مجلة الرسالة/العدد 32/في تاريخ الأدب العربي المصري

مجلة الرسالة/العدد 32/في تاريخ الأدب العربي المصري

مجلة الرسالة - العدد 32
في تاريخ الأدب العربي المصري
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 02 - 1934



ابن قلاقس 532 - 567هـ (1138_1172م)

- 1 -

في ثغر الإسكندرية، مهبط الوداع واللقاء. حيث تجلب السفن قوما وتذهب بآخرين، وتحمل أناسا إلى أوطانهم، بينما تذهب بغيرهم إلى بلاد غير بلادهم وآل غير آلهم، وحيث البحر الأبيض يحمل عبابه السفن، مهتدية بمنار الثغر، فتحط اليه أو ترحل عنه، وفي رابع ربيع الآخر عام اثنين وثلاثين وخمسمائة ولد لعبد الله بن مخلوف بن علي ولد سماه نصبر الله، وكناه أبا الفتوح، ولقبه الناس بعد ذلك بالقاضي الاعز، وشهر في كتب الادب بابن قلاقس، وأرجح ما نراه سببا لكنيته الأخيرة أن أحد الأجداد في عمود نسبه يسمى بقلاقس، فحمل حفيده الشاعر النسبة إليه، (وقلاقس بقافين. الأولى مفتوحة والثانية مكسورة جمع قلقاس، وهو معروف) ولسنا ندري السبب الذي من أجله سمي جده بهذا الاسم.

ولد هذا الطفل الذي كان على ما يظهر نحيفا ضئيل الجسم، وظلت صفة النحافة ملازمة له، لم تبرحه طوال حياته حتى قال حينما كبر يحدثنا أن ضآلة الجسم لا تحول بينه وبين العلا:

جوهر المرء نفسه وبها الفض ... ل، وما غير ذاك فهو فضول

والصغير الحقير يسمو به الس ... ير فيعنو له الكبير الجليل

فرزن البيدق التنقل حتى ان ... حط عنه في قيمة الدست فيل

ويروي بعض الرواة أنه لم تكن له لحية، ولكن شعره يحدثنا أنه كان خفيف العارضين يقول:

لا تغرنك اللحى من أناس ... درجوا كالحمير تحت المخالي

ولئن خف عارضاي فاني ... لا أبالي بكل وافي السبال

يلبس على رأسه عمامة كالتاج، وذلك كل ما تستطيع ان تصل اليه إذا أردت أن تعرف شيئا عن خلقه وزيه، فإذا أردت أن تدرس أسرته وأن تعرف شيئا عن أبيه وأمه فانك غير مهتد إلى ما يشفي غليلك، اللهم الا أنه يرجع في نسبه الاول إلى قبيلة عربية هي قبيلة لخم ان صح ما يقوله النسابون عن نسبه.

- 2 -

الحياة العملية لابن قلاقس يشوبها العموض، فلسنا ندري على وجه اليقين كيف تعلم، ولا ماذا تعلم، ولا على يد من تخرج، وان كنا نعلم انه درس في الازهر، وربما يكون قد طالت مدة دراسته حتى صح أن ينسب ويقال له الأزهري، كما إننا نعلم أنه صحب الشيخ الحافظ أبا طاهر أحمد بن محمد السلفي وهو أحد الحفاظ الذين رحلوا في طلب الحديث، ولقي المشايخ الأعلام ودرس الفقه على مذهب الشافعي، ثم ألقى عصا التسيار بالإسكندرية، حيث قصده أهل العلم من البلاد النائية، ويقال أنه لم يكن في اخر زمانه مثله، ولقد بنى الوزير المصري وزير الظاهر العبيدي له مدرسة بالإسكندرية وكل أمرها إليه، فقام بأعبائها.

أتصل ابن قلاقس بهذا العالم وانتفع بصحبته كثيرا، وان شعره الذي مدحه به يدلنا على ما كان بينهما من أواصر المودة وقوة العلاقة، كان السلفي رجل حديث فلا بد أن يكون ابن قلاقس قد درس عليه الحديث، وكان رجل فقه ولغة وأدب فلا بد أن يكون صاحبنا قد تأثر بفقهه وأدبه، وإذا كان الشاعر يهضم دراساته كلها ثم تأبى إلا أن يظهر أثرها في شعره فكذلك كان صاحبنا؛ فانك ترى في شعره بعض اصطلاحات علمية تدلنا على دراسته وما تلقاه، وأتنصت إليه يقول:

