مجلة الرسالة/العدد 313/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 313/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 07 - 1939



الإجابة

لإيراد ما استدركة عائشة على الصحابة

(ألفه الإمام الزركشي وحققه الأستاذ سعيد الأفغاني)

لأستاذ جليل

الأستاذ سعيد الأفغاني - العربي الشامي - مسلم مؤمن، وفاضل مهذب، وأديب محقق. ومن رافقه وقرأ أقواله ظهرت له هذه السجايا والمزايا ظهوراً. ومن خطط هذا السيد أن يُطرف فيما يؤلفه أو ينشره من كتب السلف الصالح. فمصنفه (أسواق العرب في الجاهلية والإسلام) مباحثه طريفة ذات جدة. وكتاب (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة تأليف الإمام بدر الدين الزركشي) الذي أظهره اليوم - من أدلة هذا الإطراف. وترجمة الكتاب تنبئ عن غرابته وطرافته

وإن نشر الباحث مؤلفاً قديماً محقًقاً إياه تحقيق الأستاذ الأفغاني كتاب الإجابة - تأليف وزيادة

وعملُ العرب الحق في هذا الوقت - كما يرى اكثر الفضلاء - إنما هو نشر مصنفات الأقدمين ونقل مقالات الغربيين ليس غير. وحجتهم في ذلك أن (البعث) حديث وأن ليس عند العرب اليوم شيء، والمفلسون المساكين لا يكلفون إنفاقاً ولا جوداً. على أن حاجة العرب العظيمة إلى ذينك النشر والنقل لا تصدعن التأليف فلينشر الناشرون، ولينقل الناقلون مكثرين. وليؤلف - بعد البحث الطويل، والتفكير الكثير، والمراجعات المديدة - المؤلفون مقلين، مقلين

الحديث والمحدثون في الإسلام عالم عجيب. وليس في الدنيا أمة عنيت بما يعزى إلى صاحب نحلتها عنايتنا بأحاديث النبي الأعظم (). ومما بعث على هذه العناية الكبرى أن أقواله (صلوات الله وسلامه عليه) لم تقيد بالكتاب في أيامه، ولا أيام صحابته (رضوان الله عليهم أجمعين)، ولم يكن إلا الألسنة تنقل أو تروى (وكان علم الشريعة في مبدأ هذا الأمر نقلا صرفا) وعند أهل السنة أحاديث غابت عن الأمامية، ومع هؤلاء مالا تعرفه الجماعية، السنية؛ وعند الصوفية والإسماعيلية، وسائر الباطنية غرائب تنكرها تانك الفرقتان. وقد بذل الأئمة (رحمهم الله) المجهود بل فوق المجهود في أمر الحديث ورجاله. وأبدعوا في مؤلفاتهم وتفننوا، وأفردوا كل نوع منه ومن رواته بالتصنيف المجوّد (لقد كانوا في دقتهم وتحريهم وإحاطتهم وإتقانهم معجزة الله في المؤلفين)

ولقرأ من أراد الإلمام باهتمام القوم (مقدمة ابن الصلاح) في علوم الحديث. ففيها إشارات مبينات؛ وهي في هذا الفن مثل مقدمة ابن خلدون في بابها كما قال فقيه الشام كله العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار.

ومن أدلة الإحفاء أو الاستقصاء في شأن الحديث، ومن بدائع التنويع والتخصيص فيه كتاب (الإجابة) الذي صنفه الإمام الزركشي، وحققه وأنشأ مقدمته وعلق عليه وفهرسه الأستاذ سعيد الأفغاني.

يبدأ الكتاب بمقدمة الأستاذ الأفغاني، وقد نشر شيئاً منها في الجزء (304) من (الرسالة) الغراء. ذكر فيها مطنباً موضحاً مكانة أم المؤمنين (رضي الله عنها) وسيرة المؤلف وأسماء مصنفاته الثلاثة والثلاثين.

وتجيء بعد ذلك مقدمة المؤلف وقد أشار إليها محقق (الإجابة) في مقالة له في الجزء (19) من (الثقافة) الغراء.

ويليها الباب الأول في سيرة (السيدة): (رضي الله عنها) وخصائصها وفيه فصلان: الفصل الأول في ذكر شيء من حالها؛ وقد جاء فيه:

(رُوى لها عن النبي () ألفا حديث، ومئتا حديث، وعشرة أحاديث)، (2210).

