مجلة الرسالة/العدد 304/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 304/التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانة بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
وذهب الضباط على رأس من أخرجوهم إلى الخديو يسمعونه شكواهم، وكان بعض أعوان الخديو يشيرون عليه بأخذهم بالشدة ومعاملتهم معاملة الثائرين ولو أدى الأمر إلى إطلاق النار عليهم، وقال البعض إن من العبث أن تلجأ الحكومة إلى البطش وليس لديها وسائله، فالفرق جميعاً تؤيد عرابياً ومن معه، والرأي أن يسلك الخديو معهم جانب اللين فيطفئ بذلك نار الفتنة
وتغلبت الحكمة على الطيش ووضع اللين في موضع البطش، فأوفد الخديو إلى الضباط الثلاثة ومن ظاهرهم من الجند تحت نوافذ قصره يخبرهم بإجابة مطلبهم الأول فقد عزل رفقي، وطلب إليهم أن يختاروا من يحل محله حتى لا يعووا إلى الشكوى، فوقع اختيارهم على محمود باشا البارودي؛ ووعد الخديو بالنظر في بقية مطالبهم والعمل على إنصافهم. وطلب الضباط الإذن على الخديو فمثلوا بين يديه وأعربوا له عن امتنانهم وولائهم لشخصه وإخلاصهم لعرشه، ثم انصرفوا وانصرف الجند فرحين مستبشرين
وكان على الخديو أن يتدبر الأمر منذ بدايته وينظر ما إذا كان لديه قوة يقمع بها الحركة إن كان لا بد من وضع العنف موضع العدل؛ فإن عدم القوة كان أمامه أن يلجأ إلى اللين غير مكره ولا مغلوب على أمره. . . ولكنه تصرف في الأمر على نحو ما رأينا فأفضى إلى نتائج خطيرة سوف تؤثر أثرها في مجرى الحوادث، فظفرُ الجند بمطالبهم في عنف وعجز الحكومة عن مقاومتهم قد وضع الخديو وحكومته في موضع الضعف وأحل عرابياً وحزبه محل التوثب والتطلع وجعلهم مناط الرجاء والأمل هذا إلى ما تركه هذا الحادث من سخيمة في نفس الخديو يصعب بعدها كل تفاهم ويلبس فيها كل حق بالباطل؛ ثم من حذر وريبة في نفوس الجند يلقيان على كل حركة من حركات الحكومة شبح الغدر ويلبسان كل عم من أعمالها ثوب الرياء
على أن ما يعنينا فيما نحن بصدده أن هذا الحادث قد أدى إلى ذيوع صيت عرابي على نحو لم يسبق لفلاح غيره في مصر، فسرعان ما دار اسم ذلك الفلاح على كل لسان في القاهرة وسمع بذلك الاسم الأجانب ومن لم يكن يعرفه من المصريين؛ ولم يقف الأمر عند القاهرة بل لقد رن هذا الاسم في القرى فأفاق على رنينه الساحر أولئك الأعيان والمشايخ الذين تعودوا منذ القدم أن يخضعوا خضوعاً مطلقاً للترك والجركس، الذين كانوا ينظرون إلى الفلاحين نظرتهم إلى دوابهم
وعجب أولئك الفلاحون أن يجرؤ رجل منهم على تحدي الخديوي والرؤساء الجراكسة، فتعلقوا بهذا الرجل ولم يروه، ورغب كثير منهم في رؤيته، فقدموا إلى القاهرة يحملون إليه الهدايا ويعربون له عن محبتهم وإخلاصهم وإعجابهم بمبادئه التي تدور حول إنصاف الفلاحين في الجيش، وراح هو يخطب فيهم شاكراً مطمئناً
وليت شعري ماذا تكون الزعامة إذا لم تكن هذه زعامة؟ ألسنا نرى الآن في عرابي شخصيتين: شخصية الضابط الذي يسير في مطالب الجيش على رأس الجند، ثم شخصية الفلاح الزعيم الذي بدأ الفلاحون به يرفعون رؤوسهم وقد خفضوها من قبل أجيالاً طويلة؟ إني لألمس في تلك الصحوة فجر عصر جديد للقومية المصرية، كان عرابي أول مؤذن أذن به، ألمس ذلك الفجر الذي سوف يسفر صباحه عما قريب على صيحة فلاح آخر سوف يبرز من القرى كما برز عرابي، هو سعد بن مصر العظيم مفخرة أجيالها ورأس رجالها
ولئن كان جمال قد أيقظ الغافين في المدن، لقد بعث عرابي بإقدامه أهل القرى من مراقدهم، فإن عمله هذا أوحى إليهم أن من الممكن أن يخرج من بينهم من يشمخ برأسه على أولئك الجركس الذين طالما استذلوا في مصر الرقاب!