البدر في العرض الضياء وأنت قد ... جمعت بجوهر ذاتك الاضواء

ألا يذكرك ذلك باصطلاح المتكلمين حينما يتحدثون عن العرض والجوهر والذات، ويقول:

وأنت ورثت الأكرمين علاهم ... وعالت على قوم سواك الموارث

ويقول:

ملك شاعر الحماسة يأبى ... أن يمل التسهيم والتقسيما

فهو يشير إلى الميراث والعول والتسهيم والتقسيم التي هي من الاصطلاحات الفرضيين واستعمالاتهم، ويقول:

وجدي بنحوك لا عطفا ولا بدلا ... فانظر إليه تجده الكل توكيدا

ويقول:

خفضت بها الأشعار حتى كأنها ... وإن رفعتني الآن من أحرف الجر ويقول:

وأحسن بالرفع رفع الحدي ... ث وإظهاره للجوى المضمر

فهو في كل هذه الأبيات يشير إلى قواعد النحو من عطف وبدل وتوكيد وخفض ورفع وحروف جر وإظهار وإضمار، وهي كلها اصطلاحات نحوية تلوكها ألسنة النحاة، كما كان في البيت الاخير يحدثنا عن رفع الحديث الذي هو من مصطلحات المحدثين كما قال:

لوارث الحمد يرويه ويسنده ... إلى مناسب أجداد وآباء

إذ هو يشير إلى الرواية والإسناد اللذين يجريان على ألسنة المحدثين. ويقول:

حيث الدماء عقار يستحث على ... ما شئت من رمل للخيل أو هزج

ففي رمل وهزج تورية ببحري الرمل والهزج اللذين يعرفهما علم العروض ويقول:

وأراك تريف الجمال بوجهه ... فانظر إلى ألف العذراء ولامه

تلك هي العلوم التي نستطيع استنباط أنه درسها من شعره، واذا شئت أن تجملها قلت إنه درس الدين وعلومه واللغة العربية وعلومها كما أنه قد أخذ بحظ كبير من دراسة أدب الشعراء الغابرين وحفظ الكثير من أقوالهم، يدلنا على ذلك معارضته لهم في أشعارهم وقصائدهم واقتباسه الكثير من أفكارهم وتعبيراتهم، وإن شعر شاعرنا ليدلنا حقيقة على اطلاع واسع وثقافة متغذية بأشعار السابقين له: جاهليين وإسلاميين، وسوف نتحدث بعد عن اقتباسه ومعارضته حينما نحدثك عن شعره. قلنا انه صحب الحافظ السلفي، ونقول، ان التاريخ لم يحفظ من أسماء أساتذته إلا هذا الاسم، وقليا ان العلاقة التي كانت بينهما متينة العرى وثيقة الصلة تلمسها في شعره، وتقرؤها في المدح الذي يفيض قداسة وحبا، كما تلمس فيه بلك الدرجة العظيمة التي وصل اليها السلفي، وتلك المنزلة السامية التي كان يضعه فيها أهل عصره، وحسبك أن تسمع قوله فيه:

نجم علا نوره فكاد بأن ... تقبض بالضوء عين من جحده

سائل به من رمته هيبته ... فمات من خوفه، وما عمده

ألم تزره كواكب ضمنت ... رجم شياطين كيده المرده

وأصبح العاضد الإمام به ... في دولة بالسعود معتضده

وابتسم الثغر عن مفضله ... بما ارتضى الله جده ودده خر له الناس ساجدين فلو ... شئت عددت النجوم في السجده

وشعره فيه كثير جدا يوجد في ديوانه، وكان السلفي كثيرا ما يثني عليه، ويقدره حق قدره.

- 3 -

عاش ابن قلاقس طوال حياته في عهد الدولة الفاطمية، تلك الدولة التي جعلت مصر سيدة لإمبراطورية ضخمة تمتد من المحيط الأطلسي إلى نهر الفرات، غير أن شاعرنا كان في آخر عهودها، وبعبارة أخرى كان في عهد ضعفها وانحلال قواها، إذ لم يكن الأمر والسلطان فيها للخليفة: يصرف الأمور ويدبر الشئون؛ ولكنهما كانا في أيدي الوزراء يفعلون ما يفعلون، ويدعون ما يدعون، ويولون الخلافة من يشاءون، فقام التنافس على الوزارة. كل يرجوها لنفسه ويصرف في سبيل نيلها ما شئت من مال وجند، مما كان مدعاة لأن توجه مصر قواها إلى نصر بعض بنيها على بعض لا إلى عدو آخر مغير، ولهذا كان تاريخ الدولة الفاطمية في آخر عهدها تاريخا للنزاع الذي كان قائما حينذاك بين الوزراء، ولعل ضعف سلطة الخليفة في أكثر المدة التي عاشها ابن قلاقس هي التي لم تدعه إلى السعي للاتصال به، بل هو لم يتصل بأحد من رجال السياسة المصرية المبرزين إلا بشاور الذي تغلب على خصمه رزيك وانتزع منه الوزارة، ولا زال الغالب يجد النصير ويجد المادح؛ لهذا تسمع ابن قلاقس يقول له:

