مجلة الرسالة/العدد 314/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 314/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

مجلة الرسالة - العدد 314 المؤلف زكي مبارك
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 07 - 1939


للدكتور زكي مبارك

- 5 -

رأينا أن نقف وقفة قصيرة نحادث فيها القراء قبل أن نأخذ في محاسبة الأستاذ أحمد أمين على الأغلاط التي وقعت في مقالاته السالفة وهو يحاول تزهيد الناس فيما ورثت اللغة العربية من ألفاظ الشعراء والخطباء

فماذا نريد أن نقول اليوم؟

نريد أن نؤرخ الظاهرة العقلية التي بدت شواهدها حين واجهْنا الجمهورَ بعيوب الطريقة التي يفكر بها الأستاذ أحمد أمين، فقد انقسم ذلك الجمهور إلى فريقين: فريق راضٍ، وفريق غضبان

والفريق الأول يستأهل اللوم قبل أن يستحق الثناء، لأن هذا الفريق يمثل جمهور المشتغلين بتدريس اللغة العربية؛ وهؤلاء قد ركنوا في الأعوام الأخيرة إلى التغاضي عن نقد ما يُكتب أو يقال في السخرية من ماضي اللغة العربية. وقد يكون لهذا التغاضي أسباب: فهم في كدح موصول بفضل ما يحمل المدرس من ثقال الأعباء؛ وهم قد رأوا المجادلات السياسية شغلت الناس عن المجادلات الأدبية؛ وهم قد سمعوا أن كلية الآداب صار إليها الأمر كله في توجيه التلاميذ والمعلمين إلى قواعد الدراسات الأدبية، فلا حرج عليهم إن انسحبوا من الميدان

تلك جملة الأسباب التي صرفت أساتذة اللغة العربية عن المشاركة في النقد الأدبي

فهل يعرفون أن سكوتهم هو الذي أطمع بعض الناس في أن يبغي ويستطيل؟

لو كانت كلية الآداب تعرف أن في مصر رقابة أدبية لما وقعت في المضحكات حين قررت أن تدرس لطلبة السنة الأولى أسلوب أحمد أمين وأن تمتحنهم في أسلوب أحمد أمين

ومن المحنة جاء الامتحان!

أحمد أمين له أسلوب؟

آمنت بالله!

ومن هم المدرسون الذين يدرسون لطلبة كلية الآداب ذلك الأسلوب (الأحمدي)؟ هم شبان تخرجوا في كلية الآداب وموقفهم في هذه القضية أحرج المواقف، لأنهم يعرفون أن أحمد أمين من أساتذة الكلية، ولأنهم يعرفون أنه رجل سريع الغضب والاكتئاب. وهم أيضاً يعرفون - وا أسفاه! - أن كلمة الحق في أحمد أمين قد تحمل بعض المتملقين على وصفهم بالجهل!

ولم يقف الأمر عند كلية الآداب بجامعة القاهرة - جامعة فؤاد الأول - بل تعداه إلى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية - جامعة فاروق الأول - فهنالك الأستاذ أحمد الشايب وهو الأديب الفاضل الذي ألف كتاباً لطيفاً سماه (الأسلوب) وفيه يقرر أن أسلوب أحمد أمين له مزايا وخصائص

فهل لأحمد أمين أسلوب حتى تخلق لأسلوبه مزايا وخصائص؟

أشهد مرة ثانية أن الجامعة المصرية أمرها عجب!

فالدكتور طه حسين الذي وقف بقصر الزعفران في ربيع سنة 1927 يلقي كلمة الجامعة في مهرجان شوقي، ثم رأى أن تكون خطبته في الأخطل لا في شوقي بحجة أن الجامعة لا تؤرخ الأحياء، هو نفسه الذي ارتضى أن يدرس أسلوب أحمد أمين بكلية الآداب!

فكيف يكون الحال لو اعتدل الزمان وقيلت كلمة الحق في التدريس بكلية الآداب؟

أيستطيع إنسان أن يفرض على مدرس أن يعترف بأن أحمد أمين له أسلوب؟

وماذا نقول للشبان الذين يفدون من أقطار الشرق وقد عرفوا من قبل أن أحمد أمين قد يكون من الباحثين ولكنه لن يكون من الكتاب ولا الأدباء؟

وكيف تكون حجتنا أمام الأقطار العربية إذا سمعت أننا ندرس أسلوب أحمد أمين كما ندرس أساليب العقاد والمازني وهيكل وطه حسين والزيات؟

