مجلة الرسالة/العدد 306/أعلام الأدب

مجلة الرسالة/العدد 306/أعلام الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 05 - 1939



يوريبيدز

لغته. فنه. وطنياته

للأستاذ دريني خشبة

أعظم الآثار الفنية في عالم الآداب هي تلك التي لم يستطع أحد إلى اليوم نقلها من لغته إلى لغة. . . فالقرآن مثلاً لا تعرف قيمته الفنية إلا في اللسان الذي نزل به، وقد فشل الكثيرون في ترجمته ترجمة فنية سائغة تحتفظ ولو بالقليل جدا مما اختص به أسلوبه القوى البارع المسبوك المتين من بلاغة واتزان وموسيقى وشدة أسر. . . وكذلك الإلياذة والأوديسة والأنييد وفردوس ملتون. . . إنه لا توجد لهذه الآيات الأدبية الفنية البارعة ترجمات تعادلها فيما امتازت به من خصائص لُغَاها التي ألفت بها، فما تستطيع الترجمة إلا أن تشوه جمل الأصل وتمسخه مسخاً. . . ومثل هذا يقال في درامات يوريبيدز، فإنه لم يستطع أحد ممن نقلوها إلى لغاتهم أن يحافظ على روح الشاعر العظيم وقوة بيانه. وهذا شللي أحد عباقرة الشعراء الإنكليز وأحد المعجبين بيوريبيدز والمتمكنين في اللغة اليونانية القديمة. . . لقد أحصى له النقاد أخطاء كثيرة في ترجمته درامة السيكلوبس. . . ثم عدوا له ضروباً من الشطط ابتعد بها عن الشاعر العظيم. . . ولقد كان شللي معذوراً من غير شك، فلقد بلغ يوريبيدز الذروة بالبيان الأتيكي واللغة الاتيكية. وقد كان مثل أبي الطيب في الشعر العربي، ارتفع ثم ارتفع، فلما مات لم يخلق الله له ندا يحلم بمرتبته في الشعر والحكمة. هذا ولقد أوتي يوريبيدز أضعاف ما أوتيه أبو الطيب من قوة الأسلوب وعمق التفكير، لا في بيت، أو مقطوعة، أو قصيدة، أو مرثية أو مدحة؛ وإنما في درامة طويلة فيها حوار وفيها خطاب وفيها غناء وفيها بكاء وفيها تدبير وفيها تصور لحادثة متشعبة، هي كالكائن الحي، يملأ المسرح، ويملأ الآذان، ويملأ الأبصار، ويملأ القلوب.

أنهت الدرامة بعد يوريبيدز في تاريخ الأدب اليوناني. . . هكذا يقول المؤرخون. . . وهم يقصدون الدرامة العالية ذات الفن الرفيع. . . وقد عاش يوريبيدز يؤلف للمسرح قرابة خمسين سنة، ومع ذلك فقد عاش غريباً في قومه، بغيضاً إلى غالبيتهم المغيظة المحنقة لشدة ما ثار بتقاليدها وسخر من أفهامها. . . فلما مات. . . أخذ يعيش بأدبه العالي من جديد، وأخذ يخلب القلوب ويسحر الألباب بدراماته التي نيفت على التسعين، والتي ظلت تمثل بعد موته ستمائة سنة أو يزيد، والتي ظلت شغل النحويين واللغويين من علماء الأمم المختلفة في اليونان وفي رومة وفي بيزنطة إلى ما قبل ألف سنة من الزمان. . . فما نجد لغويا من مؤلفي المعاجم إلا وهو يستشهد به في أكثر ما يستشهد على صحة كلمة أو سلامة تعبير على نحو ما يستشهد مؤلفو القواميس عندنا بأشعار الجاهلية والقرآن الكريم.

ومع هذه المرتبة الرفيعة في اللغة فلم يستحدث يوريبيدز شيئاً ذا بال من وجهة الفن المسرحي، بل هو قد أخذ ما استحدثه سوفوكليس دون أن يغير منه شيئاً. ويبدو أن اشتغاله بالفكرة العميقة واستعراض الآراء السيكلوجية التي استحدثها في أكثر دراماته، والتي لم يعرضها تاريخ المسرح قبله، ثم استعراض الآراء الفلسفية التي طبعها فيه أساتذته، وأصدقاؤه السفسطائيون، ثم عنايته الشديدة بالصوغ الشعري، وتجويد أغاني الخورس، كل ذلك حال بينه وبين التجديد المسرحي الفني، أو ما يعنون به (تكتيك) المسرح من وجهة الشكل لا من وجهة الموضوع.

