مجلة الرسالة/العدد 295/ما هي الحياة؟

مجلة الرسالة/العدد 295/ما هي الحياة؟

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 02 - 1939



وكيف ظهرت على الأرض؟

للأستاذ نصيف المنقبادي

وحدة النباتات والحيوانات

يعتقد جمهور الناس أن الحيوانات (ومن بينها الإنسان) والنباتات والجمادات يختلف كل منها عن الآخر اختلافاً جوهرياً كلياً. وكانوا يعلموننا في المدارس أن هناك عالم الحيوان وعالم النبات وعالم الجماد، وأن كلاً منها مستقل تمام الاستقلال عن غيره. ولا شك في أن من يلقي نظرة سطحية عليها يجد أنها تختلف في الظاهر. فالحيوان يتحرك، والنبات ينمو، والجماد يبدو كأنه ثابت لا يتغير. ولكن الذي ينعم النظر ويدقق على ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة يتضح له أن هذه كلها اختلافات ظاهرية لا حقيقة لها في الواقع

ونقصر اليوم حديثنا على وحدة النباتات والحيوانات (ومنها الإنسان) والصفات المشتركة بينهما وهي مميزات الحياة بعينها. ونبحث في مقال قادم عن وحدة الأحياء عموماً (الحيوانات والنباتات والجمادات) لنستخلص من ذلك ماهية الحياة وكنهها وكيف أنه ظاهرة طبيعية مثل باقي ظواهر الطبيعة. ثم نشرح في مقال آخر كيفية ظهورها على الأرض بفعل العوامل الطبيعية، وعلى الأخص طاقة الشمس التي كانت تشتمل في ذلك الماضي البعيد جداً على الكثير من الأشعة فوق البنفسجية وعلى إشعاعات أخرى أكثر مما تحتوي عليه الآن. وأخيراً نتكلم عن المواد المتوسطة بين الأحياء والجمادات كالخمائر الذائبة في الماء وكالمعادن الغروية المدهشة التي تتصرف مثل الكائنات الحية في أهم أحوالها

مميزات الحياة المشتركة بين الحيوانات والنباتات

نطلق على جميع الحيوانات (ومن بينها الإنسان) وجميع النباتات اسم (الأحياء) أو (الكائنات الحية). ونقول عن كل فرد منها إنه (حي). وهذا يدل على أنها تشترك جميعها في بعض صفات وظواهر هي التي تميز الحياة وتجمع بين الكائنات الحية على اختلاف طوائفها وأنواعها وأفرادها. كالشكل النوعي، والتكوين الخلوي، والتركيب الكيميائي، والتغذي، والتنفس، والتحرك الذاتي والتطور الفردي والنوعي. وسيرى القارئ أن هذ الصفات وإن كانت تميز - مجتمعة - الكائنات إلا أنها ليست خاصة بها كما سنثبت في مقال قادم، بل هي توجد ولكن مشتتة أو مبعثرة في الجمادات، وكل ما في الأمر أنها إذا اجتمعت في جسم واحد قيل عنه إنه (حي)

فلنستعرض هذه المميزات المشتركة لنقول كلمة موجزة عن كل واحدة منها لأن مقام التفصيل في كتب البيولوجيا. وحسبنا أن يكون فيما نورده هنا مقدمة أو تمهيد يسهل لقراء الرسالة الوقوف على الأبحاث الجديدة العظيمة التي كشف عنها العلم في الثلاثين سنة الأخيرة مما سنشرحه في المقالات القادمة.

الشكل النوعي: لكل نوع من الكائنات الحية شكل معروف خاص به يميزه من غيره لأول وهلة. وتستوي في هذا الحيوانات والنباتات، كما أن لبلورات الجمادات والمواد المعدنية المبلورة أشكالاً هندسية ثابتة بكل نوع كيميائي منها تميزه من سواه.

