مجلة الرسالة/العدد 310/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 310/التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
ذكرنا أنه كان من نتائج تلك المذكرة المشؤومة اتحاد الوطنيين والعسكرين، ونذكر الآن أن عرابياً ما لبث يومها أن عاد في نظر الجميع الرجل الذي يجب أن يحرصوا على معونته، وتأهب عرابي ليأخذ دور الزعيم من جديد وقد كانت الزعامة تتزايل في نظر الناس عن شريف
ولقد أحس مالت بما كان للمذكرة من أثر في عودة عرابي إلى طليعة الصفوف فأوفد إليه في مكتبه بوزارة الحربية صديقه بلنت، وكان عرابي قد عين وكيلاً لهذه الوزارة كما بينا؛ وكان مالت يطمع في أن يكسب عرابياً إلى جانبه، أو على الأقل كان يتمنى أن يهدئ خاطره لعلمه بما يكون لمثل هذا العمل من عظيم الأثر في ذلك الموقف العصيب الذي سببته رعونة غمبتا وصاحبه
يقول بلنت: وقد ذهبت إلى ثكنة قصر النيل في ظهر يوم 9 وكانت المذكرة قد وصلت في يوم 8 فوجدت عر ابياّ وحدة في مكتبه، وهذه هي المرة الأولى والأخيرة التي رأيته فيها غاضباً، وكان وجهة كسحابة الرعد، وكان في عينة بريق خاص؛ وكان قد رأى نص المذكرة وإن كان لم ينشر بعد، وقد سألته كيف فهمها فقال: أخبرني كيف تفهمها أنت؟ وحينئذ أديت رسالتي فقال: لاشك في أن السير إدوارد ماليت يحسبنا أطفالاً لا نفهم معنى الكلمات. هذه لغة تحد وتهديد وليس في هذه الإدارة كاتب يستخدم هذه الألفاظ لغير هذا المعنى. ثم أشار إلى الفقرة الأولى التي ذكر فيها الأعيان وقال: هذا تحد لحريتنا وليس لإعلان اتحاد فرنسا وإنجلترا معنى إلا أن إنجلترا ستغزو مصر كما غزت فرنسا تونس. . . ثم قال: دعهم يأتون فكل رجل وطفل في مصر سيقاتلهم. ليس من مبادئنا أن نضرب الضربة الأولى ولكنا سنعرف كيف نردها. ثم قال فيما يختص بالمحافظة على عرش توفيق: (إن السلطان هو الذي يحافظ على عرش توفيق فليس في حاجة إلى ضمان أجنبي. ولك أن تخبرني بما تشاء ولكني أعرف معنى الكلمات أحسن مما يعرف ماليت. . .
والوقع أن تفسير مالت كان هراء في هراء، وقد شعرت لما صرت أمام عرابي بعقلي، وخجلت من حملي إليه مثل هذا الهراء، ولكني أكدت له أني أديت الرسالة كما ألقاها إلى السير ادوارد ثم قلت: وهو يرجوك أن تصدقها وأنا كذلك).
هذا هو كلام بلنت، ومنه نتبين مبلغ غضب عرابي لهذه المذكرة كما نفهم جانباً مما كان يجيش في نفس هذا الزعيم الثائر، فهولن يجبن ولكنه لن يبدأ بالعدوان، وهو بعد ذلك يلمح نيات إنجلترا من هذه المذكرة كما يفعل السياسي البعيد النظر إذ يقرأ بين السطور كما يقولون. وما كان عرابي مبالغاً في تصوير نيات الإنجليز فلسوف نرى أن جرانفيل كان في ذلك الوقت قد وطد العزم على التدخل بالقوة!
عاد عرابي إلى الميدان. وفي الناس من تبلغ بهم الغفلة إلى حد أن يأخذوا عليه هذه العودة؛ وفيهم من يذهب بهم اتباع الهوى إلى أن يجعلوا ذلك من أكبر خطيئاته قائلين في مثل منطق البلهاء إن كان ثمة للبلهاء من منطق، إنه بعودته هذه قد ساق البلاد إلى ما سيقت إليه من دمار.
ومن المؤلم المثير حقاً أن يقول هؤلاء الناس هذا الكلام دون أن ينظروا في موقف الخديو وموقف الإنجليز على نحو ما بيننا، وهم لا يفهمون من المسألة كلها إلا ما شاع من أن عرابيا كان رجلاً ذا أطماع لا يدري ماذا يفعل؛ فكانت إذا هدأت البلاد لا يفتأ يعمل بنزقه على إثارتها ليصل إلى تحقيق أطماعه.
وأحسب الآن بعد الذي رأينا من موقف أعدائه أن هذا الكلام قد أصبح خليقاً بأن يخجل منه قائلوه. وإنا لنكاد نقطع منذ الآن أنهم - بعد أن نفرغ من سيرة هذا الرجل المظلوم على النحو الذي نسير عليه - لن يعودوا إلى مثل هذا الكلام أبداً، وسبيلنا في إقناعهم الحجة التي نستخلصها من الحوادث في عدالة يوجبها الحق، وفي عطف يتطلبه الإنصاف.
