مجلة الرسالة/العدد 304/حياة محمد

مجلة الرسالة/العدد 304/حياة محمد

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1939



باعتباره صاحب الدعوة الإسلامية

للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد

ترجمة الأساتذة

عبد الفتاح السمرنجاوي، عمر الدسوقي، عبد العزيز عبد

المجيد

بهذا الحماس وذلك الجد تقدمت الدعوة الإسلامية حتى لم تمض على الإسلام سنة هناك (في المدينة) إلا وكانت كل أسرة عربية قد ساهمت بدخول بعض أفرادها في حوزته، ما عدا شعبة واحدة من بني الأوس وهي التي استمرت منعزلة بعيدة عن الإسلام وذلك بتأثير أبي قيس بن الأسلت الشاعر

وفي السنة التالية حينما جاء موسم الحج وفدت إلى مكة طائفة من معتنقي الإسلام حديثاً، وعددها ثلاثة وسبعون رجلاً، وبصحبتهم جماعة من مواطنيهم كفار يثرب، وقد عهد إلى هذه الطائفة أن تدعو محمداً (ص) إلى أن يلجأ إلى يثرب تجنباً من غضب أعدائه، وأن يبايعوه على أنه رسولهم وقائدهم، وفد إلى مكة لهذه المناسبة العظيمة كل معتنقي الإسلام الأولين الذين كانوا قد لاقوا الرسول من قبل في الموسمين السابقين، ومعهم مصعب ابن عمير معلمهم، فأسرع على أثر وصوله إلى الرسول، وأخبره بالنجاح الذي لاقته بعثته. ويقال إن أمه لما سمعت بقدومه بعثت إليه رسولاً فقال له: (أيها الابن العاق، أتدخل مدينة فيها أمك من غير أن تبدأ بزيارتها؟) فكان جوابه: (كلا، إنني لا أزور منزل أحد قبل رسول الله). ثم ذهب إلى أمه بعد أن فرغ من تحية الرسول (ص) والتحدث إليه؛ فقالت له أمه زاجرة: (أخالك إذاً لا تزال خارجاً منشقاً). فقال: (أتبع رسول الله ودين الإسلام الصحيح). فردت عليه قائلة: (أقانع أنت بطريق الشقاء الذي انتهجته في الحبشة وفي يثرب؟). أدرك حينئذ أن أمه تفكر في سجنه فخاطبها متعجباً: (ما خطبك؟ أتكرهين إنساناً على أن يغادر دينه؟ إن كنت تدبرين أمر سجني فإنني سأقتل أول من يضع يده على). فقالت له: (أخرج إذاً من عندي) وأخذت تبكي. فتأثر مصعب لذلك وقال: (أماه. خذي من نصيحة المخلص! أشهدي أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله). ولكنها أجابته بقوله: (والنجوم اللامعة، لن أكون قط حمقاء بدخول دينك. إنني أنفض يدي منك ومما أنت فيه، وأعتصم بعقيدتي)

وكان قد ضرب موعد ليجتمع سراً بالعقبة من أسلموا في العام الماضي وذلك لكيلا يثيروا حولهم شبهات القرشيين أو عداوتهم؛ وجاء محمد ومعه عمه العباس الذي كان لا يزال وثنياً حينئذ ولكن سمح له أن يحضر هذا الاجتماع السري. أفتتح العباس هذا الاجتماع الجليل موصياً بابن أخيه، ومشيراً إلى أنه ينتمي إلى أسرة من أشرف أسرات قبيلته التي وإن كانت لم تقبل تعاليمه إلا أنها ما زالت تحميه؛ أما وقد أبى إلا الانحياز إلى أهل يثرب واللحاق بهم فإن عليهم أن يتدبروا الأمر بحكمة قبل أن يأخذوا العهد على أنفسهم، وأن يصمموا ألا ينكثوا عهدهم متى قبلوا تحمل هذا الأمر الخطير، فاحتج البراء بن معرور الخزرجي قائلاً: إنهم واثقون من عزمهم على حماية رسول الله، وتوسل إلى العباس أن يذكر ما يريدهم أن يعاهدوا الرسول عليه

بدأ محمد يقرأ بعضاً من القرآن، ويحثهم على أن يصدقوا في دينهم الذي اعتنقوه من وحدانية الله ونبوة محمد رسوله، ثم سألهم بعد ذلك أن يمنعوه وأصحابه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: (نعم! والذي بعثك بالحق لنمنعك كما نمنع أنفسنا، ونعاهدك على طاعتك، وأن تكون لنا هادياً. فنحن أبناء الحروب، وأهل الحلْقة، ورثنا كابراً عن كابر). وهكذا أخذ الجميع يد الرسول واحداً بعد آخر، وبايعوه على الطاعة.

