مجلة الرسالة/العدد 314/الصديق الراحل

مجلة الرسالة/العدد 314/الصديق الراحل

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 07 - 1939



فليكس فارس

1886 - 1939

للأستاذ كامل محمود حبيب

حملتك الأمواج غصنا من الأر ... ز كسيراً يفوح منه العبير

فتعاليت في الجلاد صبوراً ... علم الناس كيف يحيا الصبور

وتراميت من سما المجد صقراً ... علم الدهر كيف تفضي الصقر

فليكس فارس

عزيز على النفس أن تتحدث عنك ميتاً، وقد كنت (بالأمس) ملء القلب، ملء الفؤاد، ملء السمع والبصر ملء هذه الحياة الفارغة. . .

انطوى هذا الفكر الوقاد، وانطفأ هذا القبس اللامع، وانحبس هذا الصوت الرنان، وثوى العبقري الثائر في رمسه، وفي قلوب صحابه آهة عميقة وفي أعينهم عبرات حرى

هذا النغم الحادي كان حلواً تتطرب له النفس!

هذه النفس العالية كانت طيبة رفافة لم تشبها نزوة من نزوات الكبرياء!

هذا القلب كان كبيراً. . . كبيراً لم تفسده ثرهات الحياة!

ففي ذمة الله أيها النغم الحادي، وأيتها النفس العالية، وأيها القلب الكبير!

فليكس فارس! هذا هو الرجل!

أخ العلم من كتاب الحياة فما تشرّب روح المدرسة، وفي المدرسة عسف وظلم، وفيها إغضاء عن النبوغ الفطري، وفيها كَبْت للمواهب المتأججة، فسما بنفسه، وعلا بروحه، وتفتح الكمْ عن زهرة يانعة وهو ما يزال عند التاسعة عشر، شاباً ريْق الشباب وفتى غضّ الفتوة؛ فدخل المدرسة - أول ما دخل - أستاذاً للبيان العربي في مدرسة عبية؛ ثم لمعت أول مقالاته الأدبية في جرائد سوريا ولبنان.

وأعلن الدستور العثماني سنة 1908 فتدفق البيان على لسانه، وتراءى خطيباً تتقطع دون بلاغته ألسنة الخطباء، فتألق نجمة. ثم ألقى عن نفسه عبء التدريس ليخوض غم السياسة عضواً فذاً في جمعية الاتحاد والترقي العثمانية، واختارته لجنة سالونيك - بعد حين - ليكون عضواً عاملاً فيها يؤسس الجمعيات الدستورية في أرجاء البلاد.

وجرفته السياسة في تيارها فأصدر جريدته (لسان الاتحاد) تتحدث عن نوازع نفسه، وآمال قلبه في السياسة والأدب جميعاً. ثم. . . ثم عُيّن أستاذاً للخطابة والأدب الفرنسي في المدرسة السلطانية بحلب.

واستعرت نار الحرب العظمى فما برح مكانه حتى دخل الجيش العربي البلاد فتخيرته الحكومة الهاشمية سكرتيراً لحكومة حلب، ثم مديراً عاماً لإدارة حصر الدخان، فما شغله المنصب عن أن يقوم - بين الفينة والفينة - خطيباً يدعو إلى الوحدة العربية وإلى رفض الانتداب الأوربي

وفي سنة 1920 أبحر إلى أمريكا يطلب إلى المهاجرين من بنى وطنه العودة إلى بلادهم، وقد عزّ عليه أن ينأى جماعة من أفذاذ قومه عن ديارهم أحوج ما تكون إليهم، وفيهم العالم والصانع والتاجر، فقضى سنة يضرب في أنحاء أمريكا يخطب المهاجرين بالعربية مرة وبالفرنسية أخرى، علّهم يثوبون؛ وهناك تعرّف إلى أعضاء الرابطة العربية جميعاً ووصل بينه وبينهم برباط من المحبة، وتوثقت بينه وبين جبران خليل جبران العبقري الفنان صلات من الهوى والصداقة.

