مجلة الرسالة/العدد 321/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 321/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 08 - 1939



دراسات في الفن

الزعامة فن

على ذكرى الزعيم سعد

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

ما دام الفن هو التعبير عن الإحساس، وما دامت الزعامة هي التعبير عن إحساس الجمهور، فالزعامة إذن فن، بل إنها فن عريض.

فكيف كانت الزعامة تعبيراً عن إحساس الجمهور؟

إذا نظرنا إلى المجتمعات البدائية رأينا هذه المجتمعات تحس الخوف من الطبيعة؛ فهي تستعد للحرب في كل لحظة، وهي إما أن تعد لهذه الحرب سلاحاً، وإما أن تعتمد فيها على القوة البدنية وحدها. ولكنها على أي حال من الحالين تأخذ أهبتها المادية لتقاوم بها أحداث الحياة. فإذا نظرنا إلى الزعماء في هذه البيئات رأيناهم أشد الناس تعبيراً عن هذا الإحساس المركب الذي يبدأ بالخوف وينتهي بيقظة القوة البدنية. فهم أشد الذين في هذه المجتمعات حذراً على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم، وهم أشدهم انتباهاً للخطر إذا ادلهم، وهم أشدهم مقاومة لهذا الخطر، وهم أشدهم قدرة على قهره، وهم إلى هذا أشد الذين في هذه المجتمعات استكمالاً لمميزاتها الملحوظة فيها حتى لا يكون الزعيم منهم عرضة لهجوم عاص من شعبه قادر على وخزه في إحدى نواحيه الضعيفة فيه بينما يكره الواحد من جمهوره أن تكون ضعيفة فيه. فإذا كان من مميزات جمهور أحدهم السرعة في الجري إلى جانب ما يهتم به الجمهور من تنمية القوة البدنية وجب على الزعيم أن يكون سريع الجري إلى جانب الذي امتاز به على الجمهور من قوته البدنية، وإذا كان من مميزات جمهور أحدهم الخفة في تسلق الأشجار، وجب على الزعيم أن يكون خفيفاً في تسلق الأشجار إلى جانب الذي امتاز به على الجمهور من قوته البدنية. وهكذا.

فإذا تركنا البيئات البدائية رأينا نظرتنا هذه تصدق في كل الحالات: في البيئات الزراعية، وفي البيئات الصناعية، وفي البيئات الاجتماعية المختلفة، وبقدر ما تتسع هذه البيئات وتضيق تتسع الزعامة فيها وتضيق. فهناك زعامة للجنس البشري كله هي زعامة الأنبياء والرسل الذين فاضوا بالهدى على الخلق جميعاً، وهؤلاء زعامتهم تخلد بعد ذهابهم عن هذه الحياة الدنيا، وفي هذا تعويض للحصر الذي تلقاه زعامتهم في حياتهم. وهناك زعامة لجنس من الأجناس البشرية كزعامة موسى الذي يريد هتلر أن يرد عليها اليوم بزعامته الآرية. وقد تدوم هذه الزعامة بدوام الجنس إذا ظل الجنس متشبثاً بأنانية الطفولة وغرورها. وهناك زعامة لجماعة من جنس بشري يسكنون أرضاً ما، وهي الزعامة الوطنية كزعامة سعد زغلول، وهي تدوم ما دامت دواعيها وما ذكرها الذاكرون بعد زوال هذه الدواعي، وكثيراً ما تزول هذه الدواعي، لأن مشكلات الوطن كثيرة التقلب

ونحن إذا حسبنا عدد المرات التي استدعت فيها طبيعة التطور والارتقاء الروحيين وجود رسالات إنسانية عامة وجدناه أقل من عدد المرات التي استدعت فيها هذه الطبيعة وجود رسالات خاصة بحيث نستطيع أن نتصور التطور والارتقاء جاريين في موجات صغيرة، وهذه تجري في موجات كبيرة. وكأن الموجات الصغيرة هي موجات التطور، وكأن الموجات الكبيرة هي موجات الارتقاء. . .

