مجلة الرسالة/العدد 305/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 305/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 05 - 1939



التذوق الفني في الشرق والغرب

للأستاذ محمد السيد المويلحي

أحسب أننا مهما تغالينا في التجني على الغرب باتهامه بالإباحية، وبالاندفاع وراء شهواته اندفاعاً لا يعرف حياء، ولا يقيم وزناً لما اصطلحت عليه الأخلاق من قيود وحدود، فلن نستطيع أن نقول إن هذا هو الواقع، وإننا نصور حالة صادقة لما هو عليه من عادات، ولما هو فيه من حرية فضفاضة سعى إليها سعياً متواصلاً حتى نالها. . .

صحيح أن عاداته تختلف عن عاداتنا، ونظرته إلى الحياة وإلى الأخلاق تتغير عن نظرتنا إليها، ولكن ليس بصحيح أنه أكثر منا اندفاعاً وحباً لشهواته ونزواته. لأنه - على الأقل - يمتاز عنا بأنه ينظم وقته تنظيماً دقيقاً: فيعطي لوطنه، ولبيته، ولعمله ما لا يعطيه لقلبه وملاهيه. ثم هو لا يعرف أبداً التسكع والخمول الذي يحملنا حملاً على أن يجلس الواحد منا طول يومه أو طول ليله على قهوة لا لعمل شيء يعود عليه بفائدة، بل للنظر إلى المجهول أو للعب النرد أو للتفرج على حركة المرور. . .!

بل هو يمتاز عنا بأكثر من هذا: يمتاز بتذوق فني رفيع لا دخل للشهوة فيه أبداً فهو حينما يسمع يسمع بإذنه فقط لا بقلبه ولا بحبه ولا (بجسمه) كما هو الواقع عندنا!

لا يحكم على مطربة من مطرباته بأنها حلوة العينين، دقيقة الشفتين مستقيمة الساقين، ممتلئة الجسم، رقيقة الاسم. . . الخ. بل يحكم عليها بأنها. . قوية الصوت. لامعة النبرة. متمكنة من فنها، واسعة في ثقافتها، مجتهدة في عملها، لا تعتمد في معيشتها وحياتها إلا على صوتها، لا تمنعها دمامتها من احتلال المكانة التي يؤهلها لها صوتها، ولو كانت في الذروة!

نعم لا تستطيع مطربة هناك أن تثبت إلا (بفنها) فحسب مهما بلغ جمالها وحسنها، ومهما نضج جسمها واكتمل سحرها، ومهما سالمت واستسلمت، وصادقت عظماء وطنها وحكامه فلن تكون أكثر من جميلة ساحرة ذات جسم! أما أن تُفرض على شعبها كمطربة، فهذا هو المستحيل الذي لن يكون ولن يعترف به الشعب ولو تبدلت الأرض غير الأرض

ثم إن بناته ونساءه لا يحكمن على مطرب من مطربيهن بأنه صغير السن، جميل الشكل، أنيق، رشيق، بل يحكمن عليه بقدر ما يتمتع به من قوة الصوت وسلامته، وجمال الإلقاء، والقدرة على التوزيع والتنويع، والتوفيق في إلباس الكلمات والمعاني (الموسيقى) التي تلائمها وتترجمها وتبرزها في إطارها المضبوط الذي تجري السلامة في أعطافه، ويشيع السحر منه!

ثم إن العواطف الشخصية والإعجاب بالكتفين العريضتين، وبالذراعين المفتولين، وبالقوام السمهري، وبالوجه الصبوح؛ كل هذا لا يجعل من الرجل عندهن مطرباً، فإذا تمتع بعد هذا بمال أو بتقدير، فإن هذا لا يكون إلا بشكل فردي شخصي لا يغرم فيه الشعب مليماً واحداً. . .!