ويعنينا كذلك من حادث قصر النيل أمر آخر لا يقل عن ذلك أهمية، ألا وهو التفات الوطنيين إلى عرابي، فعند هذه النقطة التقت الحركتان الوطنية والعسكرية فتولدت من التقائهما الثورة العرابية في أصح مظاهرها وأصدقها
رأى الوطنيون ما أصاب رجال الجند من ظفر سريع، بينما قد لحقهم هَم الفشل، واستطاع توفيق أو بالأحرى استطاع رياض أن يأخذ عليهم مسالك القول والعمل، فسرعان ما اهتدوا إلى الطريق الذي يوصلهم إلى أغراضهم فتقربوا إلى عرابي، فأخذ شريف يراسله ويعقد بينه وبينه أواصر المودة
وحذا حذو شريف زعماء حركة الإصلاح في الأزهر وزعماء النواب مثل سلطان باشا ذلك الذي كان يمثل الأعيان كذلك بحكم أنه منهم، واتضح لهؤلاء أنه يجب عليهم أن يستعينوا بهذه القوة الجديدة لإقصاء رياض عن مركزه، وبعث الدستور الموءود وتحقيق الإصلاح المنشود.
وأصبح منزل عرابي مقصد الكثيرين من الأحرار كما كان موئل رجال الجيش؛ ولم يكن موقف عرابي في الحركة الوطنية موقف الأداة كما زين البغي لبعض المؤرخين أن يقولوا، فلقد كان هو من جانبه من المتمسكين بمبدأ الشورى منذ نشأته، وإنه ليؤكد في كل ما كتب أنه قد طالب في عريضته، فوق ما طلب، بإعادة مجلس شورى النواب، ليكون فيه موئل للمظلومين من الوطنيين في الجيش وغير الجيش.
وكان البارودي وزير الجهادية الجديد، من دعاة الدستور، ومن حزب شريف، ولذلك كان حلقة الصلة بين الجند وبين الوطنيين، وكان كثير الاتصال سراً بعرابي بواسطة علي الروبي حتى لا تدعو كثرة الصلة به جهراً إلى ريبة رياض وحزب رياض، وبهذه الوسيلة كان الجند على علم بكل ما تريده الحكومة بهم.
وهكذا أصبح عرابي ملتقى الآمال، يحرص على الصلة به الوطنيون والجند والفلاحون؛ ولقد بلغ من ذيوع صيته أن أصبح توفيق يغار منه حتى ما يستطيع أن يخفي تلك الغيرة.
ولو أن توفيقا عرف يومئذ كيف يتخذ سبيله وسط هاتيك الأنواء لجنب البلاد ما كانت مقبلة عليه ولتغير تاريخ مصر الذي كان لا يزال مطوياً في حجب الغيب، وما كان للخديو من سبيل يومئذ إلا أن ينضم إلى الحركة الوطنية فتكون البلاد كلها تحت لوائه نوابها وجيشها، ووجوه البلاد وأهلوها؛ وفي ذلك دون غيره سلامتها وأمنها
كانت سياسة توفيق إن كان ثمة له من سياسة عقب حادث قصر النيل أهم العوامل في تطور الحوادث بعده على النحو الذي سوف نراه؛ فلقد وقف موقفاً أشبه ما يكون بوقف لويس السادس عشر من مجلس طبقات الأمة حين أجاب نواب العامة فيه إلى ما طلبوا في مسألة التصويت على القوانين وفي نيته أن يغدر بهم متى حانت الفرصة
أدرك الضباط لا ريب أنه أجابهم إلى ما طلبوا إذ لم يكن له من ذلك بد، ولذلك أحسوا أنه لا بد متربص بهم فتربصوا هم كذلك به
وكان توفيق من ناحية أخرى يكره رياضاً ويعمل على التخلص منه؛ لذلك وضع نفسه في موضع عجيب حقاً، فبينما هو يكره الضباط ويمقت حركتهم وينتوي المكر بهم إذا به يتخذ منهم أداة للكيد لوزيره بغية إقصائه عن منصبه
وهكذا تشاء الظروف أن يكون رجل كتوفيق هو الذي يحرك دفة الأمور في مثل ذلك الزمن العاصف؛ ولم يكن أمامه كما أسلفنا إلا أن يتخذ سبيله إلى الوطنيين فيتخذ من نواب الأمة سنداً له كما فعل أبوه في أواخر أيامه
ولو أنه فعل ذلك لضعف شأن الحزب العسكري إذ كان يحس الوطنيون أن لا حاجة بهم إلى معونة الضباط، ثم كان الضباط أنفسهم يجدون في وزارة وطنية تحقق رغائبهم ما يطمئن نفوسهم ويكبح في الوقت نفسه جماحهم بطريقة غير
مباشرة
ولكن توفيقاً لم يلجأ إلى ذلك الحل، وما نشك أنه كان يفطن إليه، ولكنه كان يقتضيه أن ينزل عن سلطانه إلى نواب الأمة وهو ما نشك كل الشك في أنه كان يستطيع أن يحمل نفسه عليه، ومن هنا أحدقت به وبمصر الأخطار، هذا فضلاً عن دسائس الأجانب الذين أحكموا شباكهم من مدة لاقتناص الفريسة الغالية في هذه الأيام الكدرة!
