مجلة الرسالة/العدد 299/أبو تمام شيخ البيان

مجلة الرسالة/العدد 299/أبو تمام شيخ البيان

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 03 - 1939



للأستاذ عبد الرحمن شكري

هو حبيب بن أوس الطائي، وقد سبقه إلى صناعة البيان بشار ومسلم والحسن بن هاني، ولكنه ظهر بها ظهوراً كبيراً وحاكاه البحتري وغيره، وكان حقيقاً بسبب كثرة إجادته في تلك الصناعة أن يسمى شيخ البيان. وكان أبو تمام يقدم الحسن بن هاني ويلقبه بالأستاذ وبالحاذق ويجاريه في طريقته، ولكن أبا تمام قد بز ابن هاني أبا نواس في المدح ووصف الطبيعة، وإن لم يكثر منها وفي الرثاء والأمثال والحكم، وجاراه في وصف الخمر والغزل المذكر. وقد سئل البحتري عن أبي تمام وعن نفسه فقال: جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه. وهي قوله حق، فقد كان عند البحتري من حذر ذوي الصناعة وإحجامهم ما لم يكن عند أبي تمام الذي كان أكثر جرأة في صناعته. ولم يكن رديئه القليل عن جهل، فقد سئل فيه فقال: إن أبيات الشاعر كأبنائه فيهم الجميل وفيهم القبيح وكل منهم حبيب لدى أبيه الذي يعرف أيهم القبيح وأيهم الجميل. ولقد قال في إساءة ظن الشاعر بشعره ويعني نفسه:

ويسئ بالإحسان ظناً لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون

ولكنه يقول أيضاً:

من كل بيت يكاد المَيْتُ يفهمه ... حسناً ويعبده القرطاس والقلم

ولا غرابة في أن يكون قائل البيت الأول هو قائل البيت الثاني، فإن نفس الشاعر قد تتردد بين الثقة بقوله ثقة ليس بعدها ثقة، وبين الشك كل الشك في مرتبته. ولعل هذا الشك وإساءة الظن مما يحفزه على استئناف الإجادة والى الاستزادة من الإبداع كيلا يستنيم إلى ما أجاده من سابق قوله. والشاعر الجريء في صنعته البيانية يكون نصب نقد الناقدين، وعندما مدح أبو تمام أحمد بن المعتصم بقصيدته التي مطلعها: (ما في وقوفك ساعة من باس) أنكر بعض النقاد أن يشبهه بمن هم أقل منه منزلة في قوله:

إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس

ومثل هذا النقد يهدم صناعة التشبيه من أساسها لأنه لم يشبه الممدوح بهم في المنزلة، وإنما يكون للتشبيه وجه شبه خاص لا يتعداه اتفاق المشبه والمشبه به، وهذا النقد يدل إما على الإفراط في تملق الممدوح والمغالطة مع علم، وإما على جهل بالصناعة البيانية. وقد دفع أبو تمام حجتهم بأن زاد في المديح قوله:

لا تنكروا ضربي له مَنْ دونه ... مثلاً شرُوداً في الندى والبأس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس

وأمثال هذا النقد اللفظي كثير فقد انتقدوا أيضاً قول أبي تمام:

دنيا ولكنها دنيا ستنصرم ... وآخر الحيوان الموت والهرم

وقالوا: إن الهرم يأتي قبل الموت ولكنه أخره وقدَّم الموت. وهذا اهتمام بالصغائر، فقد كان في استطاعة الشاعر أن يقول: (وآخر الحيوان الشَّيبُ والعَدَم) وقد فعل المتنبي ما هو أشد من ذلك وكانت له عنه مندوحة عندما قال:

جفخت وهم لا يجفخون بِهَابهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل

يعني جفخت أي فخرت بهم وهم لا يجفخون بها، وكان يستطيع أن يقول: (فخِرتْ بهم وهُمُ بها لم يفخروا) فيستقيم الوزن والأسلوب ولكن هذا لا يؤخر الشاعر الكبير ولا يقدمه. ومثل هذا النقد يغري به الشعراء أنفسهم عند الملاحاة فقد ورد في كتاب العمدة لابن رشيق أن مسلم بن الوليد انتقد قول أبي نواس

ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا ... وأمله ديك الصباح صياحا

وقال: كيف يجتمع الارتياح والملل؟ كما انتقد أبو نواس قول مسلم

عاَصي الشباب فراح غير مُفنّدٍ ... وأقام بين عزيمة وتجلد

وقال كيف يجتمع الرواح والإقامة؟ وفي كل من البيتين يريد الشاعر اجتماع حالات نفسية مختلفة الأسباب. على أن أبا تمام قد يأتي في الفلتات بما لا يستجاد مثل قوله:

