مجلة الرسالة/العدد 307/مصر العظيمة تستعد!
مجلة الرسالة/العدد 307/مصر العظيمة تستعد!
في يوم وليلة
في يوم وليلة رأينا مصر المبعوثةَ من مرقد الخلد تدخل في عهدها الجديد الجدّي فتنهض بما توجبه الحياة الحرة من تكاليف الاستقلال وتبعات السيادة!
كان ذلك اليومُ يومَ الخميس الماضي، وكانت تلك الليلة ليلة الثلاثاء قبله! ففي هذا اليوم كان عرض القاهرة لجيشها الفتيِّ في آلته الحديثة وعدته الكاملة؛ فخرج من عرائنه الشُّم والصباح الضاحي يتنفس بأريج مايو الجميل، وسار في الشوارع الحاشدة يعرض على الأنظار الدَّهِشة قوى الدفاع وأسلحة الأمن وما لا بد منه لمن يعيش في زمن استذأب وضَرِي حتى أنكر حق الحياة على نوع الحمل.
لم تكن المدافع القصيرة والطويلة، ولا الدبابات الخفيفة والثقيلة، هي التي ملكت الألباب وأثارت الإعجاب وفجرت الحماسة؛ فإن منظر آلات الدمار والموت أصبح لطول ما ألِفه الحس لا غرابة فيه ولا عجب منه؛ وإنما الذي ملك الألباب حتى أذهل، وأثار الإعجاب حتى أدهش، وفجَّر الحماسة حتى أطغى، هو منظر جنود مصر بشبابهم الفاره، وخَلْقهم السِويِّ، وملامحهم الدالة، ومظهرهم الأخاذ، ونظامهم الرائع؛ فكأنما جنود إبراهيم لم يلقوا السلاح منذ ارتد قائدهم عن الآستانة. فأين كان مكمن هذه الروح الحربية القوية مدى حقبةٍ من الرخاوة والكسل لو مرت على الضواري لطمست في وجوهها معارف الجرأة، وأماتت في نفوسها معاني الافتراس؟ لقد كان لنا قبل سبتمبر الماضي جيش من الأرقام متواضع العدد والعدة، يعيش في أكناف الشعب عيش الأمان والغفلة، لا يعرف الحدود إلا على الورق، ولا يشهد الحروب إلا في السينما، ولا يدرك معنى الدفاع عن النفس في وجود إنجلترا إلا كما تدركه الزوجة المرفهة في وجود زوجها، والولد المدلل في حضرة أبيه. فكيف انقلب هذا الجيش الصغير الغرير في سبعة أشهر جيشاً من المردة العتاة يقيم المعاقل على البحر، وينحت الخنادق في الصخر، ويروض أوعار الأرض لإقدامه، ويذلل أخطار السماء لقوادمه، ويضع الخطة فلا تخطيء، ويسدد الرمية فلا تطيش، ويقف جنباً إلى جنب مع الجيش الذي قهر نابليون وهزم غليوم وغنم الدنيا، فلا يفوقه في نظام، ولا يفوته في سبق، ولا يبذه في مناورة؟ السر في معدن هذه الأرض التي جعلت للزمان تاريخاً وللإنسان مدنية. والسحر في طبيعة هذا الفلاح الذي طبع آثاره على جباه القرون وسلطانه على قلوب الأمم. وفرخ النسر لا يعلَّم كيف يصيد، وشبل الأسد لا يدرَّب كيف يفترس!
وفي تلك الليلة كانت تجربة الدفاع الجوي عن القاهرة. ففي عتمة الليل والناس لاهون صاحت الأبواق المنذرة بالغارة في كل حيّ، فأطفأت الأنوار وأسدلت الأستار وخشعت الأصوات وسكنت الحركات، وأقفرت الشوارع إلا من رجال الشرطة والمطافئ والإسعاف، وجثم على صدر العاصمة كابوس من الرهبة والقلق، فامتدت العيون خلسة من وراء السجوف ومن خلال النوافذ فلم تر إلا الظلام يموج، والنجوم تضطرب، والرقابة تحت الحنايا الآمنة تتهامس، والمدافع فوق العمائر العالية ترتقب. ثم أقبلت من الحدود الغربية النسور المغيرة فرنَّقت في جو المحروسة على علو لا يُرى ولا يسمع؛ ولكن آلات الرصد نبهت الكشافة فأرسلتْ على أطباق الجو الحالك أفواجاً من الأشعة الخاطفة، تتطاول وتتعارض، وتتعانق وتتشابك، حتى لم تدع طائراً يطير إلا صوَّرته في عدسة مدفع. وفي آخر الهزيع الأول من الليل أعلنت الأبواق بأصواتها المتصلة انقطاع الغارة، فأشرقت المدينة، واستأنف الناس حياة اللهو والأنس وهم يشعرون انهم اصبحوا خلقاً كسائر الخلق لهم قوة لا تُزدرى، وكرامة لا تمتهن، وحمى لا يستباح.
في هذه الليلة وفي ذلك اليوم أدركنا أن مصر الناهضة قد بلغت سن التكليف وجاوزت حد العبث؛ فهي تستعد للحرب والسلام، وتبنى بالفعل لا بالكلام، وتقد إلى ساحة الدفاع المقدس شيوخ دينها وشباب دنياها، وهي راضية بهذا البذل فخورة بهذه التضحية. والفضل كله للأحداث التي تذيب الغش وتفضح الزيف وتمحص الكفاية.
لا جرم إنا كسبنا مغانم الحرب وأن لم تكن حرب. لأننا بما عملنا أوجَدنا شيئاً لا بد من إيجاده، وبما بذلنا سددنا عوزاً لا مناص من سداده. أما الدول الأخرى فدفاعها مكين الأساس مرفوع القواعد منيف الذرى، فكل ما تنفقه عليه يضطرها الخوف إليه لتأمن الفشل وتضمن العاقبة.
ماذا كنا قبل أن ينتشر الجراد الرومي المسلح على حدودنا المهملة؟ كنا قوماً من سادة الماشية وعبيد الأرض تركوا أزمتهم للقدر وثروتهم للغريب وحمايتهم للحليف، ثم أقبل بعضهم على بعض يتنافسون في الهزل من غير غرض، ويتراشقون بالتهم من غير بينة، ويتسابقون إلى الحكم من غير غاية. فلما أينع الحصاد وأزّ في الأفق الجراد وزأر بالوعيد الطغاة، تيقظت مصر الصادقة الحرة على ضفاف النهر وأحقاف الرمل ورياض الريف، ثم وقفت في شِكتها الكاملة موقف الواثق الحذر وهي تنظر إلى الشفق الدامي في وجه الغرب، وتقول للطامع الساعي لإثارة الحرب: حذار! فإن على عرشيَ الفاروق خليفة الله، لا كليو بطرة صديقة قيصر!
أحمد حسن الزيات