وأشكال الحيوانات والنباتات تظهر ثابتة في مدة معينة من الزمن. ولكن إذا نظرنا إليها خلال ملايين السنين - على ما تبدو لنا في البقايا المتحجرة في طبقات الأرض المختلفة التي تكونت في الأعصر الجيولوجية القديمة المتعاقبة نجد أنها غير ثابتة، بل أنها في تغير وتحول مستمرين بفعل العوامل الطبيعية، والمؤثرات الجوية وتقلباتها، وتنازع البقاء بين الفصائل والأنواع والأفراد وما يترتب على ذلك من الانتخاب الطبيعي وبقاء الأنسب وانقراض غير الملائم للبيئة الجديدة والظروف الطارئة. غير أن فعل الطبيعة هذا تدريجي بسيط لا يظهر أثره إلا في ملايين السنين فيخيل لنا أن أشكال الحيوانات والنباتات ثابتة على الدوام، ولكن الحيوانات والنباتات المتحجرة التي عثر ويعثر عليها العلماء كل يوم في مختلف طبقات الأرض في جميع أنحاء الكرة الأرضية تدلنا على عظم تحول الأنواع وتسلسل الحديث منها من القديم. ويكفي أن يزور الإنسان أحد المتاحف الجيولوجية في أوربا ليقتنع بهذه الحقائق الثابتة التي يؤيدها من جهة أخرى علم التشريح التقابلي وعلم تكوين الجنين (يراجع المقال القيم الذي نشره أخيراً عن هذا الموضوع بمجلة (الرسالة) للأستاذ عصام الدين حفني ناصف)

التكوين الخلوي: إذا فحصنا بالميكرسكوب أية قطعة من جسم الإنسان أو أي حيوان أو أي نبات نرى أنها مؤلفة من خلايا صغيرة متلاصقة لا ترى بالعين المجردة، والخلية مكونة من مواد زلالية بها قليل من مواد دهنية وسكرية، وفي وسطها نواة من مادة زلالية خاصة، ويحيط بها في أغلب الخلايا غشاء من مادة زلالية أخرى في الحيوانات ومن مادة السيليلوز (مادة القطن) في النباتات، والشكل العام للخلايا الحيوانية والنباتية واحد ولا سيما في الأدوار الأولى من تكون الجنين ولكن الخلايا تختلف بعد ذلك بعض الاختلاف في تفصيلاتها باختلاف وظيفة كل نسيج تدخل في تكوينه، كالخلايا العصبية وخلايا العضلات وخلايا الجلد وكالخلايا التي تدخل في تركيب الأوراق وأعضاء الزهرة والخلايا الخشبية والخلايا التي تؤلف منها الطبقة المولدة في غصون النباتات.

وتوجد إلى جانب هذا كائنات من خلية واحدة وهي الحيوانات والنباتات الأولية التي لا ترى إلا بالميكرسكوب، وكذلك كرات الدم البيضاء والحمراء

التركيب الكيميائي: تشترك جميع الأحياء من حيوانات ونباتات وإنسان في تركيبها الكيميائي وهو تركيب الخلية نفسها ونعني به ذلك الخليط من المواد الزلالية والدهنية والسكرية أو النشوية المتقدم ذكرها، وبعض مواد أخرى إضافية ثانوية قد توجد في بعض الخلايا ولا توجد في غيرها

التغذي: معلوم أن النباتات تتغذى مثل الحيوانات. ذلك أن مادتها الخضراء (الكلورفيل) تستعين بالطاقة الإشعاعية الكامنة في ضوء الشمس لتحليل غاز حامض الكربون المنتشر في الجو، وتنتزع منه الكربون: (الفحم) وتمزجه بالماء الذي تمتصه جذورها من الأرض فيتولد النشا الذي يتحول تارة إلى السكر وتارة إلى السيليلوز ومادة الخشب، وتتولد أيضاً على هذا النحو المواد الدهنية وتراكيب وأحماض عضوية أخرى ثلاثية: (مكوّنة من كربون وهيدروجين وأوكسيجين). وتمتص جذور النباتات في الوقت نفسه من الأرض - مع الماء - تراكيب الأزوت مثل الأزوتات: النترات وأملاح النشادر، وكذلك بعض مواد معدنية أخرى. وهذه المواد الأزوتية تمتزج بفعل قوة الشمس أيضاً بالسكر أو النشا، وبالمواد الدهنية والأحماض العضوية المشتقة من كربون الهواء على الوجه المتقدم بيانه، فتتولد المواد الزلالية التي هي أهم غذاء لها: أي النباتات وللحيوانات ومنها الإنسان. وخلاصة القول أن النباتات تتغذى مثل الحيوانات وتتناول لغذائها نفس المواد التي تتغذى بها الحيوانات وهي: المواد الزلالية، والمواد الدهنية، والمواد السكرية أو النشوية.

