مجلة الرسالة/العدد 309/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 309/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 06 - 1939



أحمد عرابي

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له

مكانه بين قواد حركتنا القومية؟

للأستاذ محمود خفيف

وخيل لشريف باشا أن الأزمة في طريقها إلى الحل، ولو أنه اطلع على الغيب لعلم أنها كانت تتضاعف ويشتد خطرها لتتخذ في النهاية وضعها الذي سوف يغير تاريخ هذه البلاد!

لمح الصائدون في هذه العاصفة الفرصة المرتقبة! وهيهات أن يضيع هؤلاء فرصة طال بهم انتظارها؛ الخلاف قائم بين الوزارة والمجلس فليعملوا على زيادة هذا الخلاف وليدفعوا بالخديو ليخطو أول خطوة بعد يوم عابدين ضد الحركة الوطنية فيخسر بذلك الوطنيين والعسكريين جميعاً، ويفقدوا هم الثقة فيه نهائياً، بينما هو يقرب بذلك من الأجانب أو على الأصح يزداد قرباً منهم

ولن يعدم الإنجليز وحلفاؤهم أن يخلقوا ألف مبرر لما يفعلون؛ ومن أيسر الأمور عليهم أن يعلنوا أن البلاد تشيع فيها الفوضى، وأن الأجانب ومصالحهم تكتنفهم الأخطار من كل صوب، وأن الخديو بات يخشى على عرشه ولا مخرج له مما هو فيه، بل ولا مخرج لمصر مما هي فيه من خلل وارتباك إلا أن يضرب على أيدي الثائرين المفسدين في الأرض

ومن غريب أمر هؤلاء الإنجليز أنهم بينهم وبين أنفسهم غيرهم بينهم وبين الشعوب الشرقية؛ فهم لا يقبلون من هذه الشعوب ما يعدونه عندهم من مفاخر الإنسانية، وأنهم ليرمون أهل هذه الشعوب بأشنع التهم وأقساها؛ فالتألم من المظالم التي تنصب على رؤوسهم تمرد، والسعي إلى الحرية فوضى وهمجية، والدفاع عن البلاد وذب الدخيل عنها وحشية وإجرام! على أن هذه هي سنة الحياة بين القوى والضعيف منذ كان الإنسان يتخذ سلاحه من الحجر وينحت مأواه في الجبل. . .

ولقد كانت الدولتان تعملان على الكيد للحركة الوطنية في مصر قبل انعقاد المجلس، وكان بينهما مراسلات في هذا الصدد؛ فكانت فرنسا هي المحرضة هذه المرة. فرنسا التي كانت سياستها منذ فشل الحملة الفرنسية تدور على مناوأة النفوذ الإنجليزي في مصر!

ولي المسيو ليون غمبتا أمر وزارة الخارجية في فرنسا في شهر ديسمبر عام 1881، فسرعان ما اتصل بوزير خارجية إنجلترا اللورد جرانفيل محدثاً إياه في شأن مصر مبيناً له وجوب تضامن الدولتين في العمل إزاء ما يجري هناك من أمور

وحار جرانفيل أول الأمر ماذا يجيب به على هذه الدعوة، فهو إن قبلها أصبح مقيداً بالعمل مع فرنسا، وان رفضها قطع على دولته الطريق وجعل لفرنسا المكان الأول في شؤون مصر وتلقى جرانفيل من مصر أنباء فاجرة مالت به إلى الطريق التي اختارها. كانت مشكلة ميزانية الجيش لا تزال قائمة بين عرابي والمراقبين، فأرجف المرجفون أن عرابياً يعتزم القيام بثورة جديدة لقلب وزارة شريف وتنصيب البارودي مكانه وكتب السير إدوارد مالت وهو رجل مسؤول إلى اللورد جرانفيل يشكو من تدخل عرابي ويتساءل في لهجة ساخطة برمة: كيف يستطيع شريف أن يرأس الحكومة مع وجود عرابي صاحب النفوذ الفعلي في البلاد؟ وهكذا يسمح هذا الرجل لنفسه أن يكذب فيرمي عرابياً بما هو برئ منه ولا يتورع بعد ذلك أن يكتب إلى رئيسه ينبئه بخضوع عرابي لرأي المراقبين، ولكن جرانفيل كان قد خطأ نحو فرنسا بناء على الأخبار الأولى خطوة لا يمكنه النكول بعدها.

