مجلة الرسالة/العدد 299/استطلاع صحفي

مجلة الرسالة/العدد 299/استطلاع صحفي

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 03 - 1939



جولة في مزرعة الجبل الأصفر

لمندوب الرسالة

في دار النيابة زوبعة نائمة ينتظر نواب الأمة أن يثيروها عندما يعرض الاستجواب الخاص بالتحقيق في مزرعة الجبل الأصفر. وبذلك سجلت هذه المزرعة لنفسها تاريخا خاصا وأثارت في نفوس القراء فضولا رأينا أن نشبعه بأن نقدم للقراء وصفا شاملا لما يحدث في تلك المزرعة متوخين في تحثنا أن نكون بعيدين كل البعد عن السياسة ومراميها.

الأرض المتمردة

على مسير20 دقيقة من المرج معهدان أولهما مستشفى المجانين، والثاني مزرعة الجيل الصفر. وكلاهما يقع في الصحراء بعيداً عن الناس. ففي الأول أناس اقتضت التقاليد عزلهم لما أصاب مراكز التفكير فيهم من خلل؛ وأما الثاني فبرغم بهائه ونضرته، وعلى رغم زرعه وضرعه، لم يجد الناس مندوحة من إقامته بعيداً عن عيونهم وأنوفهم، فمواد سماده من فضلات المجاري، فهي خطر على الصحة العامة لما تنقله من الجراثيم، وهي خطر على حاسة الشم لأن رائحتها كريهة، وهي خطر على المزاج لأنها تعكر صفوه وتشيع في الإنسان الكآبة: ولذلك اقتضت ضرورة الذوق السليم أن تخط مزرعة الجبل الأصفر في بقعة نائية من الصحراء

ولا يربط هذين المعهدين بالمرج إلا خط حديدي مفرد تسير عليه مركبة الترولي مرات معدودات أثناء النهار عندما ينتقل إلى سكان المزرعة البريد اليومي أو يحاول أهلها الاتصال بسكان العالم عن طريق الرسائل. ولو استطاعت الصحراء أن تتحدث لاتهمت المزرعة بالجنون كما اتهم به الناس سكان المعهد المجاور، فكلاهما خارج بل متطرف في الخروج على مألوف بيئته، فأينما وقفت من أطراف المعهدين تجد الأفق ينطبق على رمال الصحراء سوى هذه البقعة، فقد تمردت بفعل الإنسان فأرسلت من جوفها إلى العالم حياة طافحة بالخير والشر، وأشجاراً باسقة تعطي الظل والخشب، وأثماراً تدر على الإنسان الربح الوافر والغذاء الدسم

تلك الأرض التي كانت منذ سنوات صحراء جرداء تستوي مع جيرانها في أديمها الأصفر وهجيرها اللافح وشمسها المحرقة، أصبحت الآن بستاناً تهوى العين رؤيته وتتوق النفس إلى سكناه. وليس غرام البقعة قاصراً على عشاق الطبيعة الذين يحبون جمعها بين الصحراء وتلالها الرملية وبين الماء والخضرة، بل إن هذا الغرام يمتد إلى التجار. ألم تسمع عن الثورة القائمة في دار النيابة؟ وهل سمعت أيضاً بحديث القتيل الذي راح ضحية المنافسة عليها عند البيع والشراء؟ فإذا لم تكن تعرف هذا فتيقن أن المزرعة مصدر ربح وفير، فإنتاجها حسب تقدير قسم البساتين بوزارة الزراعة يزيد على اثنين وعشرين ألفاً من الجنيهات.

صيد طائرين بحجر واحد

أما مساحة المزرعة فثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسون فداناً حولتها فضلات المجاري إلى حالتها الراهنة، إذ استعملت سماداً عضوياً جيداً لتغذية الأرض حتى أنتجت الأشجار والأثمار المختلفة. ولكن المشرفين رأوا أن يستفيدوا من الأرض في التجارة بزراعة الموالح من برتقال ويوسفي بأنواعهما. أما البقول والفول والشعير فاقتصر زرعهما على الاستهلاك المحلي لسكان المزرعة الذين يزيدون على ألف نسمة