كما أن الغرض من التغذي واحد في الحيوانات والنباتات وهو، أولاً: توريد المواد اللازمة لتشييد بناء الأجسام الحية أثناء نموها وإصلاح ما يتلف ويستهلك منها. ثانياً: وهو الأهم، احتراق المواد الغذائية - بعد هضمها وامتصاصها - داخل أنسجة الجسم وخلاياه لتوليد الطاقة (التي كانوا يسمونها بالقوة فيما مضى). والحرارة اللازمتين للقيام بأعمال الحياة ووظائف الأعضاء.

التنفس: ويلحق بالتغذي التنفس، ولا يخفى أن النباتات تتنفس مثل الحيوانات أي أنها تمتص الأكسجين من الهواء وتفرز غاز الحامض الكربونيك، ولها مسام في أوراقها وغصونها لهذا الغرض، كما أن الغرض من التنفس واحد في الحيوانات والنباتات وهو احتراق المواد الغذائية لتوليد الطاقة (القوة سابقاً) والحرارة الضرورتين لأعمال الحياة. وقد عرف علماء الفسيلوجيا الحياة بأنها احتراق أو تأكسد

التحرك: والحركة لا تختص بها الحيوانات دون غيرها فإنه توجد - من جهة - طائفة كبيرة من الحيوانات السفلى تعيش ثابتة في مكانها لا تتحرك منذ نشأتها، وهي تتولد بعضها فوق بعض في قاع البحار فتتكون منا جزر وهضاب لها شأن كبير في علم الجيولوجيا مثل الحيوانات الجوفاء أو المرجانية وغيرها. وإلى جانب هذا توجد نباتات تتحرك حركة ذاتية من تلقاء نفسها مثل الأنواع المفترسة (يرجع المقال الذي نشر في هذا الصدد أخيراً بمجلة الرسالة للأستاذ رضوان محمد رضوان). ومن النباتات المتحركة النبات المعروف باسم المستحية ومنها فصيلة كاملة من النباتات الطحلبية المائية، وهي الفصيلة المسماة (بالمهتزة) ومنها جرثومة التلقيح في النباتات السفلى فإن لكثير منها شعرة طويلة في مؤخرها أو أهداباً عديدة حولها تستعين بها على العوم في الماء فتتحرك وتنتقل وتروح وتجيء، لا فرق في ذلك بينها وبين الحيوانات الصغيرة ذات الخلية الواحدة ولهذا سميت أي الجرثومية التلقيحية الحيوانية، وهي نبات محض

ولولا ضيق المقام لبينّا أن السبب في عدم تحرك النباتات في مجموعها يرجع إلى مادة السيليلوز الجامدة التي تتركب منها أغشية خلاياها فتمنع امتداد الحركات المحلية الحاصلة على الدوام داخل كل خلية وذلك خلافاً للخلايا الحيوانية

التلقيح والتناسل والتطور: تتناسل النباتات كالحيوانات للتلقيح في أغلب الأحوال (ولكن ليس في جميعها على الإطلاق) ويشتق أو يولد كل فرد منها من فرد مماثل له، ثم ينمو بالتغذية، ثم يتناسل ويتكاثر بدوره، ثم يضعف ويموت متأثراً بما يتراكم في أنسجته من بقايا احتراق المواد الغذائية ومن تعفن فضلات الطعام داخل جسمه قبل إفرازها، عدا الحيوانات والنباتات الأولية ذات الخلية الواحدة فإنها أحياء خالدة لا تموت إلا إذا طرأ عليها حادث مهلك يقتلها كأن يجف مثلاً الماء الذي تعيش فيه أو يفسد.