وفي هذا الفضل: (. . . عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، ثم قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) فلما بلغتها قالت: (وصلاة العصر) سمعتها من رسول الله )

قلت: وفي (كتاب المصاحف) للسجستاني نحو من هذا. وعزا الزمخشري هذه الحكاية إلى حفصة (رضي الله عنها) وقال في كتابه أيضاً: (روي عن عائشة وابن عباس (رضي الله عنهم) والصلاة الوسطى وصلاة العصر بالواو، وقرأت عائشة (رضي الله عنها) والصلاة الوسطى بالنصب على المدح والاختصاص) وعزتها رواية في الطبري إلى أم سلمة (رضي الله عنها) وذكرت رواية فيه حميدة ابنة أبي يونس لا أبا يونس. وقد أورد الإمام الطبري في تفسيره (جامع البيان) روايات كثيرة، كلها تبين للصلاة الوسطى فقط منها هاتان الروايتان:

(. . . قتادة عن أبي أيوب عن عائشة أنها قالت: الصلاة الوسطى صلاة العصر. . . عن سليمان التيمي عن أبي أيوب عن عائشة مثله)

فالسيدة (رضي الله عنها) مفسرة. وفي الجزء 211 من (الرسالة) الغراء كلمة أشارت إلى ما أشارت إليه، وجاء في ختامها هذا: (إن كان كتاب كل أمة أو ملة فيه تبديل وتحريف وفيه زيادة ونقصان، وفيه الخطأ والخطل، وكان كاتبه غير صاحبه. ف (ذلك الكتاب لا ريب فيه) (إنّا نحن نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون).)

الفصل الثاني في خصائصها (رضوان الله عليها) وهي اثنتان وأربعون، وقد بين المؤلف كل خاصية من هذه الخصائص أو الخاصيات. قال في السادسة عشرة: (اختاره أن يمرض في بيتها. قال أبو الوفا عقيل (رحمه الله): انظر كيف اختار لمرضه بيت البنت، واختار لموضعه من الصلاة الأب، فما هذه الغفلة عن هذا الفضل والمنزلة؟!)

وقال في السابعة والعشرين: (جاء في حقها (خذوا شطر دينكم عن الحميراء) سألت شيخنا الحافظ عماد الدين بن كثير عن ذلك فقال: كان شيخنا حافظ الدنيا أبو الحجاج المزي (رحمه الله) يقول: كل حديث فيه ذكر الحميراء باطل إلا حديثاً في الصوم في سنن النسائي)

قلت: بطلان ذلك المقول ظاهر مثل الشمس، وقد قال الإمام العلامة الكبير (علي القاري) في رسالته في (الموضوعات): (ونحن ننبه على أمور كلية يعرف بها كون الحديث موضوعاً) وذكر أموراً كثيرة: (منها أن يكون الحديث باطلاً في نفسه فيدل بطلانه على أنه ليس من كلامه كحديث (إذا غضب الرب أنزل الوحي بالفارسية، وإذا رضي أنزله بالعربية) وحديث (خذوا شطر دينكم عن الحميراء)، وحديث (من لم يكن له مال يتصدق به فليلعن اليهود والنصارى)، فإن اللعنة لا تقوم مقام الصدقة أبداً)

ويلي هذا الفصل الباب الثاني والباب الثالث في استدراكاتها (رضي الله عنها) على أعلام الصحابة (رضي الله عنهم). وهذان البابان هما معنى الكتاب. وفي الأول أربعة وعشرون استدراكا، وفي الثاني أحد عشر استدراكا. وقد ذيلهما محقق الكتاب بأربعة استدراكات، قطفها من (مسند أحمد) - رحمه الله - وهي تدل على عظم تفتيشه واحتفاله في البحث.

جاء في الباب الثاني من الاستدراكات على عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما): (أخرج البخاري ومسلم من طريق عمرة بنت عبد الرحمن أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة. . .)

فهذا الإمام المهذب المحقق يذكر أخا سيدنا معاوية (رضي الله عنه) كما ترى، ونابتة في هذا العصر تغبى عن النسبة الحق وتضلها أساطير في أمثال كتاب (العقد).

إن زياد بن أبي سفيان (رضى الله عنهما) من أبطال العرب ومن رجال الإسلام الكبار؛ فيعلم ذلك من يجهل.