تعهد عرابي ألا يتدخل في شؤون الحكومة، فكان إذعانه لهذا الطلب أمراً لا بد منه. ولو أنه رفضه لكان في ذلك مخطئاً أشد الخطأ، ولكن عرابياً لم يتعهد أن يدع وطنه وشأنه لا تهزه بعد يوم عابدين نحوه عاطفة أو يحركه لنجدته ما عساه أن يلم بقضيته من الأحداث.
ولم يكن ليستطيع عرابي أن يتعهد بمثل هذا التعهد ولن ليستطيع ذلك غير عرابي من الناس، ولو أنه فعل ذلك لأجرم في حق هذا الوطن جريمة ما كان ليغفرها له التاريخ. . وكيف يفعل ذلك عرابي أو أي رجل غيره ولا يكون بذلك مجرماً مفرطاً في جنب وطنه؟ وأي فرق بين مثل هذا التعهد وبين المروق والخيانة والجمود في أوضح صورها وأقبحها؟
ألا إنه الحق كل الحق أن يطلب إلى بني الوطن ألا يتدخلوا في أعمال الحكومة، ولكن على شرط ألا يكون من تلك الأعمال نفسها ما يحفز الناس إلى التدخل أو يوجبه عليهم. أما أن تفرط الحكومات في حق الوطن، وأما أن توضع العقبات في سبيل قضيته ثم يطلب إلى الناس بعد ذلك أن يدعوا الحكومة وشأنها فهذا هو الباطل بأجلى معانيه وأشدها فجوراً، ومن أطاع ذلك من الناس فقد أجرم في حق بلاده وضل ضلالاً بعيداً
لن يكون لقيام الحكومات من مبرر إلا العمل لخير المحكومين وصلاح أمرهم. على هذا الأساس ولدت الديمقراطية، وبهذا المبدأ اقترنت الحرية؛ ولكم نادى بذلك القادة ودعاة الإنسانية في الغرب منذ هدموا صروح الظلم وحطموا أغلال الماضي وفصموا سلاسل الرجعية. وما لنا نستشهد بالغرب وهذه الحكومة الإسلامية الأولى التي قامت في الصحراء قد جعلت تلك المبادئ أساس قيامها، فما أروع وأجمل أن يقول الخليفة الأولى للناس: (أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن حرفت فقوموني) وإن يقول لهم الخليفة الثاني: (من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومه) فيرد عليه أعرابي من أوزاع الناس بقوله: (لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا) وما أملى على أبي بكر وعمر هذه المعاني السامية وما أمدهما بتلك السياسة العالية إلا ما ألهماه من روح تلك الشريعة السمحة، شريعة دينهما التي تقدم بهذا أحد براهينها على أنها شريعة الفطرة، فما كانت الحرية في شتى مظاهرها إلا بنت الفطرة. . . وأبلغ وأروع من قول أبي بكر وعمر قول الرسول الكريم: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)
قبل عرابي أن يدع الحكومة وشأنها على أن تجري الأمور وفق ما وضعته الثورة من مبادئ، فكيف لعمر الحق كان يستطيع أن يحمل على السكوت نفسه وقد رأى من الدسائس الأثيمة التي تحاك حول تلك الحرية الوليدة ما أغضب أكثر الناس اعتدالاً وأقلهم علاقة بالسياسة وشؤونها؟
إذاً فالفرق كبير بين أن يتدخل عرابي في شؤون الحكومة وبين أن يغضب لما حل بقضية وطنه، وفي هذا الغضب دليل وطنيته ووطنية كل غاضب معه. ولقد كان من أصعب الأمور على هذا الرجل أن يدع هذه القضية وشأنها، بل لقد كان ذلك مستحيلاً عليه؛ وإني لأرجو من الذين خاصموا هذا الرجل في غير حق بعد أن أصبح في ذمة التاريخ أن يستمعوا إلى هذا الرأي الذي أسوقه عنه، ألا وهو أن الحرية كانت من طبعه لم يتكلفها يوماً ولم توجهه إليها الحوادث وهو يجهل كنهها كما يقول الذين أرادوا ألا يدعوا له محمدة إلا جعلوها بالباطل مذمة
كانت الحرية من طبع ذلك الجاويش الذي نقم على الجراكسة في الجيش استبدادهم فأكثر من الشغب عليهم. وكانت الحرية من طبع ذلك الضابط الذي اختاره زملاؤه ليحمل عريضتهم إلى رياض. وكانت الحرية هي التي دفعت هذا الرجل إلى أن
يقف ذلك الموقف الفذ عصر ذلك اليوم المشهود في ساحة عابدين، ولسوف تكون الحرية هي الحافز له إلى وثبات أخرى. . .