وكتب كلفن كذلك إلى جرانفيل يقول: (والحقيقة أن الإدارة المصرية شركة ثلاثية، فإذا لم تكن الدول على استعداد لتعديل نصيبها فعليها أن تحافظ عليه وتقويه في هذا الوقت الذي أصبح فيه المصريون في حال تطور وانتقال). هذا عدا ما ذكره في تقريره عما يتوقعه من خطر إذا زيدت سلطة المجلس، وثبتت قواعد الدستور المصري

وكان مستر بلنت قد أرسل برنامج الحركة الوطنية إلى جريدة التيمس، وفيه أقوى حجة على براءة هذه الحركة من عناصر الثورة أو المساس بحقوق الأجانب المالية؛ وكان يأمل بلنت وأصدقاؤه من الوطنيين أن يكون لنشر هذا البرنامج أثره الحسن في نفس جرانفيل، ولكنه نشر في أول يناير سنة 1882 بعد أن نفذ السهم، فلقد وافقت إنجلترا على وجهة نظر فرنسا في يوم 31 ديسمبر أي عقب اجتماع المجلس بخمسة أيام

وخطا شريف باشا في تلك الأثناء خطوة حكيمة فأعلن بياناً يشير فيه إلى منهاج حكومته، فذكر أنها تقوم على أساس الاعتراف بحقوق السلطان والامتيازات التي حصلت عليها مصر والاعتراف بالخديو كحاكم دستوري، والتسليم بقاعدة المراقبة الثنائية ثم إنكار كل اتجاه ثوري، منح الحرية الدينية والسياسية لجميع سكان البلاد والسير على قاعدة الحكومة المسؤولة أمام مجلس نيابي

ولن يكون في الإمكان يومئذ السير على منهاج خير من هذا المنهاج الحكيم الذي كان خليقاً أن يبعث الطمأنينة في نفوس الساسة من الدولتين؛ وكذلك لم يكن هناك برهان على حسن نيات الوطنيين أقوى مما نشرته التيمس لمستر بلنت وهو شاهد عدل من الإنجليز على المصريين

ولكن المسألة لم تكن مسالة اقتناع وإنما كانت نية مبيتة، وهيهات أن تجري الأمور في السياسة على الإقناع والاقتناع، فدوافع الأقوياء إلى العمل في ذلك المضمار أطماعهم وبرهانهم أسلحتهم، وما يكون الكلام إلا تعلة الضعيف. وما أشبه كلام الضعفاء مثل هذه المواقف بصراخ الفريسة قبل تمزيقها

ويذكر مستر بلنت في كتابه سبباً لانحياز إنجلترا إلى فرنسا؛ فيقول إن إنجلترا كانت تسعى إلى عقد معاهدة تجارية مع فرنسا فيها فائدة كبيرة للتجارة البريطانية؛ ومن أجل ذلك هاودت إنجلترا فرنسا وطاوعتها فيما تقترح في شؤون مصر فباعت إنجلترا بذلك مصر إلى فرنسا

وما نظن إنجلترا كانت من الغفلة بحيث تتنازل عن أغراضها في مصر من أجل مثل هاتيك المعاهدة التجارية، وإنما الذي نفهمه أن إنجلترا كانت تراوغ فرنسا لتفوز بهذه المعاهدة ثم تقف من فرنسا بعد ذلك فيما يتعلق بمصر موقف الاتفاق في الظاهر، بينما هي في الباطن تعمل وفق ما تمليه عليها أطماعها. ومما يؤيد ذلك التحفظ الذي أبدته أنجلترا وأقرته فرنسا ومؤداه: (أن الحكومة الإنجليزية يجب ألا تعد بسبب هذه المذكرة مقيدة بسلوك خطة عمل خاصة إذا ما بدا لها أن العمل ضروري)، ولسوف نرى من سياسة إنجلترا في مصر ما يؤيد ما نقول

