مجلة الرسالة/العدد 299/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 299/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 03 - 1939



أحمد عرابي

للأستاذ محمود الخفيف

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح، وأن يحدد له

مكانه بين قواد حركتنا القومية؟

يذكر المصريون أسم عرابي فلا يبتعث هذا الاسم وا أسفاه في أذهانهم إلا صور العنف والنزق والحمق، وتراهم - وإن لم يقصدوا - يقرنون اسم عرابي بمعاني الهزيمة والاحتلال والمذلة كأن هذه المعاني من مرادفاته

وما اذكر مجلساً تطرق الحديث فيه إلى عرابي إلا وسرت في الوجوه كآبة، وتسابقت الألسن للهزء به وتعديد مساوئه وإبراز مثاليه. . .

والحق أنه قل أن نجد في رجالنا رجلاً ضاعت حسناته في سيئاته كما ضاعت حسنات عرابي المسكين فيما ارتكب وفيما افترى عليه من سيئات؛ وكذلك قل أن نجد في رجالنا رجلاً كرهه بنو قومه واستنكروا أعماله بقدر ما كره هؤلاء عرابيا واستنكروا ما فعل وما أسند إليه من الأعمال زوراً وإفكاً. وفي ذلك دليل قوي على أن التاريخ قد يظلم عامداً كما قد يخطئ غير عامد؛ وفيه كذلك دليل على أن الأمور كثيراً ما تجري فيه كما يرسم الحظ لا كما يضع العدل من قسطاس؛ فيكون نصيب بعض الرجال من التعظيم بقدر ما يتوافي لهم من حظ لا ندري كيف اتفق لهم دون غيرهم، بينما يجني على كثير من ذوي النفوس الصحيحة والعظمة الصادقة ما يلحق بهم من سوء الطالع وما يحيط بهم من نحس الأيام

وما كان عرابي فيما أعتقد أثقل الرجال وزراً وإن لم يكن أقلهم أخطاء. ولعلي أستطيع أن أجلو ذلك في سيرته بقدر ما أصل إليه من وجوه الصواب في تلك السيرة التي بالغ كثير من ذوي الأغراض في تشويهها والحط من قدر صاحبها

ومهما يكن من الأمر فما أحسب من الناقمين على عرابي من يستطيع أن يماري في أنه كان زعيم حركة وداعية فكرة، وأنه - أخطأ أو أصاب - كان مخلصاً فيما يفعل وفيما يقول، وأنه قبل ذلك كله وفوق ذلك كله كان أول مصري فلاح في مصر الحديثة خرج من بين عامة الفلاحين في قرية من قرى مصر فاضطلع بقضية، ونادى على رأس المنادين بمطالب مصر، وصار اسمه في موقف هام من مواقف نهوضها علما على الجهاد ورمزاً للمقاومة حتى شاءت الظروف فامتشق الحسام وسار على رأس جيش من بنيها يذود عن أراضيها ويقف غير هازل ولا طامع في وجه الغادرين الباطشين من أعدائها. . .

بهذه الروح اكتب عن عرابي، وعلى هذا الأساس أبين سيرته، فالإخلاص في الرجال هو عندي مقياس بطولتهم الأول، بل هو فيما أرى اصح المقاييس وأهمها؛ أما الصواب والخطأ وما إليهما، فأمور توجد في الأبطال وغير الأبطال، ولا فرق فيها في كثير ولا قليل بين هؤلاء وهؤلاء!

ولد أحمد عرابي في عام 1840 م في قرية تدعى هرية رزنة بمديرية الشرقية، ونشأ الصبي القروي كما ينشأ الآلاف مثله في قرى مصر على نمط من العيش لا نحسبه يختلف كثيراً باختلاف العصور في هذه القرى التي نبتت على ماء النيل منذ الأزل. . .

نشأ في هذه القرية الصغيرة ذلك الصبي الذي قدر له أن يجري اسمه يوماً ما على كل لسان في مصر ودرج بين لداته عرضة للأمراض المختلفة، يحيط به في الجهل والفقر أينما اتجه، ولا يجد حوله من مظاهر الحياة والعمران مثل ما يجده صبي مثله ينشأ في مدينة كبيرة أو يتلقى العلم المنظم في مدرسة منظمة

على أنه يذكر عن أبيه في مذكراته أنه كان (شيخاً جليلاً رئيساً على عشيرته عالماً ورعاً تقياً نقياً موصوفاً بالعفة والأمانة)؛ ومهما يكن من أمر أبيه فليس يعنينا في هذا المقام سوى أنه أرسل ابنه إلى مكتب القرية وهو كما يقول ابنه من منشآته فيها، وفي هذا المكتب فتحت عينا الصبي على نور العلم فحفظ شيئاً من القرآن وتعلم القراءة والكتابة؛ وتعهده صراف القرية زمناً فعلمه مبادئ الحساب

ومات أبوه وهو في الثامنة من عمره، ولكن يتمه لم يحل بينه وبين أن ينال قسطاً من العلم في الأزهر فلقد أرسله أخوه الأكبر إلى هناك عسى أن يكون عالماً من علمائه، ولكن الصبي لم يلبث بالأزهر كثيراً فعاد إلى قريته، وكان من الممكن أن يعيش في تلك القرية ثم يموت فيها كما يعيش ويموت فيها كما يعيش ويموت سواه من الفلاحين من أهلها. . .