ومن استدراكاتها على ابن عباس (رضي الله عنهم): (ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى (وظنّوا أنهم قد كُذبوا) بالتخفيف فأخرج البخاري في التفسير عن أبي مليكه قال ابن عباس (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا) خفيفة ذهب بها هنالك، وتلا (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله؟) فلقيت عروة بن الزبير فذكرت له ذلك، فقال: قالت عائشة: معاذ الّله! والله ما وعد الله رسوله في شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون من معهم يكذبونهم، فكانت تقرأها (كذّبوا) مثقلة)

قلت: القراءة بكسر الذال والتخفيف هي المشهورة، ولها معنى غير الذي خمنه ابن عباس وقرى بكسر الذال مشددة وبفتحها مخففة ومشددة

وفي (جامع البيان) للطبري (الجزء 13 الصفحة 47) روايات ذوات فوائد في قراءات هذه الآية وتفاسيرها.

وقال (الكشاف) في قراءة ابن عباس وتفسيره: (وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر، وقال: كانوا بشرا، وتلا قوله (وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية. وأما الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم وأنه متعال عن خلف الميعاد منزه عن كل قبيح)

ومن استدراكاتها على أبي هريرة (رضي الله عنهما): (. . . عن أبي هريرة قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير له من أن يمتلئ شعراً) فقالت عائشة رضي الله عنها: لم يحفظ الحديث؛ إنما قال رسول الله (): لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير له من أن يمتلئ شعراً هجيت به)

قلت إن من يجتزئ بحديث أبي هريرة (رضي الله عنه) ليدهاه ما يدهى من يجهل السبب في وحي آية الشعراء

قال الإمام الطبري في (جامع البيان): (قال عبد الرحمن ابن زيد: قال رجل لأبي: يا أبا أسامة، أرأيت قول الله (جل ثناؤه): والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون. فقال أبي: إنما هذا لشعراء المشركين وليس شعراء المؤمنين. ألا ترى أنه يقول: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلى آخره. فقال: فرّجت عني يا أبا أسامة فرّج الله عنك!)

وقال الكشاف في تفسير الآية: (هم شعراء قريش عبد الله بن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عزة الجمحي، ومن ثقيف أمية بن أبي الصلت، قالوا: نحن نقول مثل قول محمد، وكانوا يهجونه ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم)

وروى الزمخشري عن الخليل: (كان الشعر أحب إلى رسول الله من كثير الكلام، ولكن كان لا يتأتى له)

وجاء في (الإجابة) في باب الاستدراكات: (نقل أهل التفسير في قوله تعالى: (والذي قال لوالديه) إن معاوية كتب إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم؟! فقال مروان: يا أيها الناس هذا الذي قال الله فيه (والذي قال لوالديه أف لكما) فسمعت عائشة فغضبت وقالت والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت قضيض من لعنة الله) قلت: روى فضيض وفظاظة وأنكرها الخطابي، وفي أكثر كتب الحديث وغريبه وكتب اللغة التي روت هذا الخبر أو شيئاً منه - (فضض) بالفاء.

وهذا الحديث في (البخاري) وقد أشار إليه الزركشي ولم يورده، وهذه رواية أبي عبد الله (رحمه الله):

(. . . عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال: خذوه. فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: (والذي قال لوالديه: أف لكما أتعدانني) فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري)

ومن استدراكاتها (رضي الله عنها) على أزواجه () ورضى عنهن: (أخرج البخاري ومسلم عن عروة عن عائشة أنها قالت: إن أزواج النبي () حين توفى رسول الله () أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن من رسول الله () فقالت عائشة لهن: قد قال رسول الله (): لا نورث، ما تركناه صدقة)

ويتبع هذين البابين والذيل في الاستدراكات الفائقات فهارس الكتاب: فهرس الأعلام، فهرس الجماعات، فهرس الأماكن، فهرس الكتب، فهرس الموضوعات

إن هذا الذي خططناه إنما هو إشارة إلى كتاب الإجابة لا تبيين ولا توضيح. ومن شاء من الفضلاء أن يعرفه ويستفيد منه اشتراه وقرأه، ودعا للمؤلف، وأثنى على (السعيد) المحقق

بارك الله فيه، وأكثر في شباب العرب والمسلمين من أمثاله.

القارئ