على أن ليوريبيدز مع ذلك خصائص ميزته من أقرانه، ومن أهمها تلك المقدمات الطويلة الطلية الاستهلالية التي يهيئ بها الأذهان لمشكلته الدرامة والتي يقصها بلسان شبح كما في (هيكوبا) أو بلسان إله كما في (هيبوليتس) أو بلسان أحد أشخاص الدراما كما في (هيلينا). . . الخ. . .

وليس يعترض على ذلك بأنه لم يتبع تلك السبل (إفجنيا أوليس) لأنه لم يكمل هذه الدرامة كما أسلفنا بل أكملها غيره، وربما بدله غيره أيضا.

ومن ذلك أنه كان يحل عقدته الدرامية في اللحظة الأخيرة بظهور شبح أو إله أو سرد نبوءة، فيظهر ما كان مطوياً عن الأفهام، وهو ما يسميه نقاد الآداب الكلاسيكية - أو (إله من الآلة) أو تسخير إله لغرض درامي كما تسخر الآلة.

وكان ارسطو يكره ذلك في درامات يوريبيدز، وإن كان سقراط من قبله لا يرى في ذلك ما يعاب به الشاعر - والحقيقة التي اتفق عليها نقاده، وفي مقدمتهم الدكتور فيرال إن هذا أشق عيوب يوريبيدز بالإضافة إلى طول جواره الذي يجعله إلى الخطب الرنانة اقرب منه إلى الحوار المسرحي، فقد يطول ما يلقيه الممثل الواحد في القالة الواحدة عن صفحتين أو ثلاث، وهذا ما كان يسخط ارسطو، وما يزال يسخط مترجمي يوريبيدز.

هذا، وينبغي ألا ننسى له براعة تنقله بالنظارة من المشهد إلى الآخر وما يثيره فيهم من الشغف والشوق والتشوف لما بعد. . . ثم ينبغي كذلك أن نذكر أن أجمل الأغاني - ولاسيما أغاني الحب - هي ما نظم يوريبيدز.

أما ما يعيبه بعض النقاد على الكورس في دراماته وعدم قيامه بما جعل الخورس له في سائر الدرامات اليونانية من وصل للحوادث وتمهيد لما يجيء بعد ثم شرح لبعض الوقائع الطويلة التي يتيسر تشخيصها على المسرح، فهل قول مردود لأن الذي صنعه يوريبيدز وحصر به مهمة الخورس في الموسيقى والغناء وسمو منه بوظيفة الخورس، واختفاء ظلاله خلابة من لذة الألم في المشاهد المشجية وجمال الاتعاظ في مشاهد العِبر، وتذوق الجمال في المشاهد المنتزعة من صميم الطبيعة. . وعلى هذا فقد قصر يوريبيدز خورسه على إلهاب الشعور وإذكاء الحس بالموسيقى التي تتفق وكل مشهد من المشاهد، والغناء الذي لا يجيء (نشازاً!) كما نشهد في بعض دراماتنا العصرية.

