجاء إليه، له عند (ليب) ومعاصريه تفسير كيميائي طبيعي

على أنه إذا كان العلماء قد يحصلون الآن على مادة عديمة الحياة فإنه مما لا شك فيه أنه لم يمكن حتى الآن إلا تحضير مجموعة من نواة مختلفة للخلايا ولكنها مجموعة لا تصلح أن تكون خمائر تتكاثر وتحافظ على جنسها، بالشكل الموجودة فيه في الأحياء

لتكن عقائدنا بحيث يجمل بنا أن نمتلئ إيماناً بتقدمنا، يجمل بنا ونحن ندرس أعمال العلماء المجيدة أن نعتقد أنه إذا كان لم يتح لأحد منهم حتى اليوم أن يوجد المادة الحية بطريقة يتكون بها كائن يتناسل ويحافظ على جنسه من مادة مجردة عن الحياة فإنه ليس من حقنا ولا في مقدورنا العلمي، أن نجزم بأن هذه الغاية ضرب من المحال

إن أعمال (ليب) وغيره تدعو للإعجاب. وإذا كان قد نجح ونجح معه معاصروه في أن يُرجع كل التطورات التي تتم عند تلقيح البويضة إلى مسائل كيميائية طبيعية، بل نجح في تعهد بويضة لم يلقحها الحيوان المنوي بحيث نتج منها كائن له قلب ومعدة وهيكل عظمي، وتنقصه الدورة الدموية اللازمة لاستمرار الحياة، كائن استطاع أن يعيش على هذه الأرض شهراً من الزمان - فإنه ما زال أمام العلماء إحداث كل ذلك بالاستغناء عن البويضة نفسها وعن كل ما يمس الحياة.

أيستطيع إنسان أن يوجد، ابتداء من الذرات مهما تنوعت والإلكترونات مهما تعقدت، كائناً آخر؟ كائناً يتطور ويترقى ليكون يوماً أو بعد ملايين السنين مثلك ومثلي ومثل (موتون) و (ليب)؟ هذه مسألة ما زال العلم النظري والتجريبي بعيداً جد البعد عن الوصول إليها، وإن كانت العلوم التجريبية تحتم علينا ألا نعتبرها ضرباً من الخيال

على أنه عند القرب أو الوصول إلى هذه الحدود، يكون العلماء قد أحدثوا في العلم تطوراً يفوق بكثير ما أحدثه جاليليو ونيوتن في القرن السابع عشر، وما يحدثه بلانك وأينشتاين ودي بروي في العصر الحاضر.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية، ليسانس العلوم الحرة دبلوم

المهندسخانة