مجلة الرسالة/العدد 314/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 314/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 07 - 1939



حول مناظرة وكتاب

نقد ومراجعة

للدكتور بشر فارس

شيء واحد لفت نظري فيما كتبته - في العدد الماضي من الرسالة - الأستاذ إسماعيل أحمد أدهم خريج جامعة موسكو لسنة 1933 كما جاء في مجلة الحديث، حلب 1938

وأما الذي يكتنف ذلك الشيء من الكلام المرتجل ارتجالاً فلا شأن لي به. وقد أخبرت القارئ من عددين أن قلمي لا يقوى على مجاراة غيره في ذلك الضرب من الكلام. ولولا غضبي للعلم الحق وغيرتي على النقد الصحيح ما كتبت هذا الفصل

قال الأستاذ أدهم: (إن الجملة تنظر إليها العبارة العربية ليست من خلقه (يعنيني)، فقد تكرر ذكرها في كتابات العالم الاجتماعي دوركايم وخصوصاً في مجموعة محاضراته عن علم الاجتماع في السوربون: ص 11، 13، 24، 26 مثلاً)

بهذه العبارة يريد الدكتور أدهم أن يقيم البرهان على أن تلك الجملة الفرنسية التي (ليست من خلقي) قد وصلت إلى علمه قبل قراءة كتابي (مباحث عربية). وأني لأرى الأستاذ أدهم يتقول عليَّ: فإني لم أقل قط إني (خلقت) تلك الجملة الفرنسية، إذ أني في (مباحث عربية) (راجع ص 16) أضع الاصطلاحات العربية - من طريق المطالعة أو الاجتهاد - ثم أثبت إزاءها ما ينظر إليها في اللغات الإفرنجية، وذلك رغبة في إغناء لغتنا (وهل أنا أغني لغات الفرنجة؟). وعندي أنه كان يغني الأستاذ أدهم عن عبارته المذكورة أن يثبت لنا الجملة التي استعملها في (مجلة المعهد الروسي للدراسات الإسلامية) - وذلك على وجهها - ولكنه لم يفعل بل لم يبعث إلى بالمجلة كما رجوت منه. وكان بودي أن أرى كيف استعمل المصطلح العربي الخاص بعلم الاجتماع دون غيره، الموضوع في كتابي وضعاً فلسفياً

ومن الظريف أن يذهب الأستاذ أدهم في إقامة برهانه إلى ما لا نرضاه له. فقد استشهد على وجه التخصيص بـ (مجموعة محاضرات دوركايم عن علم الاجتماع في السوربون) ثم عين فقال: - ص 11، 13، 24، 26) ثم تلطف فقال: (مثلاً)

والذي في الحقيقة أن دوركايم استعمل هذه الجملة غير مرة، وكذلك تلامذته وتلامذة تلامذته، وعلى الأستاذ أدهم التفتيش. غير أن دوركايم لم يستعمل هذه الجملة في (مجموعة محاضراته عن علم الاجتماع في السوربون)، وذلك بالرغم من الحكمة: (مثلاً) التي جرت على قلم الأستاذ أدهم، وفيها ما فيها من قوة الإيهام

إني لم أسمع قط بـ (مجموعة محاضرات دور كايم عن علم الاجتماع في السوربون)، مع أني قرأت كتب دوركايم - وهي غير كثيرة - راضياً أو كارهاً، وأنا أحصل علم الاجتماع على ألوانه - فيما أحصل من فنون الفلسفة - في السوربون نفسها، وذلك زهاء سبع سنين. وقد سألت اليوم زميلي في التحصيل في السوربون، الصديق الدكتور علي عبد الواحد وافي - مدرس علم الاجتماع بكلية الآداب لجامعة فؤاد الأول - هل يعرف تلك (المجموعة)؟ فأخبرني قال: (لا وجود لها). أضف إلى هذا أن بين يدي الآن كتاباً فيه ثبت المؤلفات في علم الاجتماع (ولا سيما التي تهم الطالب، وأي شيء يهم الطالب مثل المحاضرات، بل محاضرات دوركايم وهو إمام مدرسة علم الاجتماع الحديث في فرنسة؟). وهذا الكتاب عنوانه: ' وليس فيه ذكر لتلك (المجموعة). واعلم أن هذا الكتاب مطبوع في باريس ثماني سنين بعد وفاة دوركايم فضلاً عن أن أحد صاحبيه من تلامذة دوركايم نفسه، واسمه فهو أعلم منا بما أخرج أستاذه لطلاب علم الاجتماع

