مجلة الرسالة/العدد 321/حول الفن المنحط

مجلة الرسالة/العدد 321/حول الفن المنحط

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 08 - 1939



للأستاذ كامل التلمساني

قرأنا بالعدد 319 من الرسالة الغراء كلمة بعنوان (حول الفن المنحط ـ كلمة أخيرة) رداً على ما كان قد كتبه أديب فاضل عن جماعة (الفن والحرية)، وما كان من نقاشه مع الأديب أنور كامل عضو الجماعة في رده عليه من ناحية توخى فيها أنور كامل البعد عن التفاصيل الفنية وذكر الأسماء والتواريخ. أما وقد ذكر الأستاذ الفاضل في كلمته هذه اسم الأديب الشاعر أندريه بريتون وترجم كلمة قديمة له عن السيرياليزم ثم تكلم بعد ذلك معقباً بكلام من عنده؛ فلهذا فقط أجد نفسي مضطراً لتصحيح ما أورده من الأخطاء في حق هذا الكاتب وحركته. ولكيلا أتيح الفرصة للقراء الأفاضل بأن يروا صورة مشوهة ممسوخة لهذه الحركة العالمية التي تعبر عن أسمى وأنبل المشاعر الإنسانية في القرن الحاضر، والتي وصلت عن طريقها الحضارة الفنية سواء في الشعر أو التصوير الحديث إلى الدرجة العليا واضعة بذلك قاعدة المدرسة المعاصرة في الشعر الحر والتصوير المبني على الفكر الشاعري والتحليل النفساني الحديث. ولعل الزملاء من المعارضين قد يتحرون الدقة بعد ذلك في إيراد ما يريدون من مصادره الأخيرة الموثوق بها بشأن هذه الحركة التجديدية التي ما زالت تتسع وتتجدد حتى اليوم ولا يقف أمام نشاطها ركود الفكر أو خمول البحث والتنقيب.

والظاهر أن الأديب الفاضل قد اكتسب معلوماته عن السيريالزم (الفن البعيد عن الحقيقة الظاهرة) كما يتضح من كتابته عن طريق تلك الفقرات التي أتت إجمالاً في كتاب:

, & ونحن نعتقد أن مجرد قراءة فقرات كهذه كتبت منذ عدة سنوات لا تخول له الحق في التحدث بمثل ما تحدث به، وأن في هذا جناية على الفكر والكاتب الذي تحدث عنه، و (للرسالة) بما لها من تأثير وانتشار لا يقف مداه عند مصر، بل يتعداه إلى الشرق العربي أجمع! ولذا وجب أن نذكر هنا هذه (الكلمة الأخيرة) رداً على كلمته وليس لنا رجعة بعد ذلك اللهم إلا في نشرات تحليلية مفصلة أو معارض ومحاضرات عامة يتسع لها الموسم الشتوي المقبل وهو قريب

لقد تطور السيرياليزم في السنوات الخمس الأخيرة تطورات عدة بعيدة المدى في جوهرها، ونشر أندريه بريتون في هذه المدة عدة بيانات متتابعة عن الحركة وما تجدد فيها وما اكتسبت من آراء وفكر؛ وكان آخر هذه التطورات مقالته الرائعة في العدد الأخير من مجلته: مينوتور والتي لا بد للأستاذ من الاطلاع عليها وعلى ما سبقها من مقالات، إذ بحثت بجلاء الاتجاهات الأخيرة في التصوير السيرياليستي، كذلك ما كتبه أقطاب الحركة من النقاد والشعراء والكتاب الفرنسيين والإنجليز

والسيرياليزم ليست (حركة فرنسية محضة) كما يقول الأستاذ بل هي حركة أول مميزاتها أنها عالمية في التفكير والأداء، وليس لها من الطابع المحلي أدنى نصيب قل أو أكثر. وإنه لمن المدهش العجيب حقاً أن يسمح الأستاذ لنفسه أن يقع في مثل ما كتب من الخطأ الفاحش، وإني لأنصحه في هذا الموضع بقراءة ما كتبه الناقد الإنجليزي الكبير هربرت ريد في كتابه عن الحركة السيرياليستية وما أورده بشأن العالمية وهذه الحركة الحرة وبعدها كل البعد أن تتهم بأنها فرنسية محضة كما قال الأستاذ. بل إني أخبره أنه ليس بين قادة التصوير فرنسي واحد، فالمصور جورجيو دي كريكو إيطالي يوناني، وسلفادور دالي أسباني وكذلك بيكاسو نفسه، وبول كلي وماكس أرنست من ألمانيا، وبن روز إنجليزي، وكذلك هنري مور وأما بول دلفو فهو بلجيكي، وشجال روسي الجنسية وهكذا. . . هؤلاء يا سيدي الفاضل هم قادة الحركة. ومن السخرية أنه لا يوجد بينهم فرنسي واحد!! وليس للفن بلد يا صديقي. فلقد أخطأت عندما قلت فيما قلته: (وأظن أن الحركات الفنية لا تنتقل بمثل هذه السهولة من قطر إلى آخر. . . دعك من حديث الشخصية والإلهام. . .)