تم الاتفاق بين الدولتين، وكان المجلس في مصر كما تقدم يخالف الوزارة في مسألة الميزانية، وكان العقلاء من الوطنيين يعملون على الخروج من المأزق بالحسنى، ولاحت في أفق السياسة بوادر انكشاف الغمة

وما أشد ما نحسه من ألم وغيظ أن نذكر بعد ذلك أن البلاد ما لبثت أن تلقت من الدولتين في يوم 8 يناير سنة 1882 تلك الصيحة المشؤومة التي سميت بالمذكرة المشتركة، والتي قل أن نجد في التاريخ السياسي لا ولا في الخرافات التي تحكي للأطفال على مثال أوضح منها لتحكم القوى في الضعيف واستهتاره به في غير حياء أو تحرج، وحسبك أن تقرأ مثل هذا الكلام الذي بعثت به إنجلترا وفرنسا زعيمتا الحرية والديمقراطية! جاء في المذكرة: (أن الحكومتين الإنجليزية والفرنسية تريان أن بقاء سمو الخديو على العرش بالشروط التي قررتها الفرمانات السلطانية واعترفت بها الحكومتان رسمياً هو الضمانة الوحيدة في الحاضر والمستقبل لاستتباب النظام في مصر واطراد رخائها، وهما الأمران اللذان تهتم بهما فرنسا وبريطانيا العظمى. وأن الحكومتين اللتين اتفقتا اتفاقاً تاماً في عزمهما على أن تمنعا كل أسباب الارتباك الداخلية والخارجية التي يمكن أن تهدد النظام القائم بمصر، لا يداخلهما ريب في أن جهرهما بما عزمتا عليه رسمياً في هذا الأمر سيحول دون الأخطار التي قد تتعرض لها حكومة الخديو والتي لابد أن تقاومها فرنسا وإنجلترا معاً، وأن الحكومتين لتثقان بأن سموه سيستمد من هذا التأكيد ما يحتاج إليه من الثقة والقوة لتدبير شؤون بلده وشعبه)

وأي كلام يمكن أن يعبر عما تنطوي عليه هذه المذكرة من لؤم وفجور؟ ما معنى الإشارة إلى بقاء سمو الخديو على العرش؟ وما شأن الدولتين حتى تهتمان بهذا الأمر؟ وبأي حق تضطلعان بمنع أسباب الارتباكات الداخلية والخارجية؟ وعلى أي أساس يقوم ادعاؤهما وجود هذه الارتباكات؟ وكيف يجوز أن يعتمد الخديو عليهما ويستمد الثقة منهما؟

هذه هي المذكرة المشتركة التي أشار إليها بلنت بقوله: (هذه المذكرة المشؤومة التي يرجع إليها كل ما حدث من المتاعب في خلال ذلك العام والتي أفقدت مصر حريتها كما أفقدت غلادستون شرفه وأفقدت فرنسا نفوذها على جانبي النيل)

ولا تسل عما أحدثته هذه المذكرة الحمقاء من سوء الأثر في مصر لقد بلغ من إثارتها الشعور وإحراجها الصدور أن نقم عليها ما ليت وكلفن وتمنيا لو لم تكن؛ وقد كانا يريدان ألا تكون بمثل هذه الصراحة الطائشة وكانت النتيجة الطبيعية أن انضم المعتدلون من رجال الحركة الوطنية إلى العسكريين، وهو عكس ما كانت تنتظره الدولتان في غباء مضحك، ورأي العنصر أن الشبح الرجعية المسلحة، بل رأوا الغدر الأثيم يتهدد قضيتهم. وانبعثت الصيحات من كل مكان أن إنجلترا قد ألقت بنفسها في أحضان فرنسا، وأن فرنسا تريد أن تصنع بمصر ما صنعته بتونس، ولذلك يجب الاتجاه إلى السلطان والمناداة بمبدأ الجامعة الإسلامية لمقاومة هذه الحركة الأثيمة