وعاد إلى لبنان وفي خياله أن يستطيع أن يقنع الجنرال بيرو المندوب السامي الفرنسي بوجوب التفاهم مع العناصر الوطنية، وتشجيع المهاجرين على العودة إلى وطنهم. ومال الجنرال بيرو إلى رأي الأستاذ غير أن الحكومة الفرنسية رأت أن ترسل الجنرال فيجان ليشغل منصب الجنرال بيرو. . . فانفجرت الثورة وتطاير شررها هنا وهناك، ولكن اليأس لم يجد طريقه إلى القلب الكبير. . . قلب الأستاذ فليكس، فراح يكتب إلى صديقه المسيو جوسران سفير فرنسا في واشنطن، وإلى ذوي المكانة العليا في فرنسا، يكشف لهم جميعاً عن خطل السياسة الفرنسية في بلاده؛ غير أن صرخاته ذهبت نهب الرياح، فكبر عليه أن يعمل مع حكومة تسير على مبدأ لا يقره، فنبذها جانباً، ولبس ثوب المحاماة.

وفي أواخر سنة 1930 عين رئيساً للتراجمة في بلدية الإسكندرية فترك بلاده ومهنته ليستقر في الوطن الثاني الجميل. . . في مصر، وليجد هنا أصدقاء أحباء يعوضونه ما فقد في وطنه الأول

تلك لمحة عاجلة عن حياة الأستاذ الفقيد فيا عظة وحكمة

لم يكن للأستاذ فليكس أن يكبح جمحات نفسه، بعد إذ لمس الإخفاق في وطنه الأول، وهو قد هبط وطنه الثاني شعلة من نشاط تتقد، فاندفع يتعرف على جماعة من أدباء هذا المصر. . . ثم قرأ للأستاذ الزيات - أطال الله عمره - وجمع أعداد (الرسالة) لا تفوته فيها شاردة ولا واردة؛ وعكف دراسة أدب الرافعي - رحمه الله - حين استهوته مقالاته في (الرسالة)؛ وترجم له مقالته (رؤيا في السماء) إلى الفرنسية وعلق عليها، ونشرها هي والتعليق في غير واحدة من الجرائد الفرنسية، وأعجب بعاهلي الأدب العربي الحديث وتمنى لو رآهما

وفي صيف سنة 1936 تعرف إلى الأستاذ الرافعي - رحمه الله - وطلب إليه أن يزوره في داره في كامب سيزار برمل الإسكندرية فلبى الدعوة وأنا برفقته. . . فألفيت رجلاً هادئ الطبع، طلق المحيا، كريم الخلق، جميل الصحبة. وكان وجهه - ونحن في داره - يتهلل بشراً وسروراً. . . وهكذا ابتدأت أول وشيجة بينه وبين أسرة (الرسالة) الغراء، ومضت أيام فإذا صوت صرير قلمه يرن على صفحات (الرسالة)

ثم انطلق يتلمس الطريق إلى الأستاذ الزيات ويستزيره في إلحاح. وفي صيف سنة 1937 دخل الأستاذ الزيات دار صاحبه فليكس - لأول مرة - وأنا إلى جانبه. يا عجبا. يا عجبا! إنني أرى صاحب الدار يهتز من فرط الفرح كأنه يلاقي حبيباً طال اغترابه؛ وإنه ليتراءى لي أنه يهم أن يضم الأستاذ الزيات إليه لولا هيبته. وتقدمت الأيام وفي قلب كل منا لصاحبه المحبة والإخلاص والوفاء

عرفنا الأستاذ فليكس فعرفنا فيه الأديب الفذ والشاعر الرقيق، وفقدناه ففقدنا فيه الأخ الوفي والصديق الصادق

ففي ذمة الله، وفي رحمة الله. . . يا صديقي!

كامل محمود حبيب