ويزرع من هذه المساحة ألف فدان موالح، وهي الأرض التي يسمح باستغلالها في التجارة، وبذلك تكون هي منشأ النزاع وإن شئت الدقة قلنا الاستجوابات المطروحة في دار البرلمان. ويزرع من المساحة الباقية 150 فداناً شعيراً ومثلها فولاً و30 فداناً غابات، ومثلها للنخيل وعشرة أفدنة للخضروات؛ أما الباقي فأراض بور لم يتم إصلاحها بعد، ولو توفر الماء لريها لصبحت كمثيلاتها؛ فالسماد العضوي الذي تجلبه إليها المجاري غذاء غني للنبات

وليست الناحية التجارية هي الأصل في إنشاء هذه المزرعة بل الغرض أسمى من ذلك، ففي مدينة القاهرة مجار تجمع الفضلات من المنازل لتلقيها بعيداً عن الناس دون أن تكلفهم مشقة التعب في النقل وإيجاد المكان. وهذه المواد يجب أن يقتل ما فيها من جراثيم كما يجب أن تستهلك لتنعدم رائحتها وحتى لا تزيد وتتكاثر بمرور الزمن. ولذلك فكر ولاة الأمور في إنشاء مزرعة يتغذى نباتها بتلك الفضلات، وبذلك يضربون طائرين بحجر واحد كما تقول الأمثال؛ فمن الناحية الأولى نجد مصرفاً دائماً للفضلات، ومن جهة ثانية نزرع الأرضة ونجني الثمار.

ولذلك لم تكتف المزرعة بالناحية المادية والتجارية، بل أرادت أن تضيف إلى الثروة الزراعية المصرية نباتات جديدة لم نعرف أثمارها من قبل فأدخلت زراعة بعض الفواكه (كالكوم كوات) كما استطاع الأخصائيون الزراعيون إنتاج فواكه في غير أوانها، فاستطاعت المزرعة أن تمد السوق بالفواكه في أكثر أوقات السنة. ولم تقتصر الفائدة على الحكومة بل عمت فاستفاد منها الشعب فقد اشترى بعض المزارعين بذور تلك الفواكه فشاركوا المزرعة في إنتاج الفواكه على غير ميعاد.

بر الشيطان

وتأبى أرض المزرعة إلا أن تضع أمام اخصائيها معضلة حاروا في كشف سرها إذ يظهر نبات شيطاني اسمه (المنتنة) لم تبذر له بذور ولم يعتن به في سقي ولا حرث، ومع ذلك فأنه ينمو ويكبر؛ وهو غني بالزيت، ولذلك أريد استغلاله باستخراجه منه فجربت زراعته ففشلت. (فالمنتنة) نبات ينمو إذا تركته للطبيعة، فإذا أخذت بذوره وأعطيتها العناية والوقاية فإنها لا تنبت؛ أما إذا تركت على الأرض فإن نبات المنتنة يكثر فيها. أما كيف ينبت فهذا سر الطبيعة؛ وأما لماذا لا ينبت إذا قدمت له العناية فأمر علمه عند الله، وكل ما نعرف عنه أنه نبات شيطاني يحتفظ بسر نفسه، وما زالت التجارب تعمل. وما يظن أنها بذوره تدفن في الأرض أو تبذر على سطحها لتنبت، ولكنها تختفي في الجهات التي تزرع فيها لتظهر في جهات ثانية. والغريب في أمرها أنها تنبت بإذن الله وحده في عدة جهات وبكميات كبيرة، فأمكن استخراج كميات من الزيوت منها.

وتحاول المزرعة أن تحتفظ في حقول تجاربها بكثير من النباتات ولكن بعضها قد لا يحتمل حرارة الشمس لأنه نبات إحدى المناطق الباردة، أو أن حرارة شمس مصر لا تكفيه لأنه نبات إحدى المناطق الحارة، ولذلك فإن المزرعة مجهزة ببيوت من الزجاج، وأخرى من الخشب

فأما بيوت الزجاج فتوضع فيها نباتات المنطقة الحارة حتى إذا انكسرت أشعة الشمس داخلها كانت حرارتها أقوى مما هي في العادة، وهذه البيوت حوائطها من الزجاج الذي يسمح لأشعة الشمس بالنفاذ. أما بيوت الخشب فإنها تصنع لتعطي النبات كثيراً من الظل، وبذلك تقل الحرارة داخل البيت فيستطيع النبات البارد أن يعيش. وبعض النباتات يمكث في هذه البيوت مدة حتى يمكنه أن يتحمل الحرارة والبرودة وعندئذ يمكن غرسه في أرض المزرعة في العراء