وهذا شيء لا يستغرب؛ فنحن إذا تسللنا إلى نهاية التخصيص في البيئات الاجتماعية الإنسانية حتى نذهب إلى مجتمعات الصبيان في الحواري والفصول، وإلى مجتمعات الشبان في النوادي والحقول، وإلى مجتمعات النساء في الشوارع والبيوت، وإلى مجتمعات الرجال في الأكواخ وفي القصور، وجدنا لكل جماعة من هذه الجماعات زعيماً، فإذا أحصينا عدد هؤلاء الزعماء استطعنا أن نؤلف منهم في كل وطن ألف برلمان تؤيد الزعيم

وعلى هذا كانت أغلى الزعامات هي أندرها، ولا بد أن تكون اشدها تطابقاً على نظم الطبيعة، لأن نظم الطبيعة هي العامة وهي الثابتة، ومراعاة تطورها وارتقائها يجب أن تلحظ في هذا التطابق. وهذه الزعامة لم تتحقق على أشمل الوجوه إلا في حالة واحدة هي زعامة النبي الرسول محمد (ص)

وإذا استسغنا بعد هذا القول بأن الزعامة فن تخلقه الطبيعة في نفس الزعيم كما تخلق الألحان والأنغام في نفس الموسيقي، وكما تخلق المعاني والأخيلة في نفس الشاعر، فإننا لن نستبعد أن تكون قد تعرضت للصناعة مثلما تعرض لها غيرها من الفنون. وقد تجمل الصناعة الزعيم إذا كان رائدها التحسين والتجديد. وقد تتلف الصناعة الزعامة إذا حادت بها عن اتجاهها الطبيعي إلى اتجاه آخر كالرغبة في الجاه، أو الرغبة في المنفعة، وهذا هو ما يحدث للفنون جميعاً من موسيقى وشعر وتمثيل ورقص وتصوير وغير ذلك

ولما كان أغلب المجتمعات البشرية اليوم قد تعلم القراءة والكتابة، ولما كان من المحتم أن يكون الزعيم في كل مجتمع من هذه المجتمعات قارئاً كاتباً، فإن الزعماء في هذه الأيام يقرءون ويكتبون: الزعماء السياسيون، والزعماء الفنانون - أي الذين يمارسون الفنون الجميلة - والزعماء الماديون، والزعماء جميعاً. وهم يقرءون فيما يقرءون تواريخ الزعماء السابقين، وبهذه القراءة يستطيع الزعيم الضعيف في ناحية من النواحي أن يقويها، أو أن يغطيها أو أن يدعيها. . . وما دام باب الادعاء قد فتح مع غيره من أبواب التصنع، فقد أصبح من الميسور في هذه الأيام أن يدعي الزعامة في أي ناحية من نواحي الحياة مدع ليس بزعيم.

فكيف يستطيع الإنسان في هذا العصر إذن أن يحكم على الزعيم بأنه زعيم حقاً، أو أنه قد استطاع أن يجعل نفسه زعيماً لأنه زعيم، ولكن في نوع من أنواع التفكير، وقد كان المجتمع في حاجة إلى زعيم في الإحساس والتعبير عن هذا الإحساس، وما يصحب هذا التعبير من جهاد؟

نستطيع أن نصل إلى هذا الحكم العادل إذا نحن راجعنا إحساس المجتمع، وراجعنا ما يجب أن يكون التعبير به عن هذا الإحساس، وراجعنا إلى جانب هذا إحساس الزعيم وتعبيره عنه وطابقنا هذا على ذاك. . . فإذا انطبق وكان الزعيم بعد ذلك سائراً بشعبه إلى ما يؤمله فهو زعيم، وإلا فهو ذاك المفكر الذي ذكرناه

وهذا هو ما يسمى في الفن بالطابع. فأشد الفنانين تمكناً من الفن عند جمهور من الجماهير هو أشد الفنانين تمكناً من طابع هذا الجمهور الذي يطبعه ويميزه من غيره من الجماهير

وقد اتفقنا في أحاديث سابقة على أن الفنون تسعى بالبشرية متجمعة أو متجزئة في طريق التطور والارتقاء، والزعامة كذلك مادامت فناً، وأشرفها إذن ما كان أكثرها تقريباً للمستقبل من الحاضر