وعلى ذلك فهناك حركة مماثلة في كل من إنجلترا والمكسيك وبلجيكا والولايات المتحدة وهولاندا الخ. فهل ترى يا سيدي أنه من العيب أن تقوم بعض الصور المصرية مستندة أو متأثرة بمثل هذه المدرسة!. إننا نريد حضارة تسير مع العالم ولا نريد أن نقف حين يسير الجميع. ثم إني أنصحك أيضاً أن تقرأ في هذا الموضوع نفسه افتتاحية عدد يناير 1939 من مجلة لتعرف بنفسك في صمت أنك بعيد عن فهم هذه المدرسة

هل رأيت يا سيدي (عروسة المولد الحلاوة) ذات الأيدي الأربع؟ هل رأيت عرائس القراقوز الصغيرة؟ وهل سمعت قصص أم الشعور والشاطر حسن وغيرها من الأدب الشعبي المحلي. . . كل ذلك يا سيدي سيرياليزم

هل رأيت المتحف المصري. . . كثير من الفن الفرعوني سيرياليزم

هل رأيت المتحف القبطي. . . كثير من الفن القبطي سيرياليزم. إننا لا نقلد المدارس الأجنبية بل نخلق فناً نشأ من تربة هذه البلاد السمراء وتمشى في الدماء من يوم كنا نعيش بتفكيرنا المطلق حتى هذه الساعة يا صديقي

تقول يا سيدي إن هذه الحركة الفرنسية كما زعمت (باعثها الأول نظريات العالم سيجموند فرويد). هذا كلام عام فيه كثير من التهويل واستدرار التصفيق من أيدي الجمهور - إن كان الجمهور عماده الجهل - بدون حق. هذا كلام بعيد عن التحليل الدقيق، ففرويد له قيمته عندهم وعند كل العالم الحر الطلق الديمقراطي النظيف في فكره وتفكيره. وهل هي جريمة يا سيدي أن يدخل التحليل المبني على أساس نظريات فرويد في التصوير كما هو كائن في الأدب والشعر في بلدنا هذا وهو بلد حر ديمقراطي؟ وليست مصر حتى الآن قطعة من ألمانيا ولم تستعمر إيطاليا بلدنا بعد حتى تحرق مؤلفات فرويد في الميادين العامة بين صيحات الفرح والوحشية. . .! لا يا سيدي ما زالت مصر ديمقراطية وتأثرك بالفكر الفاشي والنازي بنظرتك هذه إلى فننا يجب أن تكبتها وترى لنفسك الطريق القويم. . . هل تعلم يا سيدي أن صور محمود بك سعيد كبير المصورين كلها فرويدية وأن معظم كتابات الأستاذ محمود تيمور بك وتوفيق الحكيم وغيرهما كذلك

ليس لمجرد استناد فننا إلى نظريات فرويد - لو كان في ذلك بعض الصواب عند بعضنا - ما يدعوك لدعوة مثل هذا الفن بالانحطاط بأعلى صوتك؛ أنصحك هنا يا سيدي أن تعرف قبل أن تكتب هذا علاقة هذه الصور بالعلامة سيجموند فرويد. إني أدلك على هذه العلاقة في فصل ممتع بكتاب & للنقادة أو ارجع إلى ما كتبه السيرياليست الإنجليزي في أعداد عن ذلك أخيراً

لقد ذكرت فيما نقلت من مقالك لتستشهد به كلمة (الكتابة الآلية) فهل تدري يا سيدي أن هذه الكتابة الآلية قد ولت وذهب زمانها الآن. إن الشيء الحي يتجدد دائماً من تلقاء نفسه. ولا داعي للاستشهاد اليوم يا صديقي بشيء عرفت عنه شيئاً الآن فقط بعد أن تركه أصحابه بالصورة التي عرفته عليها. هل قرأت يا سيدي الأستاذ ما هو السيرياليزم؟ ? واثق أنك لم تقرأه وإلا لما استشهدت بقوله الذي ذكرته اليوم وإن كان قد قاله منذ سنوات عدة والذي لم تذكر ما قدم له به وما ذكره بعد ذلك. ربما تجد إحدى الصور التي قد تسرك يا سيدي في محاضرة قالها الشاعر المصري بالفرنسية جورج حنين عضو الجماعة نشرتها له مجلة التي تصدر بالقاهرة عدد أكتوبر 1937

وأخيراً هل تعلم يا سيدي أن زعيم النقد في مصر أحمد بك راسم وهو رجل له رأيه في الفن منذ كتب للفن أن يظهر في مصر قد تكلم عن ثلاثة من أعضاء هذه الجماعة من المصورين في عدة مقالات ذكر في آخرها بالأهرام 17 سبتمبر سنة 1938 وبالبلاغ 15 أكتوبر سنة 1938 تأثير الفن الشعبي والفن الشرقي في فنون هؤلاء الفنانين وهم الأستاذان كمال وليم وفتحي البكري وكاتب هذه السطور. إن بعض الأعضاء في هذه الجماعة مثل أبو خليل لطفي وحسين يوسف أمين قد بلغوا بفنهم درجة ثقافية عالية بالفن الشعبي المحلي في فنهم خيال وفكر شخصي لا دخل للسيرياليزم فيه وإن كان به ما بالسيرياليزم من بعض الصلات والأصول خصوصاً في الصور الحفرية التي يعملها المثال أبو خليل لطفي. أما صور الأستاذ يوسف العفيفي وفؤاد كامل فهي تخرج من القلب تواً ومن أعصابهما ودمائهما تتكون خطوطهما، وفن كليهما شخصي محض ليس لغيرهما صلة مباشرة به عن قرب أو عن بعد. إني أحب أن أجيبك هنا بما أجاب به أستاذنا يوسف العفيفي أحد النقاد المعارضين لنظريته يوماً إذ قال له: (إن السيرياليزم ما هو إلا الاسم العلمي الحديث لما نسميه نحن: الخيال. حرية التعبير. حرية الأسلوب، والشرق منذ الأزل موطن كل هذا)

وليس لنا عودة بعد هذا. ولعل فيما ذكرت وأوردت في إيجاز ما يدعو قراء الرسالة الأفاضل لقراءة بعض هؤلاء الكتاب والنقاد

كامل التلمساني

عضو جماعة الفن والحرية