ولما علمت قريش بهذا الاتفاق السري عادت إلى اضطهاد المسلمين مرة أخرى، فنصحهم الرسول أن يهاجروا من مكة، وقال لهم: (اخرجوا إلى يثرب فإن الله قد جعل لكم إخواناً في تلك المدينة، ودارا تأمنون بها) فخرجوا إلى يثرب إرسالا، حيث لاقوا إكراماً عظيماً، وكان إخوانهم في الدين من أهل يثرب يتنافسون فيما بينهم كل يريد أن يحظى بشرف الإكرام، وليقدموا لهم ما يحتاجون. ولم يمض شهران حتى هاجر من مكة تقريباً كل المسلمين - وقد بلغ عددهم مائة وخمسين - اللهم إلا أولئك الذين قبض عليهم أو سجنوا، وأولئك الذين لم يستطيعوا الخلاص من الأسر. وتحدثنا الأخبار عن أحد أولئك المسلمين - صهيب - الذي لقبه الرسول (بأول ثمرات اليونان) (ولقد كان عبداً إغريقياً أعتقه سيده فجمع ثروة عظيمة بطريق تجارته الرابحة). وذلك أنه لما عزم صهيب على الهجرة من مكة استوقفه أهلها وقالوا له: (أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك) فقال لهم صهيب: (أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟) قالوا: (نعم)، وهاجر هو تاركاً كل ثروته. ولما بلغ محمداً الخبر قال: (ربح صهيب، ربح صهيب)

أخر محمد هجرته من مكة - قاصداً بذلك ولا ريب أن يصرف أنظار أعدائه عن أعوانه المخلصين - حتى تنبه إلى مؤامرة مدبرة ضده، وأدرك أنه إن أبطأ في الهجرة ربما قضي عليه، فعمل على الهجرة بحيلة

وكان أول ما فعل بعد أن وصل إلى يثرب أو المدينة كما سميت بذلك منذ تلك الحادثة (مدينة الرسول) أن بنى مسجداً ليكون مكاناً للعبادة، وموضعاً لاجتماع أتباعه، وكان المصلون أولا يولون وجوههم شطر بيت المقدس، وربما كانت هذه سياسة اتبعها الرسول لاكتساب اليهود. وقد حاول محمد (ص) بطرق أخرى مختلفة أن يجتذب إليه اليهود، فقد أمر باحترام كتابهم المقدس، ومنحهم حرية العبادة، والمساواة في المعاملة، وحاول أن يصافيهم ولكنهم قابلوا كل ذلك بالتحقير والتسفيه. ولما أصبح الأمل في إدماجهم في الإسلام عقيما واتضح أن اليهود لن يعترفوا بمحمد (ص) رسولاً لهم، أمر محمد أتباعه أن يولوا وجوههم في صلواتهم شطر الكعبة بمكة (قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم، وما الله بغافل عما يعملون، ولئن أتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين)

ولقد كان لتغيير القبلة في الصلاة مغزى أسمى مما يظهر لأول وهلة، فقد كان ولا شك مبدأ حياة جديدة في الإسلام. إذا أصبحت الكعبة في مكة المركز الديني لكل المسلمين كما كانت منذ الأبد مكان الحج لكل قبائل جزيرة العرب. وهناك مغزى آخر شبيه بالسابق في أهميته، وذلك هو إدماج عادة العرب القديمة - الحج إلى مكة - ضمن ما افترضه الإسلام وذلك لأن الحج فرض على كل مسلم مرة واحدة على الأقل في العمر وفي القرآن آيات كثيرة تثير روح الشعور بالتكوين القومي وتحث العرب على أن يقدروا الميزة التي منحوها بإنزال الرسالة الإلهية بلغتهم وعلى لسان واحد منهم

(إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) (وكذلك أوحينا إليكم قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه، فريق في الجنة، وفريق في السعير)، (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أَأعجمي وعربي؟ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى، أولئك ينادون من مكان بعيد، ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآنا عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون، وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين، فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لدًّا)

(يتبع)