أتريدون الحق؟

إن أحمد أمين لم يكن له أسلوب يدرس في كلية الآداب إلا لأنه أستاذ في كلية الآداب، وإلا فكيف غابت قيمة أسلوبه عن أساتذة الأزهر وأساتذة دار العلوم وهم لم يلتفتوا إليه حين التفتوا إلى أساليب الكتاب في العصر الحديث؟

إن الرجل لا يكون له أسلوب إلا يوم يصح أنه يحس الثورة على ما يكره، والأنس بما يحب، فعندئذ تعرف نفسه معنى الانطباعات الذاتية ويعبر عن روحه وعقله وقلبه بأسلوب خاص

لقد اشتغل أحمد أمين بالقضاء الشرعي بضع سنين، فهل قرأتم له مقالاً أو قصة تدل على أنه توجَّع مرةً واحدةً للمآسي الإنسانية؟

لقد عاش أحمد أمين مدة بالواحات، فهل سمعتم قبل أن تسمعوا مني أنه عاش بالواحات؟

لو كان أحمد أمين أديباً لحدثكم عن تلك المروج التي يجهلها المصريون

ولكن أحمد أمين لم يكن أديباً، وإنما كان موظفاً مخلصاً لواجب الوظيفة لا يرى ما عداها من الشؤون، ثم قال له طه حسين كن أديباً فكان!

وهنا أوجه القول إلى من أغضبهم هجومي على الأستاذ أحمد أمين فمن هم أولئك الغاضبون؟

منهم محام فاضل ألف عدة كتب في الحياة الأدبية والاجتماعية وقد كتب إليّ مرتين يدعوني إلى الترفق في الهجوم على هذا (الأديب)

وهذا المحامي الفاضل يعجب من أن نصحح رأي الأستاذ أحمد أمين في القرآن، وهو يظن أن اللذات الحسية التي سينعم بها المؤمنون في الجنة إنما هي لذات روحية

وأقول إن القرآن وعد المؤمنين بأن سيكون لهم في الجنة لحم طير مما يشتهون، وحورٌ عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون، وسيقال لهم: (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية)

وظاهر النصوص هو الأصل، فهل يرى هذا المحامي الفاضل أن نؤول كلام الله ليصح كلام أحمد أمين؟!

ومنهم كاتب مشهور أخذ يوسوس ذات اليمين وذات الشمال بأن زكي مبارك مولع بهدم الرجال، وأنه لو عدم مجالاً للخصومة لخاصم نفسه بلا ترفق!

وأنا أترك الرد على هذه التهمة لمن يعرفونني معرفة شخصية من أمثال العقاد والمازني وهيكل والزيات، بل أترك الرد على هذه التهمة لحضرة الأستاذ أحمد أمين

كيف تشيع عني هذه المقالة السيئة وأنا الكاتب الوحيد التي احترم معاصريه فتحدث عنهم في مقالاته ومؤلفاته بما يحبون، وسجل آراءهم في الأدب بنزاهة وإخلاص؟

ما هو الشر الذي تنطوي نفسي عليه حتى يستبيح الزملاء اتهامي بحب المناوشات والمشاغبات؟ لقد تأدبت منذ أعوام طوال بأدب أبي منصور الثعالبي رحمه الله فتحدثت في رسائلي ومؤلفاتي عمن عاصرت من الرجال كما تحدث الثعالبي عن معاصريه من الكتاب والشعراء

فأين تكونون يا أدباء الجيل من هذا المسلك النبيل؟

إن أدباء العراق والشام ولبنان ينكرون عليكم ما تتهمونني به من حب الشغب والصيال، ففي جرائدهم ومجلاتهم وأنديتهم تحدثت عن أدباء مصر بالخير والجميل

بل أذهب إلى أبعد من ذلك فأصرح بأني عاديت كثيراً من الناس في سبيل الدفاع عن أعدائي من أهل الأدب والبيان. ولو شئت لأقمت الشواهد على صحة ما أقول

فكيف يصح أن يتهمني أدباء مصر بالتحامل عليهم وأنا الذي أحسنت السفارة عن الأدب المصري في كل بلد حللت فيه؟

الحق أن أكثر أدباء مصر يحبون أن يعيشوا مدلَّلين في زمن لا ينفع فيه الدلال!