ولكن الأقدار تخرجه من هذه القرية ليغدو فيما بعد رجلاً من رجال مصر، وليثبته التاريخ في سجله، بعد أن يصل اسمه إلى مسامع جميع الساسة في ذلك العصر؛ وتنطوي السنون وتبقى ثورته صفحة من أهم الصفحات في تاريخ هذا البلد

أراد سعيد أن ينهض بالجيش، لا لأنه كان رجل حرب وأطماع، ولكن لأن الجيش كان ملهاته، فأمر بتجنيد أبناء المشايخ والأعيان، وكان من بين من جندوا ذلك الفتى الأزهري القروي الذي لم يكن له من عمل في قريته، وكان يومئذ في الرابعة عشرة

وبالتحاق عرابي بالجيش تبدأ مرحلة جديدة في حياته، ثم تنتهي من ناحية أخرى مرحلة تعليمه. ومن ذلك نرى أن كل ما ناله عرابي من المعرفة لم يعد ما تلقاه في المكتب ثم في الأزهر قبل سن اليفاعة، اللهم إلا ما كان من مطالعاته الخاصة فيما بعد وهي أمر لا يمكن تحديده. . .

ولطالما رمى عرابي بالجهل ثم عد هذا الجهل من أهم نواحي ضعفه، بل لقد كانت تلك الناحية في مقدمة ما يهزأ به منه خصومه، وبخاصة أولئك المؤرخون الأجانب الذين ينتابهم أبداً لذكر عرابي ما يشبه الحمى فيطلقون ألسنتهم فيه بلا حساب

ولست أحاول هنا أن أنسب العلم إلى عرابي فما أبعده عن أن يوصف بالعلم، ولو كان يفهم أهل عصره من مدلوله؛ ولكني من ناحية أخرى لا أراه من الجهل كما يصفون أو كما يسخرون، ذلك أني أقيسه إلى جمهرة المتعلمين في عصره من أهل مصر، وما كان لي أن أعدو ذلك فأقيسه إلى رجال جيله في أوربا إلا أن أعتبر مصر يومئذ في مصاف تلك الدول علماً وثقافة وحضارة. ولن توصف الشمعة لعمري مهما كانت ضئيلة النور بأنها مظلمة، ولا سيما إذا قيست إلى غيرها من الشموع وما على شاكلتها من المصابيح؛ أما أن تقاس إلى المشاعل القوية أو أن تنقل من ظلمة الليل إلى وضح النهار ثم يتحدث بعد ذلك عن مقدار نورها، فهذا ما لا يجوز إلا في حساب المغرضين والمبطلين

ومتى كان العلم الغزير من مستلزمات البطولة؟ ألا كم شهد التاريخ من أناس لم يكن لهم من العلم إلا مثل حظ الرجل العادي منه بحيث لو أنهم قيسوا من هذه الناحية إلى معاصريهم من العلماء والفلاسفة لكانوا في حكم العدم، ومع ذلك فلم ينل نقصهم هذا من بطولتهم أو يقعد بهم عن مواصلة السير إلى مثلهم التي رسموها؛ وذلك أن قلوبهم كانت عامرة بما هو أغلى وأعظم من نظريات العلماء وأحلام الفلاسفة. . . كانت قلوبهم عامرة بالإخلاص والحماسة والعزم وهي خلال لن تقوم عظمة حقيقية بدونها ولن تغنى عنها سواها من الخلال مهما كان من قيمتها في مجال آخر؛ ولرجل واحد وثيق العزيمة صادق الإخلاص متوقد الحماسة خير في قيادة الناس وتحريرهم من عشرات الفلاسفة الغارقين في أوراقهم وكتبهم

