مجلة الرسالة/العدد 321/من هنا ومن هناك

مجلة الرسالة/العدد 321/من هنا ومن هناك

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 08 - 1939



لو كنت يهودياً

(ملخصة عن مقال (للمهاتما غاندي))

كل عواطفي تتجه نحو اليهود، فقد توشجت بيني وبينهم أواصر المودة أيام إقامتي بجنوب أفريقيا، وصار لي بعضهم أصدقاء مدى العمر، فأتيح لي أن أعرف كثيراً عن هذا الاضطهاد الأبدي الذي يعانيه اليهود عن طريق هؤلاء الأصدقاء.

إنهم المنبوذون في المسيحية. ولقد أرى وجه الشبه يتقارب كثيراً بين المعاملة التي يعاملهم بها المسيحيون، والمعاملة التي يعامل بها الهندوس طائفة المنبوذين. فقد كان الدين هو الذريعة التي ارتكبت باسمها تلك المعاملات الهمجية التي تعانيها الطائفتان. فإذا وضعت تلك الصداقة جانباً، ونظرت إلى الأمر من ناحيته العامة وجدت عواطفي جميعها تتجه نحو اليهود

إن المبادئ السامية تقضي بان يعامل اليهود كغيرهم من خلق الله أينما ولدوا وحيثما نشأوا فاليهود الذين يولدون في فرنسا فرنسيون ولا شك، كما أن المسيحيين الذين يولدون في فرنسا فرنسيون. فإذا اتخذ اليهود فلسطين وطناً لهم، هل معنى ذلك أنهم يستمرئون فكرة إخراجهم مقهورين من ديارهم؟ أو أنهم يريدون أن يكون لهم وطنان يعيشون فيهما كيف يشاءون؟ إن تلك الصرخة في طلب الوطن القومي تعطي الألمان حجة براقة اللون لطرد اليهود

إن اضطهاد الألمان لليهود على أي وجه نظرنا إليه، يلوح لنا أنه منقطع النظير في تاريخ العالم. إن المظالم الغابرة لم تصل في يوم من الأيام إلى ذلك الجنون الذي اندفع هتلر إليه! وإنه ليندفع إليه بعامل ديني، إذ انه يدعو إلى دين جديد من الوطنية قوامه الطرد والمحاربة. فباسم الدين تعد هذه الأعمال المنافية للإنسانية، من الأعمال الإنسانية التي يجازى مرتكبوها في الدنيا والآخرة خير الجزاء

إذا كانت في الحياة حرب عادلة تقوم باسم الإنسانية، فالحرب ضد ألمانيا واجبة لمنعها من اضطهاد عنصر بحاله من بني الإنسان. ولكنني لا اعتقد في الحرب بحال من الأحوال، إن ألمانيا تلبس الباطل ثوب الحق، والهمجية ثوب الإنسانية. فهل يحتمل اليهود هذا الاضطهاد الغريب؟ ألا يوجد سبيل للاحتفاظ بالكرامة والشعور بشيء غير الضعف والإهمال والخذلان؟

إنني أقر هنا بأنهم لا يعدمون هذا السبيل. إن إنساناً يعتقد في وجود الله يجب ألا يشعر بالعجز والخذلان. إن اليهود كالمسيحيين والمسلمين والهنود في اعتقادهم بوحدانية الله، إلا أنهم يشخصونه ويعتقدون أنه يتولى جميع أعمالهم فما أجدرهم بألا يشعروا بأنهم بغير نصير

لو كنت يهودياً مولوداً في ألمانيا وكنت أحصل رزقي بها، لصرخت في وجه أقوى رجالها: (إن ألمانيا وطني ولا أخرج منها ولو قطعت أوصالي، أو ألقى بي من حالق). ولرفضت أن اطرد منها أو أخضع لأي نوع من أنواع الاضطهاد بها، ولا انتظر رفقائي اليهود ليصحبوني إلى عصيان مدني، ولكني سأكون على ثقة بأنهم سيحذون حذوي في النهاية

لقد نجح الهنود في حركة العصيان المدني في جنوب أفريقيا، وكانوا يقفون ذلك الموقف الذي يقفه اليهود الآن. بل إن مركز اليهود في ألمانيا خير من مركز الهنود في جنوب أفريقيا. إنهم أكثر ذكاء وأقوى استعداداً من هنود جنوب أفريقيا، وفضلاً عن ذلك، فقد أوجدوا خلفهم سنداً من الرأي العام في أنحاء العالم

إنهم إذن جديرون أن يقفوا رجالاً ونساء ذلك الموقف الحازم معتمدين على قوة الله الذي سيعينهم ولا شك على احتمال الشدائد، وإنهم بذلك ليرفعون من شأن ألمانيا ويبرهنون على أنهم أبناؤها الجديرون بهذا الاسم، لا هؤلاء الذين يسيرون باسمها وسمعتها نحو الهاوية. . .