لقد كان (بيتهوفن) رجلاً أصم، و (فجنر) شخصاً دميماً. و (موزارت) مهملاً في زيه. فهل منع هذا عنهم التقدير والخلود؟ وهل وقفت عاهاتهم أمام فنهم القوي لتسد عليهم إعجاب الشعب بعملهم. . .؟؟

(وآل جولسون) الأصلع، (ومستنجيت) العجوز الشمطاء، و (بول روبصون) الزنجي، هل ظُلموا في هذا العصر، ولم يُقدروا لأنهم حرموا ما يبعث الحمية في الأجسام عند الغربيين؟ أي شرقي أو مصري بنوع خاص يشجع فناناً شرقياً أو مصرياً ذا عاهة؟؟ وأي مصري الآن يقبل على سماع مطربة (كفيفة) بقدر ما يقبل على سماع المبصرة، ولو كانت الأولى أقوى صوتاً، وأتقن صنعة، وأعظم أداء؟

قد يقال إن المصريين قبل نصف قرن كانوا يبزون الغربيين في هذا فكانوا لا يهتمون إلا بالفن وبالصوت بدليل أنهم رفعوا (عبدة الحامولي) وزوجه (الماس) إلى ذروة التقدير والشهرة مع أنهما كانا من أشد الناس دمامة وقبحاً. . . وقد يقال إن العرب أنفسهم كانوا من أشد الناس تقديراً للفن وحده بدليل أنهم أفسحوا مكاناً محسوداً (لأبن سريج) الذي بلغ من قبحه ودمامته أنه كان يطرح على رأسه ووجهه غطاء حين الغناء. . . حتى لا يفسده بشكله. . .

وهذا صحيح لا مرية فيه، وهذا ما امتاز به العربي عن الغربي من قرون إبان أن كان الموسيقار العربي يعيش معززاً مكرماً والموسيقار الغربي ممتهناً يعيش كما يعيش المنبوذ المحروم من أبسط مظاهر الحياة وهي نعمة التمتع بالإنسانية وبالوجود. إبان أن كان يقتل كما يقتل الكلب فلا يكون جزاء قاتله إلا ضرب (ظله) بالسيف. . .!

قد يقال هذا وأكثر منه ولكن بحث اليوم ومقارنة الساعة لا تنسحب على الماضي وإلا كان هذا أدعى إلى تعنيفنا إذ كيف يستسيغ الإنسان هذا التطور الأخلاقي السريع الذي لا يسير إلا منحدراً. . .؟؟

لقد كان آباؤنا وأجدادنا من خمسين سنة أسلم منا حكماً وأعدل تقديراً، وأضبط عاطفة، وأسمى غرضاً

كانوا لا يعيشون لشهواتهم وجسومهم كما نعيش نحن الآن مع أنهم لو فعلوا ما استطاع اللوم أن يصل إليهم فقد كانوا أوفر منا مالاً وأقل انشغالاً بتهيئة وسائل المعيشة. وكانوا أقرب إلى (الفطرة) منا إليها، وكانت جميع المحرمات والممنوعات التي تستلب الإحساس وتمنع التقدير السليم موفورة لديهم، ومع ذلك كله استطاعوا أن يقدروا الفن ويتساووا مع الغرب الآن. . . أي أنهم كانوا يعيشون من نصف قرن كما يعيش الغرب الآن من حيث تفكيره وتقديره الموسيقي. . .!

قد يكون للاحتلال نصيب، وقد يكون للانحلال الأخلاقي الذي يتغلغل في عظمنا ونفوسنا نصيب، وقد يكون لتلك النفوس التي طبعت بطابع الزلة بعد الحرب وبعد الثورة المصرية نصيب

تلك النفوس التي استساغت هذا اللون المسترخي وهذا التخنث الذي يطفح من كل أغنية، ثم تدرجت بعد هذا إلى السيطرة على بقية النفوس حتى أصبحنا ونحن على هذا الحال البغيض

فالجمهور لا يشجع إلا الجميلة من المطربات أو الظريفة منهن أو كثيرة الأصدقاء. . .

هبط معيار التقدير حتى أصبح منحصراً في الجسم وفي كل ما يرضي الجسم. أما الروح. أما الفن بصرف النظر عن كل شيء فلا. . .!

ولهذا أصبح جونا الموسيقي جو جسم بحت، وأصبحت تربته لا تنبت ولا تصور إلا الشهوة. أما الصوت، أما الفن، فهذه أشياء تافهة في عرف الذوق الشرقي عامة والذوق المصري خاصة!

محمد السيد المويلحي