مجلة الرسالة/العدد 301/السيدة ملك. . .
مجلة الرسالة/العدد 301/السيدة ملك. . .
من الوجهة الفنية
للأستاذ محمد السيد المويلحي
أعتقد أن أعظم اللغات ذيوعاً وقوة لا تستطيع أن تكون لغة عالمية يفهمها الجميع، ويتخاطب بها الجميع. ولكن الموسيقى: ملك اللغة الصامتة السامقة التي تؤثر في النفوس جميعاً، وتأسر الأرواح جميعاً، وتربط بين النفوس برباط قوي مكين، هي وحدها ملك اللغة (العالمية) التي تترجم الخوالج المختلفة، والاحساسات المتنافرة. . .
على أن أسماها وأبقاها وأدناها إلى القلب والروح ما كان صادراً عن قلب وروح. ولن تجد قلباً وروحاً يؤثران في النفس، ويأسران الحس كقلب (ملك) وروحها التي وهبتها للفن خالصة
موسيقية عظيمة قديرة، تعيش عيشة مثالية، هي جماع ما في الإنسانية من مثل عليا. أقول: (موسيقية). ولا أقول: (مطربة). لأنها انفردت - وحدها - من بين جميع مطرباتنا بدراسة واسعة، وبثقافة علمية مكنتها من إتقان اللغات الفرنسية، والإنجليزية، والعربية، وبثقافة موسيقية أتاحت لها أن تلحن جميع ما تغنيه بنفسها تلحيناً إن دل على شيء فعلى قدرة قادرة، وعلى مكنة ودراسة عميقة هيأت لها هذا التوفيق، وهذا اللون الذي يزجي إلى النفوس أرفع ما في الفن من جمال ونبل!
أصغر مطرباتنا سناً، وأعظمهن إلماماً بعلم الموسيقى، وأقدرهن على العزف بالعود عزفاً يضعها في الصف الأول بين عازفينا الكبار؛ وليس ثمة من يقرب منها في العزف بين المطربات إلا نادرة، وأم كلثوم، وهما الوحيدتان اللتان تلمان بالعزف. . .
يتركيب صوتها من خمسة عشر مقاماً وهو من نوع: (الكونتر ألتو، والتينور، والميزوسوبورانو). وهذه المطربة الوحيدة (بين النساء) في التاريخين الحديث والقديم التي يمتاز (ديوانها) الأول بأنه (تينور).
صوت غني بذبذباته (نريولاته) حتى ليهيئ للسامع حين شدوه أن هناك أكثر من صوت واحد يغرد، وهو يتمتع (بنفس) طويل يمكنه من الاستمرار في الغناء أكثر من دقيقة دون أن ينقطع للزفير أو الشهيق، ولولا أن صاحبته تضم فكيها عند الغناء لأهلكت من يسمعها، ولعل هذا من رحمة الله بالناس
خرجت على الناس بلون جديد من التلحين الشرقي العربي البحت الذي تجري السلامة في أعطافه ولم يخضع لشهوة السرقة والمزج باللون الغربي، فعرف كيف يملك القلوب بسحره الآسر، وأثره الساحر، وعرف كيف يلجم هؤلاء الذين يرمون الموسيقى العربية بالعقم والضعف وانعدام التصوير والتلوين وعدم إبراز العواطف الإنسانية في إهابها الحق الذي يترجمها الترجمة الصادقة
قلنا إنها تغني وبروحها، ولهذا سميت (مطربة العواطف)؛ وليس معنى هذا أنها تعتمد كغيرها على الآهات والأنات واللون المسترخي البغيض الذي يشيع تخنثاً وشهوة، والذي لا يعتمد إلا على استغلال أحط الغرائز في جمهرة السامعين
ولو أتيح للقارئ أن يسمعها مرة لسمع شعراً قوي الأسلوب سامي الخيال، رفيع الغاية، ولسمع تلحيناً شرقياً عربياً يأخذ بمجامع القلوب. ولعل (ملك) أول من غنى شعراء حماسياً يلهب الجوانح ويدفع دفعاً إلى التضحية. فقد أخرجت للناس سنة 1928 قطعتها الخالدة:
بني مصر صونوا حياة الوطن ... فقد حاربتها عوادي الفتن
تعتد بنفسها اعتداداً يبلغ حد الكبرياء، وتسمح للغضب أن يستحوذ عليها ليجعل منها (عصيبة لا تطاق): تمتاز بثروة فنية عظيمة، فهي تحفظ جميع قصائد المرحوم الشيخ أبي العلاء، وجميع أدوار المرحوم الشيخ سيد درويش، وعدداً كبيراً من الموشحات القديمة الغنية بالنغمات المختلفة و (بالضروب) المتباينة، وبمجموعة عظيمة من أدوار: الحمولي، ومحمد عثمان، والمسلوب الخ
أكبر الظن أن أغلب القراء لا يعرفون أن (ملك) حاصلة على (البكلوريا) وأنها تقدمت عام 1931 لتجتاز امتحان (الليسانس) ولولا زواجها وقتئذ من أحد قضاة الدرجة الأولى لكانت الآن (الأستاذة ملك) ولكنها فضلت حياة البيت، وحياة الزوجية، وكانت المثل الأعلى للزوجة الرحيمة الوفية، وكان بيتها (جنة) ولكن (آدم) لا يحب أن يسكن الجنان. . . فخرج منها بعد خمس سنوات مضت كالسراب الخاطف، ورجعت هي إلى فنها لتعول نفسها بصوتها، بصوتها، بصوتها، وأكررها ألف مرة حتى يعلم الناس جميعاً كيف ينحنون أمام قدس الشرف الرفيع الذي لا يعجب بعض الناس في هذا الزمن فيحاربونه بأحط الوسائل، ثم بعد هذا يرفعون رؤوسهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ما داموا قد انتقموا لشهواتهم من أقوات الشريفات الطاهرات اللاتي يعتقدن أن الرزق بيد الله وحده. . .!
رب قارئ يقول وكيف لم تسع إليها محطة الإذاعة وهي التي تقدم من لا تجرؤ على أن تكون تابعة لها في إطار المطربة الكبيرة، والجواب عند المحطة نفسها وأظن هذا يكفي لكشف الحقيقة للقارئ. . .!
قد نعجب إذا علمنا أنها ابتدأت حياتها الفنية وهي بنت عشر سنوات (عند نعيمة المصرية في كازينو الهمبرا) بمبلغ عشرين جنيهاً في الشهر فلم تمض سنوات ثلاث حتى كانت تشتغل في (مونت كارلو) والبوسفور (ماتنيه وسواريه) بمبلغ ثلثمائة جنيه في الشهر. . .
سنراها قريباً على الشاشة ولعلها تنجح في التمثيل السينمي كما نجحت في الموسيقى، وأظنها ناجحة
محمد السيد المويلحي