هذا إلا إذا خرجت تلك (المجموعة) في موسكو حيث تلقى الأستاذ أدهم شتى العلوم. فرجاني منه إذن أن يعين لي (المجموعة) بحيث يثبت العنوان الفرنسي وتاريخ الطبع ومكانه. فإني جد حريص على أن أخبر أساتذتي وزملائي من علماء الاجتماع بوجود تلك (المجموعة)؛ وما أظنهم إلا ناشطين لها، وما أخالها إلا واقعة موقع الحدث

ولعل تلك (المجموعة) - وكلها سر - موجودة على خلاف ما أقوله وما يقوله صديقي الدكتور علي عبد الواحد وافي، وعلى خلاف ما جاء في الكتاب المتقدم ذكره. فتكون القصة أن الأستاذ أدهم لم يحسن نقل عنوان الكتاب من الفرنسية إلى العربية، وذلك لسببين:

أما الأول فلأن العربية ليست (لغة الأصلية)، كما قال في العدد السابق من الرسالة حين أخذ يعتذر إليّ من اقتباس تعبيرات لي.

وأما السبب الثاني فلأن علمه باللغة الفرنسية لا ييسَر له مثل ذلك النقل. وقد ذكرت هذا وعللته مكرهاً، لعددين مضيا، فردّ الأستاذ أدهم قال: (إن اللغة الفرنسية ليست وقفاً عليّ)

معاذ الله أن تكون الفرنسية وقفاً على! غير أني ماذا أصنع وفي نقد الأستاذ أدهم لكتابي (مباحث عربية) ما يؤيد ما ذكرته من عددين؟ ففي رأي الأستاذ أدهم (راجع الرسالة العدد 311 ص 1229) أن استعمالي لفظ (السلوك) لأحد مشتقات المصدر الفرنسي تارةً، ولفظ (الأخلاقيات) لمشتق آخر للمصدر نفسه (وهو بمعنى تارةً أخرى مما (يوقع في اللبس والاختلاط). والواقع الذي أثبته على كُرهٍ أن الأستاذ أدهم لم يدرك الفرق القائم بين اللفظين الفرنسيين: (راجع (مباحث عربية) ص 36، 56 خاصة)، فالأول يدل على أعمال المرء من الناحية (الأخلاقية)، والثاني يفيد (علم الأخلاق). وحسب الأستاذ أدهم أن يستفسر معجماً فرنسياً للمدارس ذينك اللفظين.

ولك أن تقول: فإذا شقَّ على الأستاذ أدهم أن يحسن النقل من الفرنسية إلى العربية فكيف ارتجل مصدراً ارتجالاً ثم استشهد به وأثبت بضع صفحات (على جهة التمثيل)؟

الحق أني أود أن أعجب عجبك، ولكن ما قولك في هذا الاختلاق:

قال الأستاذ أدهم في نقده لكتاب (مباحث عربية) (الرسالة العدد 31 ص 1229): (يعتبر الباحث (يعنيني) كلمة البصيرة مقابلاً (كذا) ص 2257، والغريب أني لم أثبت كلمة إزاء كلمة البصيرة الواردة في ص 57 من كتابي ولا في صفحة غيرها. فمن أين جاء الأستاذ أدهم بكلمة وكيف جعلني (أعتبر) ما يجهل هل أنا (معتبره)؟

ثم لم لا يترجل الأستاذ أدهم المراجع ويبتدع المصادر، وهو الذي استشهد بالإصحاح الرابع عشر من (سفر دانيال) من المعهد القديم (الكتاب المقدس) ثم بالجزء الثالث من (الفهرست) لابن النديم، يوم نقد (مباحث عربية) (الرسالة العدد 312 ص 1274 ثم ص 1275). وإليك بيان ذلك:

أولاً - قال الأستاذ أدهم: (ومما يحسن بي الإشارة إليه أن كلمة المروءة وردت في اللغة العبرية، وهي من أخوات اللغات العربية، نازعةً فيها لمعنى السيادة (دانيال 14 - 19 ومراد فرج في ملتقى اللغتين ج1 ص 89 - 91)

والذي في كتاب (ملتقى اللغتين: العبرية والعربية) للأستاذ مراد فرج: (مرا: فتح فكسر ممال ممدود بمعنى السيد وولي الأمر - دانيال 14 - 19 والأصل العبري 16) (يريد، على أسلوب جمهور العلماء: الإصحاح 14 والآية 19 في الأصل العربي والآية 16 في الأصل العبري)

