مجلة الرسالة/العدد 304/لما رأيته رأيت القدر

مجلة الرسالة/العدد 304/لما رأيته رأيت القدر

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1939



(مهداة إلى (علاء) الصغير)

للآنسة جميلة العلايلي

عندما يبتسم يتكلم القدر من بين شفتيه، وعندما ينظر ليتأمل تشيع الفلسفة من عينيه، وعندما يتحرك تعلن الحياة معانيها في أسلوب رمزي فاتن

هكذا كان طفلي الحبيب (علاء) عندما شاهد فلم (آلام فرتر)، وقد رأيته على غير ميعاد وعرفته دون سابق معرفة. . .

إنما فهمته كأنني جالسته الأعوام الطوال، وعاشرت روحي روحه الأجيال. . . جذبت روح الطفل بسماحتها وحلاوتها روحي التي تشرئب دائماً إلى الصفاء الصرف والنقاء الأكيد. . .

وهل يمكن أن يأخذ الصفاء مكانه إلا في معين ذلك الطفل النضير؟ كنت أحاول أن أطالع فلسفة الحياة من عينيه، فكان يولي وجهه ويسبل أجفانه. فهل كان يدري أن الحقائق الأكيدة المسجلة في أم الكتاب مرقومة واضحة في مقلتيه؟ هل كان يدري أن معاني الخلود مرسومة على شفتيه؟ هل كان يدري أن أسرار الوجود منقوشة كظلال من النور على جبينه؟

هل كان يدري ذلك الطفل النضير؟

كان يسأل والده الذي احتضنه بجوانحه، وحباه بعواطفه، كلما تراءت له عواطف الإنسانية في شبه صور متحركة: ما هذا؟ ولم هذا؟

وكان يجيبه الوالد في إيجاز عن الاسم والسبب

ويا للفارق بين فلسفة الصغير وفلسفة الكبير!

الصغير يعرف ويجهل، والكبير يجهل ويعرف!. . .

يا حبيبي البريء، يضلك الوالد عندما يقول لك: الحياة أمامك. مع أن الحياة فيك. . .

لا تتكلم يا حبيبي ودعه يفهمك لتعرف أن الحياة تشوه العقل الفطري بأضاليلها. . .

أنت الفيلسوف الحكيم، وأنت العاطفة المثالية العليا. . .

إنك تفهم أمك، وتفهم والدك، وتحسب أنهما مثلك لهما براءتك وفلسفتك فتخاطبهما بأسلوبك الرمزي في إيجاز. . .

يا حبيبي البريء. . .

ما زلت تعيش في سماء الإنسانية وترقب الحياة على ضوء ذهنك الخلاب راجيا أن تسير عجلة الحياة بأمضى سرعتها لتكون رجلاً مثل من سعد بحظ أبوتك، فهل تعرف يا صغيري ما يحمله عقل ذلك الرجل الذي دعوته في لطف وحلاوة باسم (الجدع)؟ هل تعرف يا صغيري أنك بطفولتك النقية الملائكية أعظم منه برجولته المعقدة الآدمية؟

هل تعرف أنك كلما زدت في أعوام عمرك عاماً نقصت من إدراك حقائق الوجود أعواماً مهما قالوا إنك غنمت؟. . .

هل نعرف أنك بقلبك الصغير المليء بالحب العف الطهور،

أجل منك بقلبك الكبير المليء بالحب المادي الزاخر بأباطيل الوجود؟

هل تعرف أنك أحب إلى قلب أمك وأبيك من كل حبيب؟

وغداً عندما تكبر يحاسبك الوالد بميزان العقل، ويراك ندًّا له، فيحبك إذا أوليته من نفسك قدر ما تطمع إليه عاطفته، ويمقتك كأي شخص غريب إذا خالفته وخرجت عن تقاليده وأوضاعه؛ والصلة الروحية الوثيقة التي يقبض على زمامها ملاك الأبوة في الصغر يتهاون في شدّها رويداً رويداً لتشعر بأنك فرد لك حريتك وسلطتك وقلبك وعقلك ولا شأن لك بأمك أو أبيك. . .

هذه هي مرحلة السعادة الأكيدة التي يقضيها الإنسان في حياته. . .

سعادة الطفل بحب أبويه كاملاً

وسعادة الأهل باستسلام الصغير. . .

اليوم لا يحب الطفل غير أبويه، وغداً يحب ويحب ويحب، وقد يكون الأهل أول ضحية تقدم على قربان الحب الذاتي

واليوم يحب الوالد طفله، وغداً يتلاشى الفارق بينهما وتؤدي المساواة رسالتها، وقد يكون الابن أول من يحاربه الوالدان تحت تأثير مخدرات أباطيل الحياة ليقيم لنفسه وزناً في عالم لا وزن له. . .

يا طفلي الحبيب. . . تمنيت لو أحفظ لك طفولتك وأدفع الثمن من دمي، لأحفظ للإِنسانية روح الصدق والحب والطمأنينة والسلام. . .

اليوم لن تفهم ذلك الأسلوب الذي تعارف عليه الناس وأسموه أدباً لأنك لا تؤمن بغير أسلوب روحك الرمزي النقي. . . وغداً عندما تضلك الحياة وتغريك أضواء الوجود. . . تفهم وتدرك

وسوف تقول: ليتني ظللت طفلاً لأتمتع بحب أبوي الشامل وأحرك المشاعر بأنفاسي العطرة، وأسِّير الأقلام بإلهامي. . . ليتني. . . ليتني. . .

ولكن هيهات. . .

فبعد أعوام. . . أسمع عنك وقد أراك، فأجد الحياة المادية تسيرك، وألمح روح الحياة العلوي ينسحب في بطأ وحسرة ليتقمص كيان وليد جديد. . .

أدام الله لك قلبك بعاطفته البريئة النقية. . . ولتتصرف الحياة في كل ما تملك. . . عدا قلبك. . . عدا قلبك. . . لتكون كأبيك تحب لتخلد.

لما سألت والدك: لم مات فرتر؟ أجابك: لأنه أحب وأخفق.

فابتسمت ابتسامة عميقة أعمق من فلسفة الوجود لو ارتسمت

في شبه بسمة وقلت: (يعني لما الواحد يحب واحدة ولا تكونش مراته يموت)، فضحك وقال: أجل

فهل علم الوالد أنك تفهم أكثر منه وأنك تضلله بسؤالك

آه. . . لو قال لك: إنه مات لأنه جعل الحب غاية، وكان يريد أن ينتصر في المعركة، فلما انخزل وجد الموت مع الكرامة أشرف من الحياة مع المهانة، لو قال ذلك. . . لارتسمت تلك الحروف في ذهنك مدى الأعوام ولصرت بطل جيلك. . .

يا صغيري الحبيب!

إنني أتوسم فيك سمات البطولة

وألمح في عينيك شعاع المجد المرتقب

وأرى حركاتك بشير الصراع الحيوي الشريف. . .

فعش لأبيك ذكرى خالدة، ولوطنك شعلة الحب والحق والحرية. . .

جميلة العلايلي