مجلة الرسالة/العدد 309/أسرار حياة بلاد العرب السعيدة

مجلة الرسالة/العدد 309/أسرار حياة بلاد العرب السعيدة

مجلة الرسالة - العدد 309
أسرار حياة بلاد العرب السعيدة
ملاحظات: بتاريخ: 05 - 06 - 1939



'

تأليف الكاتب الإيطالي سلفاتوري آبونتي

للأستاذ محمد عبد الله العمودي

يقسم الجغرافيون القدامى البلاد العربية من حيث التكوين الطبيعي وخصوبة الأرض إلى شطرين عظيمين: يمثل أولهما بلاد العرب الصحراوية وأطلقوا عليه وهو الجزء الشمالي من الجزيرة. والآخر بلاد العرب السعيدة وأسموه وعنوا به الجزء الجنوبي من الجزيرة بما يعرف اليوم باليمن وحضر موت، وما ناوحها من الكور والمخاليف

وهذا التقسيم ليس من مستحدثات هذا العصر، ولكنه يرتفع إلى عصر سحيق جداً؛ فمؤرخو الإغريق والرومان هم أقدم من كتب عن هذا القطر الخصيب، وأول من ابتدع هذا التعريف تفريقاً بين الإقليميين من حيث قوة الإنتاج وكرم الأرض وجمال التربة

وأصبحت (بلاد العرب السعيدة) علماً مشهوراً على بلاد اليمن، وبقى هذا المفهوم بهذا الوضع اللفظي واحداً في سائر اللغات الأوربية مع تحريف بسيط في المقطع الثاني من الكلمة الأخيرة

وترجع شهرة هذا القطر الكريم من بلاد العرب إلى عصور متلاحقة في القدم حينما خط أولئك اليمانون على أمواج الدهور حضارات ومدنيات بلغت النهاية القصوى من الإبداع والازدهار والحيرة مازالت أسرارها بعيدة متفرقة في خفايا الدهور، ورمال الصحراء! وبالرغم من كثرة الرواد الذين اقتحموا هذه البلاد، وتغلغلوا في آفاق بعيدة مهمة منها، وأماطوا اللثام عن بعض أسرارها وخفاياها، فبلاد اليمن أو الجزء الجنوبي من بلاد العرب مازال لغزاً من الألغاز، وسراً استغلق فهمه على الأجيال، وسيبقى هكذا إلى أن يبدل الله أرضاً بأرض وأقواماً بأقوام!

هذا الجزء الخصيب من الجزيرة العربية يؤلف منذ أقدم العصور حتى أيامنا هذه سلسلة متلاحقة الحلقات، قائمة بنفسها لجماعات من الرواد الذين رادوا هذه البلاد فجاسوا خلال ديارها ونقبوا عن أطلالها، فكتبوا عنها تقارير ضافية، مبنية على صدق الملاحظة والاستنتاج الشخصي القائم على الخبرة والبص فأقدم من أرخ عن هذه البلاد وبقيت أخباره حتى أيامنا هذه مصدراً يعول عليه هو استرابو، ذلك العالم الإغريقي الذي عاش قبل الميلاد، فقد صور هذه البلاد (السعيدة) من جغرافيته في عبارات مشرقة لماحة الرواء رائعة التاريخ كبسمة من بسمات الدهر لهذه البلاد العريقة في القدم التي رماها الزمن بسهام صائبات في سكانها وحكامها، وقفنا على ما بلغته تلك البلاد من الشأو البعيد في مجتلي الحضارة، وبلَهْنية العيش حتى (إنهم ليحرقون الأعواد العطرية الفواحة في الوقود بدلاً من الأحطاب)

وجاءت القرون الوسطى وعصر النهضة، فتواكبت على البلاد العربية أفواج المستكشفين، مستهدفين لأخطارها، همهم الوحيد ارتياد صحاريها واستكشاف مجاهلها والوقوف على مواطن اللبان والمر والبخور وسائر الأطياب التي تفهق بها منحدرات جبال اليمن وشعاب حضرموت العميقة فوقفوا إلى أقصى حد

وإذا كان للإنجليز والألمان والفرنسيس مغامرون إلى هذه البلاد فالإيطاليون لا يقل حظهم عن هؤلاء في هذا المجال. وترجع صلتهم باليمن - الصلة العلمية البحتة - إلى العهد الذي قام فيه الرحالة الإيطالي المشهور (لودفيكيودي فرثمة) الذي يعتبر أول من راد بلاد اليمن من الفرنجة، وفتح لغيره باب المغامرات وذلك عام 1503م، وقد طبعت رحلته خمس مرات في روما والبندقية

ثم انعكست الآية، وظهر في اليمن قبل الحرب العامة إيطالي خطِر يدعى (لويجي كابرتِّي) كان الجرثومة الأولى للفكرة الاستعمارية؛ وصفه ادوار غلازر بأنه (أحد أولئك الرجال الذين بنوا مجداً لأوطانهم) و (أول من فتح بلاد العرب للتجارة الإيطالية). وقد ظل في اليمن يعمل على بثِّ فكرته حتى قضى نحبه في صنعاء ودفن بمقبرتها، وما زال قبره هناك يعرف بصليب عليه!