بلد الفلاحة لو أتاها جَرْوَلُ ... أعني الحطيئة لاغتدى حَرَّاثَا

و (أعنى) هنا أثقل من الرصاص

وقد عد بعض أدباء العصر أبا تمام من شعراء الرمزية، وهذا في رأيي غير صواب، لأن كل شاعر يستخدم الرموز، ولكن ليس كل شاعر من أدباء الرمزية. وأستطيع أن أفهم سبب عد أبي تمام من شعراء الرمزية، وإن لم يكن كذلك، فإنه يكثر من استخدام التشبيه والاستعارة والمجاز، فللاستعارة رمز والكناية رمز. ولكن شعراء الرمزية في أوربا تخطوا منزلة الاستعارات والكنايات وصاروا يرمزون إلى حالات نفسية بأشياء مادية وبألفاظ أو جمل، ويقطعون الصلة بين الرموز وما يرمز لها بها اعتماداً على خيال القارئ وإحساسه وأحلامه وهواجس نفسه الغامضة، وأحياناً يستخدمون رموزاً مدلولها أشياء مادية ويرمزون بها إلى تلك الهواجس الغامضة في الوعي الباطن، وهي لغموضها لا تستطيع عقولهم الظاهرة تفسيرها إلا بتلك الرموز. وهذه طريقة لم يكتب فيها شاعر عربي. أما طريقة أبي تمام فهي طريقة الصناعة البيانية المألوفة وإن كان قد أبدع وأغرب فيها، وشعره شعر الخيال المشبوب بنار الشاعرية، والجيد من شعره يجمع بين القوة والحلاوة وإقناع الصنعة الفنية، وهي ليست صنعة ألفاظ فحسب بل صنعة ألفاظ وخيال وإحساس وذكاء وعقل وبصيرة. وترى في قوة الجيد من شعره قوة الخطيب، ولا أعني، أن الشاعر خطيب فللخطيب صفات قد تدابر صفات الشعراء، وإنما أعني أن لشعره قوة تشبه وقع خطاب الخطيب في الأذن فكأن له صوتاً يسمع. وإذا كان للشاعر نفسه من صفات الخطيب فهي الصفات التي يقترب الخطيب فيها من عبقرية الشاعر ومن بصيرته النافذة وخياله المشبوب، وليست الصفات التي يقترب فيها الخطيب من فن الممثل وهي صفات عالية في فنها وفي الخطابة. ولا نأسف لإضاعة شاعر من شعراء العرب في التكسب بالمدح شعراً كان يكون أعظم شأناً في وصف الحياة والنفس قدر ما نأسف لإضاعة أبي تمام، فإن الرجل كان قادراً على أن يبلغ ما بلغه شعراء أوربا من وصف الحياة والنفوس ومظاهر الكون؛ على أن في شعره في المدح أشياء من هذه الأشياء. ولعل القارئ يقول: ولماذا لا نأسف على المتنبي قدر أسفنا على أبي تمام أو أكثر، وليس المتنبي بأقل منزلة وهو ذو بصيرة وخيال. ولكن أبا تمام كان عنده من نشوة الصناعة البيانية أكثر مما كان للمتنبي؛ وكان للمتنبي من قوة الشخصية وأثرتها أكثر مما كان لأبي تمام؛ وقوة الشخصية هذه لها أثر في الشعر يظهر في كل أبوابه وتجعل الشاعر يترك بعده دوياً كما قال المتنبي:

وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمعَ المرءِ أنمُلهُ العشْرُ

أما أبو تمام فإننا نقرأ أنه كان مولعاً بالخمر إلى حد الإفراط أحياناً، ونقرأ أنه سكر مرة في مجلس عظيم وعربد وحُمِلَ من المجلس بين أربعة، وأنه كان إذا اخذ صلة أمير أفناها بين الغناء والموسيقى والرياض والخمر والأوجه الوسيمة. وهذه الأمور ربما كانت تقلل نتاجه وتلهيه عن الشعر لو أنه لم يكن مضطراً إلى قرض الشعر في المديح أو الرثاء لكسب المار، فإننا عند ما نقرأ سيرة الرجل وشعره نميل إلى الاعتقاد أن الحياة عنده كانت شعراً يُعاشُ وأن الشعر عنده كان حياة تكتب أو شعراً يكتب، وأنه ما كان يلجأ إلى الشعر الذي يكتب إلا إذا سمح له أو اضطره شعر الحياة الذي يُعاش. ولعل هذا هو سبب إقلاله وسبب موته وقد تخطى الأربعين قليلاً. وإننا نتساءل ماذا كان يكون نتاجه لو كان من المعمرين من غير أن يفني قدرته الحيوية بالحياة؛ ولكن من العبث التأسف، فلعل إفناءه قدرته الحيوية بالحياة كان من لوازم نشوته الشعرية، وإن قدرته في صناعة البيان كانت من مظاهر انتشائه بالحياة، وانتشاؤه بالحياة ميز شعر التكسب في قوله عن شعر التكسب في أقوال الشعراء الكثيرين، فشعر التكسب في قولهم ألفاظ ميتة مهما حاولوا إحياءها بصناعة البيان أو بالأناقة، وكانت قوة شعره مستمدة من انتشائه بالحياة، فلم تكن قوة كتلك القوة في شعر بعض الشبان المبتدئين الذين يفتعلون القوة فيخيل للقارئ أنهم يخنقون ألفاظهم ومعانيهم كي تصيح كما تصيح الدجاجة إذا حاول الطفل الصغير أن يخنقها، وكانت ألوان البيان في شعر أبي تمام طبيعية كألوان الحياة بالرغم من أغرابه، ولم تكن كتلك الألوان التي وضعها القرد على ما لونه المصور في نقشه ورسمه، وقد انتهز القرد فرصة انشغال سيده المصور بأمر من أمور الحياة. وقد أسف المغاربة أيضاً لموت محمد بن هاني الأندلسي في سن مبكرة وكانوا يأملون أن يعمر حتى يفاخروا به أكثر شعراء المشرق، وكان لابن هاني بعض مقدرة أبي تمام ولكنه لم تكن له - ثروّته الشعرية في نفسه وكان كل منهما مولعا بشعر الحياة الذي يعاش. وجرأة أبي تمام في التشبيه والاستعارة والمجاز هي ما يصح أن يسمى بالجرأة الموفقة إلا في القليل من شعره، وهي تشبه في المبارزة بالسيف نوعا من الهجوم إذا أجاده المبارز نثر سلاح خصمه وأصابه في الصميم وإذا أخطأ المبارز في هجومه سقط وسلاح خصمه في قلبه.

(البقية في العدد القادم)

عبد الرحمن شكري