وحدة الحيوانات والنباتات

ينتج مما تقدم أنه ليس هناك فرق جوهري بين الحيوانات والنباتات حتى لقد حار العلماء في إيجاد حد فاصل بينهما أو محك للتمييز بين بعض الأحياء السفلى الملتبس في أمرها لمعرفة هل هي حيوانات أو نباتات. ولم يجدوا أمامهم غير فاصل واحد هم أول من يعترفون بأنه سطحي ظاهري ونعني به مادة السيليلوز التي تتركب منها أغشية الخلايا النباتية فإنه لا وجود لها في الحيوانات

ولكن هذا الفاصل غير شامل لجميع النباتات في جميع أدوار حياتها لأنه توجد بعض الأنواع السفلى من النباتات الفطرية من فصيلة الميكزوميست تقضي حياتها كلها أو معظمها دون أن تكون لخلاياها أغشية من أي مادة كانت. غير أنه إذا ساءت الأحوال الجوية أفرزت هذه النباتات حول نفسها مادة السيليلوز فتتقي بهذا تقلبات الجو. أما في باقي الفصول المعتدلة فإنها تعيش خالية من هذه المادة.

ثم إنه من جهة أخرى توجد في جميع الحيوانات مادة تعد شقيقة السيليلوز من الوجهة الكيميائية وهي السكر، فكلاهما مكون من امتزاج الفحم بالماء ولكن على نسب مختلفة في كل منهما. ولذلك أطلقوا على هذه المجموعة اسم (هيدرات الكربون) التي منها أيضا النشا ومادة الخشب

وهناك فاصل فسيولوجي بين الحيوانات والنباتات قد يكون أهم إلى حد ما من الفاصل المتقدم وهو كيفية التغذي في كل منهما. فقد قلنا فيما تقدم إن الحيوانات والنباتات تتغذى على السواء، وأنه لا بد لغذائهما من نفس المواد الزلالية والدهنية والسكرية، ولكن الفرق بينهما هو أن الحيوانات تتناول هذه المواد مركبة مهيأة من الحيوانات الأخرى أو من النباتات. أما النباتات فإنها بحكم تكوينها لا تستطيع أن تتناولها مركبة (مع استثناء النباتات المفترسة) بل تركبها أولاً من الهواء والماء والأرض بفعل قوة الشمس بواسطة المادة الخضراء (الكلورفيل) على الوجه المتقدم بيانه ثم تتغذى بها

على أن هذا الفاصل غير شامل لجميع النباتات، فإنه فضلاً عن النباتات المفترسة توجد طائفة أخرى كبيرة هي النباتات الفطرية المعروفة بعض أنواعها العليا عند الجمهور في مصر باسم (عيش الغراب) وهي خالية من المادة الخضراء فلا تستطيع أن تركب غذاءها بنفسها كما تفعل النباتات الأخرى ولكنها تتناوله مركباً - كما تفعل الحيوانات - من الأجسام الحيوانية والنباتية الأخرى. ومن أجل هذا نراها جميعها طفيلية تعيش على غيرها من الأحياء أو أجزائها الميتة أو مشتقاتها.

وعلى هذا تكون النباتات الفطرية الحلقة المتوسطة بين الحيوانات والنباتات، ولولا وجود السيليلوز فيها لعدها البولوجيون من الحيوانات. فهي نبات من جهة احتوائها على السيليلوز وحيوان من كيفية تغذيتها. وفي هذا الدليل الواضح على وحدة النباتات والحيوانات وعلى تسلسلها من أصل واحد وهو الجمادات كما سنبينه في المقالات القادمة.

نصيف المنقبادي المحامي

دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية

من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)