سماد عضوي

تروى أرض المزرعة وتسمد من فضلات المجاري التي تصل من القاهرة بواسطة أنابيب تقذفها في أحواض واسعة حيث ترسب الفظلات الثقيلة في قاعها وتمرر في عدة أحواض أخرى إلى أن تصبح ماء صافياً يستعمل في ري المزرعة. أما المواد الغليظة فإنها تنشر في أحواض رملية وتعرض لأشعة الشمس حتى تجف وتباع للزراع كسماد عضوي جيد، ويختلف ثمن المتر المكعب منه تبعاً للمكان الذي يسلم فيه

وتنحل المواد البرازية أثناء انتقالها داخل الأنابيب من القاهرة إلى تلك الأحواض فإنها تبقى عدة ساعات كافية لقتل أي مكروب، ولذلك فإن المواد تصل إلى تلك المنطقة سوداء مما يدل على انحلال موادها. أضف إلى ذلك أنها في ماء جار لا يسمح للميكروبات بالحياة. بل إن بعض الأطباء يؤكدن خلو تلك المواد من أي ميكروب؛ ولذلك يأخذون على وزارة الصحة اعتبارها للمواد التي تسقط على أرض ملوثة؛ ويقول آخرون إن هذا احتياط واجب وهو ادعى لطمأنينة الناس وثقتهم بنباتات المزرعة

ولأول مرة شاهدت أرض المزرعة عجبت لكثافة الحشائش في أرضها مبيناً ضرر ذلك على النبات. ولكن محدثي وهو ممن عاشوا في المزرعة مدة طويلة قال: أن هذه الحشائش الطفيلية تنبت بغزارة وقد تعبنا في التخلص منها بدون جدوى. وثلاثة أرباع العمل الذي نبذله هنا يقتصر على حشها ولكنه لا تمر 24 ساعة حتى تنبت بهذه الكثافة من جديد. ولما سألته عن السبب قال: إن الماء الذي تزرع به الأرض يحتوي على كميات كبيرة من السماد فتشبعت به الأرض أكثر من الحد الطبيعي حتى أصبحت أرضها صلبة مما يضر بالمزروعات أحياناً، وإذا أردنا أن نرجع بالأرض إلى الحالة الطبيعية وجب أن نزرعها مدة عشر سنوات بدون سماد تجارب لعزل الفضلات

ومن المشاكل التي يحاولون التغلب عليها الحصول على ماء خال من السماد الذائب فيه، ولذلك عملت تجارب لتصفية ماء المجاري والحصول على ماء نقي. فليس هذا سهلاً باستيراده من النيل أضف إلى ذلك أن مشكلة ماء المجاري ستظل بدون مصرف لها. واتبعت عدة طرق مازالت تحت التجربة لتنقية الماء بطريقة السواقي أو الرشح بين الزلط والرمل، وينتظر أن تصل هذه التجارب إلى نتائج حاسمة قريباً فقد شاهدت إحدى التجارب وقد أصبح الماء المتخلف منها شفافاً ولكن تكاليفه غالية. ويراد استنباط طريقة رخيصة التكاليف. وقد بنيت لتنفيذ تلك التجارب عدة نماذج مساحة الواحدة منها خمسون متراً تقريباً

وهناك مشروع لتحضير غاز الاستصباح من فضلات تلك المواد، فإذا نجح هذا المشروع فإنه يكفي لإضاءة شوارع القاهرة جميعها. وقد بدأ القائمون بالأمر بعمل التجارب اللازمة، فأنشئوا لذلك بئراً عمقها 11 متراً كما شيدوا خزاناً من الحديد لاستقبال الغاز وتوزيعه

محافظة على الصحة

وتحرص وزارة الصحة كما قلنا على منع الثمار الملوث من الوصول إلى أيدي الناس، ولذلك إذا أراد مستغل المزرعة أن يجمع ثمار قطعة من الأرض فعليه أن يخطر رجال للصحة ليمروا في تلك المنطقة وليجمعوا منها الثمر الذي يلمس الأرض سواء كان ساقطاً أو في فروع قريبة من الأرض فلامستها. ويدفع للمستغل ثمن ما يتلف لأنه ملوث وقد قدر بخمسة آلاف جنيه في العام الماضي

ويعدم الثمر الملوث بوضعه في حفر عميقة وصب (حامض الفنيك) عليه ثم ردم الحفر

فوزي جيد الشتوي