وخلفه في مسعاه أخ له يدعى يوسف، يعرفه اليمانيون لليوم (بسيدي يوسف الطلياني!) فكان ضغثاً على ابّالة. . .

أما في هذه السنين الأخيرة التي تحركت الأطماع المتوثبة في صدر إيطاليا الفاشستية فقد حفلت المكتبة الإيطالية اليمنية في هذه السنين بكتب نفيسة، وأسفار ما كتب الأخباريون مثلها حتى أصبحت بلاد اليمن وحياً لأقلام الإيطاليين دون غيرهم. ولقد كتبت في السنين التالية كتب ومقالات وتقارير عجزت عن مثلها قرون مضت! ولولا الأنفاس الاستعمارية التي ترشح في هذه الكتب لكان الإيطاليون من أكثر الشعوب الأوربية التي أسدت فضلاً عظيما ومجهوداً جليلاً في خدمة التاريخ اليمني والتنويه بذكره في المؤلفات التي نشرها كل من المأسوف عليهما العلامة نللينو والسنيور غرِّيفيني مندوب الأمبروسيانا في ميلانو وغيرهم من الذين أفنوا أعمارهم وأحرقوا أدمغتهم في سبيل الثقافة العربية والتاريخ الإنساني العام. وكما وُجد منهم الخيّرون، وُجد منهم للفاشستية أنصار اتخذوا من العلم سلاحاً يحققون به أغراضاً معينة، ويخدمون أطماعاً متوثبة نحو البلاد التي تشقى بوطأتهم. من هؤلاء السنيور سلفاتوري آبونتي صاحب هذا الكتاب الذي لا يمكن بحال من الأحوال - ونحن نعرض لكتابه هذا - أن نغمط حقه أو ننكر فضله، وما أضفاه من الأثواب الزاهية على تاريخ اليمن ونشره في أرجاء الغرب؛ كما ننكر عليه ذلك الأسلوب الاستعماري الصارخ الذي أسقط هذا الكتاب كمؤلف علمي بحت

هذا الكتاب

هذا السفر الجليل الضخم طبعته ونشرته دار (موندا دوري) بميلانو في قرابة المائتي صفحة؛ محلى باثنتين وسبعين صورة تعد من أبدع الصور، منتزعة من صميم الحياة في سهل اليمن، تمثل الزعماء، والمدن، والقصور، والمعاقل، والجبال المغطاة بأشجار البن. . .

تبتدئ نقطة الرحيل والانطلاق إلى داخلية اليمن من ثغر عدن. ويحدثنا السنيور آبونتي بقصة طريفة قبل أن يبتدئ في مسيره، وذلك أنه عمد إلى صرة فملأها بنوع من العملة الفضية التي لا تزوج إلا في بلاد اليمن والحبشة: هذه العملة هي (ريال ماريا تريزا) أو (أبو طيرة)، وهو عبارة عن ريال ضخم حالك المنظر، قليل القيمة، محدود المنفعة؛ والإمام يحيى وشعبه لا يعرفون إلا هذا النوع من النقد ولا تروج عندهم الأوراق المالية مطلقاً!

ويبارح المؤلف أسوار عدن وينحو نحو الشمال، فتصافحه (أرض العبدلي) سلطنة لحج، فيراها غارقة في بحر من النخيل تحف بها بساتين العنب وأشجار الموز؛ وتبدو الحوطة عاصمة هذه السلطنة في منظر ساحر جذاب، ويزداد المرء إعجاباً بهذه الواحة الواسعة ذلك القصر العجيب المصبوب من المرمر الفاخر الناصع وقد فرشت على واجهته الأمامية فوطة صفراء مكتوباً عليها بالحرف العريض - خوف الالتباس - هذه العبارة: (قصر السلطان عبد الكريم فضل بن علي محسن العبدلي!)