وما كان عرابي فيما استخلص من سيرته خلواً من هذه الخلال، بل لقد كان ما توفي له منها لا ينزل به في البطولة عن مرتبة شريف والمويلحي والقاني ومحمد عبده وجمال الدين والبارودي وغيرهم من مثقفي عصره، إن لم يكن يرتفع به عليهم على ضآلة علمه بالنسبة إليهم. ولست أغلو في ذلك أو أتحيز، وإلا فكيف انتهت إليه في وقت ما زعامة الحركتين الوطنية والعسكرية معاً؟ ولقد كان في الأولى كما ذكرت من الرجال من هم أعلى كعباً منه في المعرفة، وفي الثانية من هم أرسخ قدماً في الجندية؟ وهل يعزى ذلك إلى الحظ وقد كان عرابي من أكثر الناس شغباً على رؤسائه في الجيش، أم يعزى إلى الجاه والثروة وقد كان فلاحاً ابن فلاح من بيت عادي لا ثروة له ولا جاه؟

ألا إنه لا مناص لنا إذا أردنا الإنصاف من أن نعزو ذلك إلى انه كان أكثر ممن حوله أيماناً وأقوى منهم جناناً وأشد منهم توثباً وتطلعاً، وإن كان من أقلهم معرفة واطلاعاً؟ وهنا لا أتردد أن أثبت رأياً آخر وهو أنه لا يجوز عندي أن يعد عليه ما يعزى إليه من جهل أو أن يؤخذ به، وإنما ينبغي أن يعد له وأن يعتبر داعياً من دواعي فخره!

انتظم عرابي في سلك الجندية (نفراً) عادياً فما لبث أن ترقى بعد سنتين إلى رتبة (ملازم ثان) وكان ذلك حوالي عام 1860 ثم إلى رتبة ملازم أول فيوز باشي في نفس العام، ولم يمر عامان بعد ذلك حتى وصل إلى رتبة قائمقام (بك) وكان عرابي أول مصري وصل إلى هذه الرتبة كما يقول في مذكراته

وصل هذا الجندي من رتبة الجاويش إلى رتبة قائمقام في نحو أربع سنوات وما كان ذلك عن حظوة له عند أحد، وإنما كان سلاحه ذلك القدر من العلم الذي أشرنا إليه، فيه تمكن عرابي أن يدرس القوانين العسكرية ويجتاز الامتحانات متفوقاً، ويدلنا ذلك على ندرة المتعلمين في ذلك الجيش، ولا شك أن هذا الترقي السريع قد بث في نفس الفتى القروي كثيراً من الطموح والإقدام. . .

على أنه كان شجاعاً بطبعه في عصر كثيراً ما كانت تعد الشجاعة فيه ضرباً من العصيان والتمرد كما سيأتي بيانه؛ لسوف نرى من مواقفه في هذا العصر ما يزيد معنى بسالته ويظهرها مضاعفة. . .

وأول ما عرف عنه في الجندية كراهته للعنصر الجركسي، فكان لا يفتأ يقارن بين نصيب هذا العنصر ونصيب المصريين من المناصب، فلا تزيده المقارنة إلا غضباً وكراهية لهؤلاء الأجانب. أليست هذه النزعة من جانبه هي نزعة الوطنيين في الجيش حينما تبدأ الحركة العسكرية؟ ثم ألسنا نجد فيها جانباً من الوطنية ومعنى من معانيها؟

ولكن بعض المؤرخين لا يفهم هذا من جانب عرابي إلا على أنه ضرب من الأنانية والجشع، بل ليسرف بعضهم فيرميه بالتبجح قائلين: ما لهذا الفلاح وعليا المراتب في غير جدارة؟ وإنهم في ذلك ليمتدحونه من حيث لا يشعرون! ولئن كان الطموح بالنفس والشعور بالقومية تبجحاً، فماذا نسمي التقاعد والتخاذل والاستخذاء أمام الأجنبي؟ ألا ليت كل تبجح يكون كتبجح عرابي هذا فما أعظمه وما أجمله، وما أجدره بالتقدير والإعجاب! وليت شعري كيف يستطيع رجل في مثل موقفه أن يقنع المكابرين أن نزعته كانت قومية يقصد بها بني قومه جميعاً؟ وأي عيب في أن يبدأ بنفسه فيرقى بها؟ أليس مصرياً؟ وهل كان يعتز بغير مصريته إذا اعتز بنفسه؟ على أنه لو أراد بالرقي نفسه فحسب دون أي اعتبار قومي، فما وجه العيب في ذلك؟ أيكون من العيب أن يتطلع الرجل إلى المعالي، ولا يكون من العيب أن يرضى بتقدم غيره عليه حتى ولو كان ذلك الغير أجنبياً؟

إن الرجل المخلص لا يقف ليقول للناس إنه مخلص وفي ذلك شك منه في نفسه، ولا يكون هناك دليل على إخلاصه إلا ما يعمل في سبيل تحقيق مبدئه، أما الكلام فسبيله ميسور؛ وفي استطاعة كل مبطل أن يملأ أسماع الناس بدعوى إخلاصه في غير مشقة.

(يتبع)

الخفيف