ومن الزعامة ما تكون لحالة طارئة، تزول بزوال هذا الحادث أو تدوم - إذا دامت - حتى يسحب ذيوله. وقد يحدث أن ينزع جمهور من الجماهير إلى أن يتناسى زعيماً من زعمائه في حياته بينما هو لم ينحرف عن جادته فيستغرب الزعيم هذا ويستغربه معه آخرون، ولا يكون لهذا من سبب إلا أن زعامة الزعيم كانت طارئة استدعاها حادث طارئ. ومثال هذى زعامة هندنبرج التي أبقاها عليه هتلر في السنوات الأخيرة من حياته بينما كان الشعب يريد أن يحل زعامة هتلر محلها لأنه رأى نفسه يحس شيئاً جديداً زيادة على النزعة الحربية التي كانت تعبر عنها زعامة هندنبرج، ولأنه رأى هتلر يعبر عن هذا الإحساس. ولم يقل أحد إن هندنبرج كان قد فقد شيئاً من مميزاته الشخصية إلى آخر يوم من أيام صحته، وإنما الذي حدث هو أن الحادث الذي تزعم له هندنبرج ألمانيا لم يصبر حتى تنتهي حياة هندنبرج ليسحب بعدها ذيوله. . . وذلك الحادث هو الحرب الماضية وآخر ذيولها الذي سحبته عن ألمانيا هو الرضى الذي خنعت به السنوات الطويلة أمام شروط الصلح وما كان فيها من روح التشفي والانتقام. وهناك زعامات ماتت في حياة أصحابها ولم تجد من يحفظها عليهم

ومن الزعامة ما يكون قريباً يلحقه جمهوره بسهولة فلا يعود يحفل به إلا كما يحفل المرء بهدف قريب وأصابه. وقد يتقي الزعيم من هؤلاء الزعماء كما يتقي الزعيم من السابقين زعماء الطوارئ شرّ هذا الركود الذي يصيب زعامته لزوال الطارئ أو لضآلة الزعامة، وهو يتقي هذا الركود باختلاق الحوادث في الحالة الأولى وبفلسفة الزعامة وتعقيدها في الحالة الثانية حتى يظن الجمهور أن وراء قبة الزعيم شيخاً فيتابعه ويظل يتابعه وهو لا يدري إلى أين يسير به زعيمه. ولعل المثل الصالح للزعيم الذي ينطبق عليه هذان الوصفان معاً هو نابليون، فقد ظل يأكل عقول الفرنسيين ويسحرهم حتى نفى ونفيت معه فرنسا من مجتمع الدول ذوات الحول والرأي النافذ، وقد يكون موسوليني من بين الزعماء الأحياء الذين يشبهون نابليون في هذا

وإذا كنا نحن اليوم وعلى البعد نستطيع بغير تحرج وبغير تهيب أن نقرر هذه الحقائق وأن نصف هؤلاء الزعماء بهذه الأوصاف فإن أحداً ممن كانوا في متناول أيديهم لم يكن ليجرؤ على شيء من هذا، لا خشية من هؤلاء الزعماء أنفسهم، فالأرجح أن فيهم من الحكمة ما يوسع صدورهم للنقد الحق على الأقل، بل خوفاً من جماهير هؤلاء الزعماء. فإنهم يكرهون أشد الكراهية أن ينقد زعماؤهم بالباطل أو بالحق، لأنهم في العادة يقيمون من هؤلاء الزعماء أوثاناً تمثل أعز أمانيهم في الحياة، وهم لهذا لا يحبون أن يخدش أحد زعماؤهم ما دام هذا الخدش يصيب أمانيهم العزيزة الغالية في أجسادهم. وهذا واضح اليوم في الترك الذين يتعصبون لمصطفى كمال تعصباً أعمى لا روية فيه، كما أنه واضح في شعبي هتلر وموسوليني، وكما أنه واضح في جماهير المعجبين بالفنانين المشهورين، فقد يقبل الفنان النقد يوجه إليه من ناقد صادق، بينما جمهور هذا الفنان لا يحب أن يلتفت إلى عيب فيه

هذا إذا كان الزعيم فناناً من هواة الحق ولم يكن مهرجاً. أما إذا لم يكن من أصحاب الحق فهو كأدنى فرد من أفراد الجمهور الأعمى يحب الشقشقة ويحب الطنطنة

والزعيم الفنان (يتكون) كما تقدم في أول هذا الحديث بطريقة طبيعية هي طريقة الانتخاب، ولكنه ليس انتخاب الأصوات، وإنما هو انتخاب الضمائر، بحيث لو نزع من مكانه وأحل محله غيره لظهر هذا الجديد وفيه النقص والشذوذ والتكلف

وتستطيع المجتمعات أن تساعد الطبيعة في تكوين الزعماء: كما أنها تستطيع أن تعرقل هذا التكوين؛ وهي تساعد على تكوينه بأن تتزود من الإحساس الداعي إلى التعبير عنه أو الذي تريد أن تعبر عنه، وبكثرة المحاولة في التعبير عنه، وهي تساعد على عرقلته بإهمال هذا الإحساس، وإهمال التعبير عنه