وضاع كل أمل في تهدئة الخواطر؛ فأصر مجلس شورى النواب على موقفه في وجوب نظر الميزانية ورأى شريف في المجلس إجماعاً ضده وحماسة ما رأى مثلها من قبل. ولقد رغب جرانفل في ملاينة الأعضاء في هذه النقطة كأنما أراد أن يعالج بعض خطئه، ولكن غمبتا رفض ذلك بحجة أنه يسقط من هيبة الحكومتين أمام الوطنيين. وما أعجب أمر هذا الرجل الذي يظن أن الهيبة تكتسب بالحماقة! على أن جرانفل ما لبث إن شايع غمبتا في حماقته، فلقد كتب إليه مالت يقول: (إن المجلس باق وسيظل باقياً ما لم يحل بالقوة؛ وهذا أمر لا يكون إلا بتدخل الذي هو آخر سهم في كنانتنا والذي لا يسوغه أبدا ما قد يكون من خرق قانون التصفية. . . إني أعترف أني أفضل أن يعطى المجلس ما يطلبه من الحق وألا نتدخل حتى يسئ استعمال هذا الحق. ويجب ألا ننسى أن الأمة المصرية قد أخذت تسلك طريق الحكم النيابي خيراً كان ذلك أو شراً، وان قانون المجلس الأساسي هو صك حريتها). . هذا ما ذكره ماليت نفسه ولكن جرانفل لم يعبأ به وأرسل إلى غمبتا ينبئه بموافقة الحكومة الإنجليزية على آرائه. ونسي جرانفل أو تناسى أنه كتب إلى مالت قبل ذلك بنحو شهرين يقول له مشيراً إلى حرية المصريين الوليدة: (إن الحكومة الإنجليزية إذا ما رغبت في نقص تلك الحرية أو العبث بتلك النظم التي يرجع وجودها إليها فقد اتبعت سنة تخالف أجمل تقاليد تاريخها الوطني. . . ليس من شيء يحملنا على سلوك خطة أخرى غير قيام حالة فوضوية في مصر). فليت شعري ما الذي حدث في مصر حتى تخالف إنجلترا على هذه الصورة أجمل تقاليد تاريخها الوطني؟ وحاول شريف أن يحصل من الدولتين على مذكرة تفسيرية يستعين بها على تسكين الخواطر، فرفض غمبتا حتى هذه المذكرة وعاد جرانفل فشايعه في هذا مشايعة عمياء على الرغم من نصح الناصحين من الإنجليز والوطنيين!

ولست أدري كيف كانت ضمائر هؤلاء الساسة تطاوعهم مع هذا على أن ينعتوا رجال مصر بالفوضى وأن يصوروهم أطفالاً في السياسة لا يدرون ما يأخذون مما يدعون؟ ولكن ما لي أذكر الضمائر والحديث حديث السياسة وجشع السياسة؟

وضاقت بشريف السبل فلم يدر ماذا يفعل، ووقفت السفينة لا تستطيع حراكاً، والريح تدوي من حولها وليس في الجو بارقة أمل، والنواب لا يفتر إصرارهم ولا تنقطع زمجرتهم

وعاد مالت يحذر جرانفل فقال في صراحة: (إن التدخل المسلح يصبح أمراً محتوماً إذا ما تشبثنا بمنع المجلس من التصويت على الميزانية، ومع ذلك فجميع الحكومات تهتم بمنع ما يوجب هذا التدخل الذي إذا أقدمت عليه الدولتان وحدهما أدى إلى سوء المنقلب في هذا البلد)

وعلى الرغم من ذلك كله أبلغت الحكومة المصرية رسمياً يوم 20 يناير سنة 1882 أن المجلس لن ينظر في الميزانية إلا إذا أخل بالأوامر العالية التي أنشئت بمقتضاها المراقبة الثنائية

ولما وجد النواب شريفاً يميل إلى موافقة الدولتين، سار وفد منهم إلى الخديو فطلبوا عزله، وتعيين رئيس للوزارة يستطيع أن يسير مع نواب البلاد سياستهم

وسقطت وزارة شريف، وحلت محلها وزارة البارودي في يوم 5 فبراير سنة 1882، وهي الوزارة التي سوف تعرف باسم وزارة الثورة

(يتبع)

الخفيف