ويحدثنا المؤلف أن (العبدلي) يعيش في بلهنية من العيش وسمو في الحياة؛ يرجع إلى المرتب الضخم الذي يتقاضاه من الخزانة البريطانية إذ لا يهمه شيء في الحياة إلا العناية بقصوره وزخرفتها بضروب الزينات ثم الشغف العظيم بزرع المزروعات ونمو النباتات وإعطائها قسطاً عظيماً من عنايته واهتمامه. والإنكليز يعلمون منه هذا الميل فيتركونه يفعل ما يريد، لأن سلطنته تكون أهم جزء من المحميات علاوة على أنها موقع مهم يمكن موقع يمكِّن الإنكليز من بسط نفوذهم إلى أعلى النجود اليمنية.

وينحدر المؤلف من سلطنة لحج، فيزهاه سهل (المخا) وقبل أن يضرب على أبواب المدينة (العالية!) تعترضه مدينة (تَعِز) وضواحيها، وهي عبارة عن تفاريق من الفراديس المصطنعة؛ مكِّنت في سهل اليمن ولها منزلة خاصة في قلوب اليمنيين؛ فحوالي هذه المدينة ينبت أعظم (كيف) تترنح له أعطاف اليمنيين وتهفو له نفوسهم. هذا (الكيف) هو شجرة (القات) التي لعبت ومازالت تلعب دوراً خطراً في الحياة الاجتماعية اليمنية. ويحسن بنا أن نذكر العبارة البليغة التي وصف بها السنيور آبونتي هذه الشجرة الملعونة (ولا مؤاخذة أيها المواطنون!) فقد حللها تحليلاً كيماوياً استهلها بقوله:

(منذ قرون خلت وسكان هذا الجزء السعيد من بلاد العرب يمضغ أوراق القات. وأول ما عرف من أمره أن أحد الرعاة لاحظ أن إبله تمددت على وجه الأرض بعد أن أكلت من هذه الأوراق، وقد غمرتها نشوة من الراحة والانبساط، وسرت في مفاصلها تيّارات خفية أخمدت من حركتها، وشلت من عملها فأخذ يضربها ضرباً مبرحاً لتنهض وإذا بأتعابه تذهب سدى، والجمال أصبحت لا تحس بألم الضرب. فبهت من هذا الأمر الغريب ووقف ذاهلاً متحيراً لا يدري ماذا يصنع؛ وأخيراً بدا له أن يطعم هذه الورقة، فقطف منها شيئاً وصار يتناولها كل يوم وعند كل فراغ. ومن ذلك اليوم أقصيت الجمال (المسكينة) عن هذه الشجرة ووجدت لها مجالاً واسعاً إلى قلوب اليمنيين، فكان متعة نفوسهم في الأفراح والأتراح!

وليس في استطاعتنا تحديد طعم هذه الأغصان، ولكن يمكننا أن نعتبر طعمها حرِّيفاً مراً يشبه شراب الكحول المشوب بالأفاويه وقد عبده اليمانيون عبادة مدهشة وتفانوا في محبته حتى أنهم ليصرفون في سبيله ما لا يصرفون في غذائهم الضروري وهم يمضغونه كل يوم في ساعات مختلفة من النهار؛ ولهم في طريقة جمعه حماسة غريبة؛ وتغمرهم في أثناء مضغه أمواج من الفرح والأنس، ويرون الدنيا به واسعة تشعُّ فيها ألوان مورّدة زاهية!

ويشعر الماضغ مبدئياً بنشوة مؤقتة، ولكن سرعان ما يعقبها ارتخاء في الأعضاء، وانحطاط في القوى، وهمود في العواطف يشبه التخدير. والإفراط فيه يسبب انقباضاً وميلاً دائماً إلى النوم. وآثاره لا تقف عند هذا الحد فقط، بل إنه يخمد الغريزة الجنسية، ويتسرب ماء الحياة من الرجل مختلطاً ببوله! وإذا بلغ الرجل دور الكهولة فقد فقد كل حيوية وانقطعت بينه وبين زوجه أسباب الاتصال!

ومع كل هذه الأضرار فاليمانيون لا يستطيعون أن يعيشوا في الوجود بدون قطف هذه الأوراق العجيبة! ومن الطبيعي أن هذا النبت الذي تنتجه اليمن لا يمكن أن يكون كله في مستوى واحد من القيمة والجودة. فالأغصان التي تنمو على منحدرات جبل صَبِر هي أفضلها وأجودها وقد كان لها في يوم ما ازدهار عظيم وسوق رائجة. . .

(يتبع)

محمد عبد الله العمودي