وطنيات يوريبيدز

لم يتأثر شاعر يوناني بروح بركليس كما تأثر به يوريبيدز، ولم يبد هذا الروح واضحاً جلياً في أدب شاعر كما بدا واضحاً جلياً في كثير من دراماته. . لقد سمعه يخطب قبيل حرب البلوبونيز الأولى وهو يشيد بمناقب أثينا وما حملته من قسط عظيم في تأريخ اليونان حينما حررت شعوبها من أربقة الفرس وتعرضت وحدها للدمار والحريق حتى إذا ظفرت بعدها وطهرت منه البر والبحر عادت تنشئ لجميع الشعوب الهيلانية حضارة رفيعة قوامها الديمقراطية والفن والأدب والفلسفة. . . ثم قال بركليس كلمته الخالدة التي أوردها في تلك الخطبة: (لم لا تحدق الشعوب والقبائل اليونانية كعصبة من العشاق المعاميد حول أثينا؟) ثم ذكر ما لأثينا من الفضل في التعريف بالفضيلة ونقلها من حيز النظريات إلى عالم الدولة ومعائش الشعب وسياسته العليا، وقد خاض يوريبيدز معظم حروب البلوبونيز (بين أثينا وإسبرطة) وكان حظ الوطن يعمر فؤاده بالإيمان، وكان يحزن أشد الحزن لهذه المجازر التي تنشب لأسباب تافهة بين شعبين شقيقين وإن تكن الحرب في الحقيقة بين ديمقراطية أثينا وأتوقراطية إسبارطة. . . وقد كان يوريبيدز من أنصار السلام آخر الأمر وإن يكن قد ظل جندياً من سن الثامنة عشر حين اعتبر رسمياً (إفيبوس) أي شاباً لائقاً للجندية إلى أن بلغ الستين. . . وقد أثار عليه ميله للسلام حفائظ مواطنيه، تلك الحفائظ التي منها ما عرفنا من ثورته على التقاليد السلف وما كان يتناول به النساء في دراماته من تحليل ودفاعه السيكولوجي عن الزناة والقتلة وجنايات المأفوكين، وما سنعرفه عنه في هذا الفصل من سخريته بالآلهة وتجديفه في دين الإغريق ورمي أرباب الأولمب بأقسى التهم وأفتك سهام التجريح. . . لكن يوريبيدز مع ذلك كان يحب أثينا لأنه كان لا ينسى إذ هو طفل والأثينيون ينقلون إلى سلاميس العجائز من الرجال والنساء والأطفال - وهو منهم إذ ذاك - والفرس البرابرة يحرقون القرى والمعابد على الشاطئ فتندلع ألسن النيران لتكتب في صفحة التاريخ وقائع هذه الحرب بحروف من نار. . . لم يكن يوريبيدز ينسى هذا المنظر الفظيع، ولم يكن يربح ذهنه بعد إذ شب أثينا الضعيفة الديمقراطية قد انتصرت على فارس القوية المستبدة، وأن الأثينيين القليلين الجياع قد انتصروا ذلك النصر لأنهم كانوا غير معتدين على أحد ولا طامعين في ملك أحد. . . ولأنهم (أحرار أيها الملك، ولكنهم غير أحرار في عمل أي شيء، لأن لهم سيداً واحداً يخض له الجميع يدعونه القانون!) كما قال أحد الإسبرطيين لعاهل الفرس أجزرسيس وهو يسأله لماذا لا تفر هذه الحفنة القليلة من الناس أمام عسكره اللجب الكثير!

هكذا أحب يوريبيدز وطنه أثينا الذي أشاد به في كثير من دراماته. وهكذا أحب يوريبيدز الديمقراطية، لكنه سخط على الديمقراطية جميعاً حينما ثار وطنه عليه مع أنه من أعظم أسباب رفعته، وحينما رأى الديمقراطية ترفع الأوشاب وتُكوّن منهم زعماء الشعب فيتحكمون في السادة الأخيار من رجال الذهن والخلاصة الصالحة من نجباء الأمة ثم يظل هؤلاء الأوشاب محترفي سياسة، وموضع تقديس الرعاع والدهماء؛ والويل كل الويل لمن يجرؤ أن ينقذهم بكلمة ولو كانت كلمة الحق، أو أن يرسل فيهم لساناً ولو كان لسان الصدق. . .

من وطنياته في ميديا

حينما لقي جاسون زوجته ميديا بعد إذ كشفت سره دار بينهما حديث طويل فيه مرارة وفيه ثورة وفيه جائحة من السباب والشتائم والتعبير صبتها ميديا على رأس جاسون الذي خدعها وغدر بها ولم يذكر ما صنعت في سبيله يجزها جميلاً بجميل:

جاسون:. . . كيف تزعمين يا امرأة أنني لم أجزك على ما قدمت إلى من جميل؟ لقد أخذت أضعاف أضعاف ما أعطيت! لقد نقلتك من أرض البربرية الخبيثة إلى فراديس اليونان ألفياحة، حيث عرفت لأول مرة جمال العدالة، وبهرك سلطان القانون فأقلعت إلى حين عن وسائلك الوحشية. . . وها قد ذاعت حكتك بين جميع الاغريق، ولو تلبثت بين عشيرتك لما عرفك ولما أحس بوجودك أحد، بل لم يجر ذكرك على لسان!!

ومن هذه القالة نفسها في ذم النساء:

(إنك لا تعذلينني هذا العذل إلا لأن نفسك مقروحة من غريمك؛ ولكن هذا دأبكن جميعاً يا بنات حواء، إذا طابت أهواؤكن في أكناف أزواجكن فقد تمت نعماؤكن، فإن لفح مهاد الزوجية لافح من سوء حظكن فقد تبدلت الحال غير الحال وانقلب كل ما كان خيراً فأصبح شراً مستطيراً. . . كم كان خيراً للإنسان أن يستطيع النسل بطريقة أخرى غير طريقة النساء!! ثم ما كان أجمل ألا يخلق جنسكن؟! إذن ما حاق بنا شر ولا عرف وجه الأرض موبقة من الموبقات!!)