ومن المستحيل أن يكتب الأستاذ فرج: الإصحاح 14 (الرابع عشر)، لأن (سفر دانيال) اثنا عشر إصحاحًا فقط ومن هنا تبين لي أن الإصحاح 14 من غلطات الطبع. فسألت في ذلك زميلي الدكتور مراد كامل - مدرس اللغات السامية بكلية الآداب لجامعة فؤاد الأول - فأخبرني بعد المراجعة قال: (إن الصواب هنا: الإصحاح 4 (الرابع) والآية 16 و21)

وهكذا ترى كيف جاء الأستاذ أدهم ونقل ما في كتاب الأستاذ فرج من غير تحقيق ولا روية. والظريف أنه استشهد بسفر دانيال أول ما استشهد، إذ قال: (كيت وكيت: دانيال 14 - 19 ومراد فرج في ملتقى اللغتين ج1 ص 89 - 91) كأنه اطلع على سفر دانيال قبل (ملتقى اللغتين) لفرج

ثانياً - قال الأستاذ أدهم - عند الكلام على أنساب العرب -: (ولكنا على الرغم من ذلك، نلاحظ جواز أن تكون القبيلة منشؤها اجتماع عدة بطون وأفخاذ من قبائل مختلفة: ابن حزم نقلاً عن الفهرست لابن النديم ج3 (كذا) ص 187. والمراجع العربية تروي أن قبائل تنوخ وغسان والعنق تكونت من شتيت البطون التي تناثر في الصحراء من القبائل العربية التي تفرقت بعد تركها مواطنها في الجنوب: الفهرست ج3 (كذا) ص 187 وكذلك لنا (يعني كتاباً له): علم الأنساب العربية ص13 - 14)

على هذا النحو ترى الجزء الثالث (؟) من (الفهرست) لابن النديم يثبت مرتين على سبيل المرجع. وليس للأستاذ أدهم أن يستنجد بغلط الطبع، إذ في كتابه الذي ذكره: (علم الأنساب العربية): (مجلة الحديث، حلب 1938 ص14) ما جاء في نقده حرفاً بحرف.

هذا والمعلوم أن (الفهرست) لابن النديم طبع مرتين: مرةً في 1872، ومرة في مصر سنة 1348 للهجرة. وفي كلتا المرتين خرج (الفهرست) في جزء واحد والذي حدث في هذا الموطن أن الأستاذ أدهم اقتبس المرجع إلى (الفهرست) من كتاب من الكتب الحديثة من غير أن يراجع المظنَّة، دأبه مع (سفر دانيال). ولو راجعها لعلم أن الكلام على الأنساب يقع في (المقالة الثالثة) (الفن الأول: في أخبار الإخباريين والنسابين. . .) من كتاب الفهرست، لا في الجزء الثالث منه. ومن هنا يتبين أنه ظن المقالة جزءاً لحظة اقتبس المرجع. وأما الصفحة التي يعينها (ص187) فلا أثر فيها لما يذكره. بل إني قرأت الفن الأول من (الجزء الثالث) كله (طبعة مصر، وهكذا للأستاذ أدهم أن يقول أن حديثه في طبعة ليبتسج!) ولم أعثر على حديث الأستاذ أدهم.

وأما قوله في مرجعه: (ابن حزم نقلاً عن الفهرست. . .) فغاية الاشتباه. لأنه إذا قال ابن حزم من غير تعيين أراد صاحب (الفصل في الملل والأهواء والنحل). وعليه فلنا أن نسأل الأستاذ أدهم أي كتاب لابن حزم يعني، ولابن حزم المولود سنة 383 (أيَّ ست سنوات بعد تصنيف الفهرست) ستة وثلاثون مؤلفاً؟ راجع: بروكلمن (تكملة تاريخ الآداب العربية) ليدن 1937 جـ1 ص694 - 697. ثم إني أعلم أن لابن حزم كتاباً لا يزال مخطوطاً، عنوانه: (جمهرة النسب)، وقد نشر جانباً منه في كتابه: فهل يعني الأستاذ أدهم في مرجعه ذلك المخطوط؟ وإذن فأين اسم الكتاب وأين الصفحة، كما يصنع الناقد الثبت والباحث الثقة؟

وغاية القول هنا: أين الجزء الثالث من الفهرست، وأين النص المستشهد به في ص187، بل في الفن الأول من المقالة الثالثة من الفهرست؟ ثم من ابن حزم هذا، وما كتابه؟

إني والله ليحزنني أن لأثبت كل ذلك، وليزيدنَّ في حزني أن الأستاذ أدهم حدثته نفسه بأن يكتب: (وأظن أن الدكتور بشر لا ينكر علينا أننا أكثر الكاتبين في العربية استقصاءً للمصادرة) (الرسالة العدد 311 ص1225). فليطمئنَّ الأستاذ إلى أني لا أنكر عليه ذلك، وليطمئن أيضاً إلى أن (الكاتبين في العربية) لن ينازعوه الغلبة في استقصاء المصادر على طريقته. إنما العلم دقة وأمانة. . .