يا آل شاور أنتمو دون الورى ... للملك كالأرواح في أشباحه

والى معاليكم إشارة خرسه ... والى أياديكم ثناء فصاحه

ويقول حينما انتصر على بني رزيك:

بك الاسلام قد لبس الشبابا ... وكان سناه قد ولى فآبا

وهز الملك عطفيه بملك ... تقلد فهمه، وكفى، ونابا

وقد لبست به الدنيا حلاها ... جلاها حسنها خودا كعابا

وقالوا: أطول الاملاك باعا ... فقلت: نعم، وأنداهم جنابا

سلوا عنه بني رزيك لما ... أفاد الحرب منهم والحرابا

فان جعلوا الظلام لهم مطيا ... فكم جعل النجوم لهم ركابا

ليهن الملك أن أمسى مصوناً ... عشية راح غيرهم مصابا وكذلك له شعر يحدثنا عما قام بين شاور وشيركوه الذي قدم لمساعدته ثم أبى شاور أن يفي له بما عاهده فاضطر شيركوه إلى الانسحاب من مصر مؤقتا؛ ويقول في ذلك ابن قلاقس:

عارض الصفح في يديك الصفاحا ... ورأى البأس أن تطيع السماحا

فرفعت الجناح عن جارم الذن ... ب بعفو خفضت منه الجناحا

ووضعت السلاح حين أراك ال ... حزم والرأي ان وضعت السلاحا

أي ثغر سما اليه أبو الفت ... ح فلم يبتدر اليه افتتاحا

بخيول طارت بأجنحة النص ... ر فراحت بها تباري الرياحا

شاركت شيركوه في النفس والما ... ل وصاحت به فصاحا فصاحا

طلب الأمن، فاستجيب، وما يع ... رف منك الطلاب إلا النجاحا

بعد ما ضيق الحمام عليه ... سبلاً غودرت لديه فساحا

فليطل تعدها الفخار، فقد را ... ح طليقا لبيضكم حيث راحا

وبغير شاور لم يتصل شاعرنا بسياسي مبرز في السياسة المصرية اللهم إذا استثنينا القاضي الفاضل الذي توصل بجده ومهارته إلى أن يثب على كرسي ديوان الإنشاء عوضا عن الموفق بن الجلال الذي كان أستاذا له، وكان يشغل هذا المنصب قبله، وإذا أنت قرأت شعر ابن قلاقس في مدح القاضي لحظت فيه تأنفا واجتهادا في استعمال المحسنات اللفظية، ولا غرو فالقاضي الفاضل زعيم طريقة عرفت به وعرف بها: هي طريقة الجمال والتزيين اللفظي، فكان من حسن الذوق أن يجتهد مادحه في السير على نهجه واتباع مذهبه لان في ذلك إذاعة لطريقة يريد أن يذيعها، ويقولون: إن أول قصيدة قالها فيه هي التي أولها:

ما ضر ذاك الريم ألا يريم ... لو كان يرثى لسليم سليم

ومنها:

من لفظه راح، وأخلاقه ... روح، وتلك الدار دار النعيم

فارشف بأسماعك من قهوة ... ما أحدثت من ندم للنديم

بلاغة جرت جريرا، ولم ... تدع حطاما بيد ابن الحطيم

رأى به الديوان ديوانه ... مطرزا باسم شريف وسيم وقال يا عبد الحميد ادرع ... من بعد هذا اليوم ثوب الذميم

علامة السؤدد معروفة ... جسم نحيف وعلاء جسيم

وله فيه مدح كثير، وثناء على أخلاقه، وطريقة انشائه، وصاحبنا مع فخره بشعره يقف أمام القاضي الفاضل فيقول له:

أتينا بقرى الأشعا ... ر نهديها إلى المدن

إلى من بحره الزا ... خر لا يعبر بالسفن

إلي من لفظه يط ... رب كاللحن بلا لحن

وهذان العظيمان شاور والقاضي الفاضل أكبر من اتصل بهما شاعرنا في الديار المصرية.

يتبع

أحمد محمد بدوي