والأصل أن يحدث هذا بدافع من الطبيعة وحدها. ولكن إذا مست حاجة الشعب إلى الزعيم القائد وانتبه عقله إلى هذا، فإنه يستطيع أن ينتج زعيما باصطناع هذه الطريقة التي رسمتها الطبيعة لإنتاج الزعيم ما دام بين أفراده من يصلح بطبعه لأن يكون زعيماً. ولعل هذا الذي تحاوله مصر الآن، فلا ريب أن فيها حركة يقوم بها بعض الأفراد يريدون من رائها أن يتيقظ الجمهور المصري فيرهف حسه للحياة، فيرجح بعد ذلك أن يعبر الجمهور عن إحساسه بلسان زعيم لا نزال ننتظره منذ مات سعد زغلول

ولا ريب أن الزعيم المصري المنتظر يختلف اختلافاً كبيراً عن سعد زغلول، فقد كانت حال المصريين التي استدعت زعامة حالاً لا تملك إلا أن تهتف أو أن تثور متخبطة في ثورتها، ثم أن تهدأ بعد ذلك حتى تستجمع قوتها لتهتف وتثور من جديد. وقد كانت زعامة سعد تصور هذه الحال في خطبه الرنانة، وفي بياناته الطنانة، وفي نكاته اللاذعة القاسية التي كان يلقي بها تلطم ما يعترض زعامته أو ما يقاوم اتجاهها الذي تقود فيه جمهورها.

أما الزعيم المنتظر فهو الذي سيكون إحساسه أشد من إحساس المصريين بالحال الذي نحن فيه، الذي سيكون أشد المصريين تعبيراً عن هذا الإحساس، وأشدهم مقاومة لدواعي الشر فيه، وأشدهم إلهاباً لدواعي الخير فيه.

والحال الذي نحن فيه الآن يغلب عليه الجهل والجوع والضعف والحيرة، فزعيم المستقبل إذن هو الذي سينقذنا من هذا كله، والذي سيعيد إلينا مصريتنا ناصعة معتزة بكل مفاخر الفراعنة والعرب والإسلام، وهو الذي تحاول الأزمات المتعاقبة على الوطن في هذه الحقبة من الزمن أن تتمخض عنه.

وإننا نرجو الله أن توفق مصر في زعيمها الجديد كما وفقت في زعيمها الراحل. فالحق أنه لم يكن من الممكن أن يكون لمصر زعيم أفضل في صفاته الشعبية من سعد زغلول في ظروف زعامته. وقد أثمرت هذه الزعامة ثمرتها الطبيعية وهي هذه الحال التي نحن فيها الآن، والتي زاد فيها إحساسنا بالحياة، وزادت فيها قوة تعبيرنا عن هذا الإحساس، وزادت فيها محاولتنا إلى بلوغ أمانينا. . .

فمن هو الزعيم الذي سينبعث منا؟. . . لا ندري

ومتى ينبعث؟. . . لا ندري أيضاً. . . فقد يتدرج الزعيم في الظهور إذا لم تتحرج الحياة فيظهر فجأة

ومهما قيل إننا ارتقينا على يدي سعد، فإننا لا نزال على مقربة من عهده، فالزعيم الجديد ستكون فيه من سعد صفات هي ترديد ما لا يزال مضمراً في نفس الشعب المصري من الإحساس منذ أيام سعد، وهي صدى هذا الإحساس المضمر وترجمته. فلا بد أن يكون الزعيم المقبل خطيباً إذا جاء قريباً لأن الخطابة هي التي يجمع بها الزعيم أشتات الأحاديث والأماني التي يرددها الجمهور فيما بين أفراده، وإن شعبنا لما يصل من الرقي إلى حيث يمكن أن يظهر فيه زعيم صامت أو قليل الكلام فإذا كان هناك زعيم في الخفاء اليوم ولم يكن خطيباً لأنه أرقى من مستوى الشعب، فإنه يستطيع أن يتدرب على الخطابة فإن لها صنعة، وصنعتها تجوز على الجماهير

وعندما يهون أمر الخطابة فلا تكون من عماد الزعامة في الشعب المصري فإنه سيكون قد بلغ من الرقي مبلغاً يقف به إلى جانب الإنجليز الذين يقودهم المجربون والنافعون.

عزيز أحمد فهمي