ومن أغاني الخورس في تمجيد أثينا ص97 نقتطف هذه السطور:

(يا أبطال شعب إركتيوس! يا أنسال الآلهة. . يا من يطعمون ثمار الحكمة الناضجة، وينشقون ألطف أنفاس النسيم، وينعمون أبداً بالسماء الصافية، ويضربون في تلك الدروب المأهولة حيث كانت عرائس بييريا ترطب أرواح الآباء بطهر المسرة وتلقن آلهة الألحان كيف تتغنى قصتها الأولى)

والسطران الأخيران من الفقرة الثانية من ذاك الخورس نفسه: يخطر الحب في مهرجان الحكمة في ناديك، وتُدل كل فضيلة وتختال حين تؤثرها آلهة الجمال برعايتها التي تنميها وتشيع فيها المجال!)

أطفال هرقل

عندما مات البطل العظيم هرقل (هركيولز) استبد ملك آرجوس بزوجه وأطفاله، وظل يسقيهم من الهوان ألواناً حتى اضطروا إلى الفرار من راعيهم يولوس. . . وقد رفضت جميع الممالك اليونانية إيواءهم خوفاً من بطش ملك آرجوس حتى ينتهي بهم المطاف إلى المدينة الحرة أثينا فيعطف عليهم ملكها الشجاع الذي يوبخ قائد الأرجيف الذي جاء يقص أثرهم ويعود بهم إلى آرجوس. . . ويثور القائد ويهدد بإعلان الحرب على أثينا في الحال إن لم يُسلم ملكها (ديموفون) الفارين من الأرجيف. لكن الملك يثبت كالصخر وينتهر القائد، لأنه لا يخاف الحرب من أجل المحافظة على الكبرياء الوطنية، ولأن الذي يلوذ بأثينا فإنه آمن، لأنه يلوذ بالمدينة الحرة.

القائد كربيوس: إذن يهرع الأشرار من كل مكان ليلوذوا بأثينا؟

ديموفون: هذا الهيكل حل لكل لاجئ!

القائد: سيرى أولو الأمر في مسينا غير ما ترى؟

الملك: أولست ملك هذه البلاد إذن؟

القائد: فلا تجر على رؤوسهم الويل بسوء عملك!

الملك: أفأنت تعد ما أرفض من استباحة هياكل الآلهة سوء عمل؟

القائد: لست أحب لك أن تجازف بحرب ضد الأرجيف!

الملك: أنا قرينك في محبتي للسلم وتعلقي به، لكني مع ذلك لن أخيب رجاء هؤلاء المساكين!

القائد: بيد أنني مكلف بالقبض على من هم منا!

الملك: إذن فلا تحسب أنك ستطيع العودة إلى آرجوس بسهولة. . .

القائد: سأجرب لأعلم ما وراء التجربة!

الملك: إذا خيل لك أنك قادر عليهم فستندم على مجرد مسهم!

ويستمر الحوار على تلك الوتيرة ثم يمضي القائد ثائراً مرعداً وتعلن الحرب! والدرامة تكبر من أساليب الديمقراطية في الحكم وتسفه الوسائل الاستبدادية فيه.

وفي درامة (نسوة متضرعات) التي تدور حوادثها على توسل نساء الأرجيف لدى قادة أتيكا في رد جثث أبنائهن قتلى الحرب بين أثينا وآرجوس، منظر وطني رائع بين قائد طيبة وملك أثينا. . .

فإن القائد يدخل متقحماً سائلاً: (من الحاكم بأمره في هذه البلاد؟). فيصبح له الملك خطأه ويجيبه: (ليس هنا حاكم بأمره يا صاح. . . إن هذه لمدينة حرة. . . وإذا قلت مدينة حرة فإني أعني أن كلاً من أفراد الشعب يأخذ في دوره بنصيب في الملك، وليس للأغنياء عندنا من دون الفقراء امتيازات ما!) وليوريبيدز درامات وطنية مفقودة نظمها قبيل حرب البلوبونيز الأولى أو عقبها يطول بنا البحث إذا تناولناها هنا فنكتفي بالإشارة اليها، وبحسبنا أن نذكر منها درامات إيجيوس، وثيذيوس،، وإيرختيوس.

دريني خشبة