ولقد استوثق مستر بلنت من ذلك عند ما سعى إلى عرابي يطلب مودته قال: (وكانت غرفته الخارجية بل كان الشارع الموصل إلى المنزل يمتلئ كل يوم بجماعة الشاكين. وكان قد اتصل به نبأ عطفي على الحركة ورغبتي في مساعدة الفلاح فاستقبلني بأسمى مظاهر المودة لهذا السبب، وللصلة التي تربط أسرتي باللورد بيرون الذي كان عرابي وإن لم يعرف شيئاً من شعره يمجده لدفاعه عن حرية اليونانيين)
وكيف كان يمجد هذا الفلاح اللورد بيرون نصير الحرية إلا أن يكون هذا تجاوباً بين نفس حرة وأختها؟ ولقد كان بيرون يدافع عن اليونانيين لاعن المصريين، فلم يكن حب عرابي إياه إذاً مشوباً بعاطفة غير عاطفة حب الحرية أينما كانت وكيفما كانت جنسية الداعين إليها وكيفما كان دينهم
ولنعد إلى خطبته التي ألقاها في محطة مصر. لقد أفصح فيها وهو يرتجلها عن كثير مما تنطوي عليه نفسه. والخطيب في مثل ذلك الموقف الحماسي ينسي نفسه فلا يملك التكلف والتصنع لأنه ليس به حاجة إلى ذلك، بل لقد يكشف الخطيب عما يريد أن يغطيه إذا نسى نفسه في رهبة الموقف وحماسته دون أن يملك لذلك دفعاً. قال عرابي: (البلاد محتاجة إلينا وأمامنا عقبات يجب أن نقطعها بالجزم والثبات وإلا ضاعت مبادئنا ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه) وقال: (وقد فتحنا باب الحرية في الشرق ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين على شرط أن يلزم الهدوء والسكينة. . .)
وإنا لنرى في ذلك الكلام من الأدلة على أن عرابياً كان يتحرك بدافع من حبه للحرية ما لا تجدي معه مكابرة؛ وعلى ذلك نتساءل: ألم يأن للناس أن ينصفوا هذا الرجل وقد قضى عليه أعداؤه ثم قضوا بعد ذلك على تاريخه الحق؟
ألم يأن لأبناء هذا الوطن وقد فرغوا من قضية استقلاله وحريته أن ينظروا إلى هذا الرجل نظرتهم إلى زعيم جاهد في الوطن حق جهاده، وأن يكفوا عن تلك النظرة الظالمة التي تصوره رئيس عصابة من الأوزاع والهمج يسيرون على نهج ولا يبتغون من وراء سيرهم غاية؟
ألم يأن لأبناء هذا الوطن أن يفطنوا إلى أن الاحتلال هو الذي صور عرابياً هذه الصورة المنكرة ليبرر بذلك فعلته، وأنهم بمجاراتهم الاحتلال وصنائعه إلى يومنا هذا فيما ادعوا إنما يثبتون على أنفسهم الغفلة ويسيئون إلى رجل ما فكر يوماً في الإساءة إلى وطنه؟ رجل إن كثرت أخطاؤه فقد حسنت نياته، وإن فاته النجاح فقد عظم في سبيل النجاح بلاؤه. ولقد قل في المحنة نصراؤه وتعدد غداة الروع أعداؤه
لا جناح على عرابي أن يعود إلى ميدان النضال في سبيل المبادئ التي اعتنقها المصريون ووطدوا العزم على تحقيقها. ولو أنه وقف في جهاده عند وثبته الجريئة يوم عابدين لحق عليه ما نسبه إليه خصومه من النزق والسير على غير هدى، ولكن هؤلاء الخصوم يلومونه على عودته إلى العمل قائلين لقد أجيبت مطالب الجند على نحو ما كان يرجو عرابي نفسه، وهم في هذا ما يجهلون حقيقة الثورة العرابية وآمال الرجل الذي نسبت إليه تلك الثورة وأغراضه، وإنما يعلمون ذلك ولكنهم يمارون فيما يعلمون، ولكنهم في الحالين ملومون فلن يقبل منهم جهلهم ولن يقرهم أحد على مماراتهم ومكرهم
وسيعود عرابي إلى الجهاد فيقف في وجه الدولتين الطامعتين. وسيسير زعيم الثورة على رأس جيش من أبناء هذا الوادي ليذود عنه في بسالة جريئة وحفاظ مرّ وفق ما توجبه الوطنية والرجولة. وهذا في الحق هو كل ما يطلب منه في مثل تلك الظروف؛ أما الفوز فأمر قد يخرج عن تصريفه، وسبيله إليه محدود بحدود طبيعته ومقدرته. ولقد يتوافر للقائد من أسباب الفوز ما يكاد يعتقد أنه قبل وقوعه حقيقة لا سبيل إلى الريبة فيها، ثم ينظر فإذا تلك الحقيقة خيال أو دون الخيال. ولئن أخطأ قائد فلن تحمل أخطاؤه على معنى آخر، كما حملت أخطاء عرابي ظلماً وعدواناً على معاني الخيانة والمطامع الشخصية
(يتبع)
الخفيف