وقع حادث قصر النيل في فبراير عام 1881 م؛ وفي أعقاب الحادث مرت على مصر بضعة أشهر ما نظن أنه مر على البلاد فترة مثلها في كثرة ما حيك فيها من الدسائس على قصر أمدها
سمع الضباط أن أعوان الخديو يغرون بالمال والمناصب بعض رجال الآليات ليكونوا في الوقت الموعود إلى جانب الخديو، ونمى إليهم أن رياضاً يفكر في طرق إجرامية للفتك بهم، ومن ذلك ما علموه من أنه كان يدبر مشاجرة في أحد الشوارع يندس فيها من يقتل عرابياً أو من يحضر من زميليه.
ومما يذكره عرابي في مذكراته أن أحد الغلمان الجركس في منزل عبد العال بك حلمي، وهو ابن زوج حرمه المتوفى، قد وضع له السم في اللبن بإيعاز غلام جركسي آخر من غلمان الخديو، ولولا أن تنبهت الخادمة لراح عبد العال ضحية هذا الغدر الأثيم
وكذلك سمع الضباط أن الحكومة تنوي أن ترسل الآلاي السوداني بقيادة عبد العال بك إلى السودان، بحجة أن القوة الموجودة فيه غير كافية لحفظ النظام. فأحس الضباط من ذلك أن النية متجهة إلى تشتيتهم للقضاء عليهم متفرقين
واتهم تسعة عشر ضابطاً أحد رؤسائهم بأمور نسبوها إليه أثبت التحقيق بطلانها، فأبعدتهم الوزارة عن مناصبهم. فبادر الخديو بإعادتهم، الأمر الذي حنق له زعماء الجيش. إذ رأوا فيه أن الخديو إنما يعضد حركة التمرد في صفوف صغار الضباط ويستميلهم إليه ضد رؤسائهم.
وترامى إليهم أن الخديو يمرن حرسه في الإسكندرية على إطلاق النار، وأنه يشهد ذلك بنفسه وينثر الذهب على الجند متظاهراً بمكافأة المجيدين في إصابة المرمى؛ ولن يفسر مثل هذا العمل في ظروف كهذه إلا بأنه استعداد من جانب الخديو لما هو مقبل عليه من قمع وبطش.
هذا بينما أرادت الوزارة أن تسخر الجند في الآليات الأخرى في حفر الرياح التوفيقي، وكان عليهم أن يسلموا أسلحتهم إلى مخازن الجهادية قبل ذهابهم إلى ذلك العمل؛ ولقد رفض عرابي الموافقة على ذلك، وأيده البارودي وزير الجهادية
وأرسل الخديو من الإسكندرية كما يقول عرابي في مذكراته على فهمي رئيس الحرس إلى زميليه في القاهرة ليقول لهما إن الخديو يرغب في عزل البارودي لما رأى من ذبذبته وسوء سياسته، وإن الخديو يعطف على مطالبهم (فهم ثلاثة وهو رابعهم) وإن سموه يطلب ألا يعلم أحد بإيفاد علي بك.
وعزل البارودي فعلاً، وكان رياض قد أمره أن يبعد عرابياً وعبد العال بفرقتيهما من القاهرة، فأبى عليه ذلك
وجاء إلى البارودي، وكان بالقاهرة، أمر أن يسافر فوراً إلى عزبته.
ولقد كان البارودي على صلة برجال الجيش ينبئهم كما أسلفنا بكل ما تريد الحكومة بهم، واتفق معهم أن يكون خروجه من الوزارة علامة اقتراب الخطر.
وحل محل البارودي داود يكن باشا صهر الخديو فلما لبث إن لجأ إلى الصرامة في معاملة رجال الجيش، فحظر عليهم الاجتماع بالمنازل أو ترك مراكزهم ليلاً أو نهارا وأنذرهم بأشد العقاب إن خالفوا أوامره؛ ومع أن عرابيا وأنصاره قد هنأه بمنصبه، وطلبوا إليه أن يعمل على إجابة مطالب الجيش التي كان البارودي يسعى في إجابتها، فإنه اكتفى بالوعود ولم يفعل شيئاً.
وأحيط بيت عرابي وعبد العال بالجواسيس، وجرت الشائعات بالنذر فملأ القاهرة نبأ عجيب وهو أن الخديو قد استصدر فتوى سرية من شيخ الإسلام بقتل عرابي، وكانت الظروف يومئذ تساعد على تصديق هذا النبأ الكاذب أكبر المساعدة.
وطلب رجل مجهول الإذن على عرابي في منزله فلم يأذن له وشوهد أنه عاد إلى أحد مخافر البوليس؛ وذهب عرابي إلى منزل زميله فعلم أنه حدث لهما مثل ما حدث له فأيقنوا أن حياتهم قد باتت في خطر، وكان ذلك في 8 سبتمبر سنة 1881 م. لذلك كله عول الضباط على أن يخطوا خطوة حاسمة، وكانوا على صلة دائمة في تلك الشهور التي أعقبت حادث قصر النيل برجال الحركة الوطنية
(يتبع)
الخفيف