الحق أنهم استمروا العافية من مكاره النقد الأدبي، فهم يصرخون كلما هجمنا عليهم لنعود إلى مهادنتهم من جديد

ولو أنهم فكروا قليلاً لعرفوا أني أؤدي الزكاة عن النشاط المصري. فقد شاع في كل أرض أن الأدباء المصريين تنكروا للنقد الأدبي ولم يعودوا يعرفون غير مقارضة الحمد والثناء

وأوجه القول مرة ثانية إلى من أغضبهم هجومي على الأستاذ أحمد أمين فأقول:

إن هذا الرجل أراد أن يؤرخ العصر العباسي من الوجهة الأدبية فجعله عصر معدة لا عصر روح، وشاء له أدبه أن يختص البصرة بحكم من أحكامه القاسية فزعم أنها عرفت (نقابة الطفيليين)

فهل خطر في بال هذا الباحث المفضال أن البصرة عرفت أكرم نوع من نكران الذات حين كانت مهداً لإخوان الصفاء؟

هل خطر ببال أن البصرة حين آوت هؤلاء الباحثين العظماء قهرت التاريخ على أن يشهد لها بقوة الروحانية؟

ومن الذي يصدق أن رسائل إخوان الصفاء وهي أعظم ذخيرة أدبية وفلسفية وضعت أصولها في البلد الذي زعم أحمد أمين أنه أنشأ أدب التطفيل؟ هل يعرف أحمد أمين من هو مؤلف (رسالة الطير والحيوان) وهي رسالة لم يكتب مثلها في مشرق أو في مغرب؟

إن هذه رسالة وضعت في البصرة، أو ألفها رجل استوحى أهل البصرة، أفما كانت تصلح هذه الرسالة شفيعاً للبصرة فتنقذها من قالة البهتان على لسان أحمد أمين؟

ثم ماذا؟

ثم استطاعت البصرة أن تنشئ مذهباً في النحو شغل الأمم الإسلامية نحو اثني عشر قرناً

ولو أن أحمد أمين كان يدقق لعرف أن البصريين لم يصلوا إلى ذلك إلا بقوة الروح، فكيف شاء له هواه أن يجعلهم أصحاب معدات؟

لو أن معدتي كانت كما أحب من القوة والعافية لأكلت لحم الأستاذ أحمد أمين وأرحت الدنيا من أحكامه الجائرة في الأدب والتاريخ

ولكن الدهر حكم بأن أكون من أصحاب الأرواح فلم يبق لي في محاسبته غير شيطنة الروح، وفي الأرواح شياطين!

وتحامل أحمد أمين على البصرة وعلى العصر العباسي هو الذي أثارني عليه، فإن كان في الناس من يتوهم أن بيني وبينه ضغينة وأنني أشفي صدري بتنغيصه، فهو من الآثمين وسيلقى الجزاء يوم يقوم الحساب

ولن ينقصني عجبي من أهل هذا الزمان

فما كنت أظن أن أهل مصر يستكثرون على رجل أن يقول كلمة الحق لوجه الله؟

ما كنت أظن أن من واجبي أن أكف قلمي عن رجل يتطاول على ماضي الأدب العربي وهو بشهادة نفسه غير أديب!

أليس من المزعج أن يكون من تقاليد الصحافة الأدبية في مصر أن تمجد رجال الغرب وتنتقص رجال الشرق؟

أليس من المزعج أن تكون عيوب الناس في الأعصر الماضية مقصورة على أسلافنا وهم الذين احيوا الثقافة الأدبية والعقلية في عصور ألظلمات، وبفضلهم حُفِظ أكثر تراث الهند والفرس والروم؟

أليس من المؤلم يقال لمن يغار على ذلك الماضي المجيد (إنك ذو ضغينة وإنك تشفي صدرك بتكلف الغيرة على ماضي اللغة العربية)؟

إن الرجل الذي يملك الفصل في هذه القضية هو الأستاذ أحمد أمين، فليذكر متى عاديته؟ ومتى حقدت عليه؟ ومتى وقع بيني وبينه ما يورث الشحناء؟

إن أحمد أمين لم يوجه إلي أية إساءة، وربما جاز أن يقال إنه لم يؤذ أحداً من معاصريه، فقد كان ولا يزال مثال الطيبة واللطف

ولكن أحمد أمين الذي كف شره عن الأفراد وجّه شره إلى التاريخ، فهو يدوس ماضي اللغة العربية بلا تحرز ولا رفق، ولو تركناه شهرين اثنين يؤرخ الأدب على هواه لجعل الأمة العربية أضحوكة بين العالمين.

فإن كان هناك شيء يكتب لوجه الله فهو ما أكتب عنك يا صديقي أحمد أمين

أما بعد فقد بقيت معركة حامية حول ما سماه أحمد أمين (جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي) فإن اتسع صدر (الرسالة) لتلك المعركة فسأخدم الأدب العربي خدمة باقية. وإن ضاق صدر (الرسالة) عن هذه المعركة فسأنقل الميدان إلى مجلة أو مجلتين أو مجلات في مصر والشام والعراق، وحسبنا الله وهو نعم الوكيل.

(مصر الجديد.)

زكي مبارك