وإذا امتد الحديث إلى استقصاء المصادر فما ضرَّ الأستاذ أدهم لو راجع معجمات الفلسفة وكتبها حين تكلم على كلمة في نقده لمباحث عربية كما تقدم. فقد قال: (وهذا (أي: الانتقال دفعة واحدة من المبادئ إلى النتائج) ما يفيد معنى لفظة اصطلاحاً ولغوياً كما يستفاد من مراجعة معاجم اللغة الفرنسية)

فهل يصاب المصلح الفلسفي على وجهه التام والخاص جميعاً في (معاجم اللغة)؟ إني هنا أرشد الأستاذ أدهم إلى (المعجم الاصطلاحي والنقدي للفلسفة) للأستاذ (باريس 1932) فثمة يدري كيف يذهب الإصلاح الفرنسي إلى أبعد مما يظن. وله أن يقرأ أيضاً - ليحكم معرفة المصطلح لهذا العهد مثلاً - كتابين للفيلسوف برجسون وهما ' (الباب الثاني) ثم كتاباً للعالم بوانكاريه (الفصل الأول من الباب الثالث

وإذا أراد الأستاذ أدهم أن يعرف ما تحت مصطلح قبل هذا العهد فعليه ببعض ما كتبه خاصةً في (نقد العقل الصرف) ثم شوبنهاور

هذا من جهة المصطلحات الفلسفية، وأما من جهة المواضعات العربية فما ضر الأستاذ أدهم لو راجع معجمات اللغة ونظر في دواوينها قبل أن يكتب في نقد (مباحث عربية) (الرسالة، العدد 311 ص1229): (ثم عندك قول الكاتب (يعنيني) إن للفظة الشرف مفادات متجاورة تارة، متباينة أخرى). ثم يزيد: (ففي هذا التعبير لفظة المتجاور تفيد إفرنجياَّ معنى والقصور واضح في التعبير العربي (كذا!) فضلاً عن أن التعبير غير مستقيم من جهة البناء اللغوي (كذا!) ولكي تتسق مفادات العبارة لا بد من إبدال لفظة: المتجاورة من الجملة بالمتشابهة لأنها أدل على المعنى وأكثر اتساقاً في الجملة)

على أني لا أحب أن أسأل الأستاذ أدهم كيف يناقشنا في لغتنا وهو لا يزال يأخذها عنا، كما اعترف بذلك في خاتمة مقاله المنشور في العدد الماضي. إن كل ما أبتغيه أن أرشده إلى كتب اللغة العربية ليتبين أن معنى لفظة تؤديه في العربية الفصحى لفظة (المترادف) (وما هذه اللفظة عنيت في جملتي المذكورة قبل). وأعلم أن كلمة في الإفرنجية هي الألفاظ المفردة الدالة على معنى واحد (أو متقارب). وإلى الأستاذ أدهم (مثلاً) فصلاً قريب المنال في (المزهر) للسيوطي (النوع السابع والعشرون)

العلم في مصر أمسى شيئاً مقدساً له سدنته وله حراسه. فكيف يأخذنا القول بالظن والكلام المتحدي والجدال المتحكم والتظاهر بالتثبيت والدراية؟. . .

فالرؤية الروَّية عند الإقبال على الاشتغال بالعلم أو على نقد من توفر عليه. والنقد أمر لا ثمرة فيه إذا حاد عن خدمة العلم وحده. والنقد للعلم مصباح على أن يكون الزيت لا دخل فيه!

بقى أن أودع القارئ، وأنا راحل إلى أوربة بعد أربعة أيام. وإني لشاكر له صبره، فقد أطلت الكتابة في سبيل (وضع الشيء موضعه). ورجائي منه أن يتحقق ما جاء في هذه الكلمة: فكتاب (الفهرست) و (سفر دانيال) - مثلاً - مبذولان لكل أحد. وإني لمطمئن إلى أن القارئ سيعرف - من طريق المراجعة والتحقيق - كيف ينظر عني فيما يبدو لهذا أو لذاك أن يكتب ويكتب والسلام، وإلى اللقاء بعد أربعة أشهر

بشر فارس

دكتوراه في الآداب من السوربون