ولايات متحدة عالمية

(عن مقال (للمركيز أوف لوثيان))

جرب العالم في ربع القرن الأخير كل رأي في سبيل منع الحروب. ففي عام 1918 بدأت محاولات جدية لإنقاذ العالم من الأوتقراطية ونشر مبادئ السلم والحرية. ثم أعقب ذلك محاولة عصبة الأمم، ثم ميثاق كلوج فاتفاق عدم التسلح. فلما انتهت تلك الآراء بالخيبة وأخذ شبح الحرب يلوح ثانية للعالم، أقبلت بعض الأمم تفكر في حماية نفسها من الحرب، فعاد بعضها إلى التسلح، وتذرع بعضها بالتحالف، وآثر بعضها الوحدة ونظام الحياد الدقيق. ولكن شيئاً من ذلك لم يفلح لوقاية العالم من الحرب، وإن كانت كل أمة من هذه الأمم تعتقد تمام الاعتقاد بأن الحرب إذا اندلع لهيبها - ولا يستطيع أحد أن يقول إن هذا أمر بعيد الوقوع - فسوف لا تنتهي إلا وهي على حافة الدمار

إن فكرة السيادة الدولية هي أهم أسباب الحرب. فمن أجل السيادة يقضي على العالم الإنساني بأن يعيش تحت عوامل الفوضى وإذا كانت هناك أسباب أخر لاشك فيها لإثارة نيران الحرب كالخوف والطمع والزهد والتعصب للعنصر، إلا أن هذه الفوضى. هي التي تشعل نيران تلك الشرور، وتجعلها أمراً لا مفر منه، فلا تلبث أن تؤدي إلى الحرب عاجلاً أو آجلاً، كما هو الشأن منذ سقوط آخر نظام عالمي وهو نظام الإمبراطورية الرومانية. لذلك تقع الحرب بين الأمم ذات السيادة فحسب، أو الأمم التي تسعى وراء السيادة. والسيادة تجعل المنافسة على التسليح أمراً لا معدي عنه، وتضحي بالأخلاق في سبيل النفوذ السياسي، وتسوق الأمم القوية إلى الاستعمار والضعيفة إلى طلب الاستقلال، وتقضي على فكرة التعاون التجاري بين الدول، وتزيد في عدد العمال المتعطلين بزيادة التعريفة الجمركية وغيرها من العوائق، وتزعزع الحالة المالية والاقتصادية، وتقضي على حقوق الفرد، وتحيل الأمم وهي في طريقها الذي لا آخر له في طلب الأمن بالقوى الحربية - إلى مجرد ولايات للرق والاستعباد

إن العلاج الوحيد للحرب هو الاتحاد الذي ينطوي على القضاء التام على فكرة السيادة الدولية، سواء اتخذت مظهر القوة كما يرى الاشتراكيون والفاشست، أو اتخذت صفة التحالف الديمقراطي. فكل اتفاق يؤول في النهاية إلى السيادة سيكون نصيبه أن يفشل تماماً كما فشل في الولايات المتحدة ما بين سنة (1881 - 1889) إذ أن الداء الكمين الذي يسبب الحرب لم تستأصل جذوره

يجب أن نختار بين الحرب، والسعي المتواصل وراء السيادة الدولية، مع ما في ذلك من القضاء على السلم وحرية الفرد، وبين الرجوع إلى فكرة حقوق الإنسان القائمة على اتحاد الشعوب تحت نظام إقطاعي كالذي تسير عليه أمريكا الآن إذا كان للحرية أن تعيش، وللسلم أن يقوم على دعائم ثابتة.

الله وشفاء الإنسان

(عن مجلة (ساينس أوف ثوت))

قد يتساءل الإنسان وهو يعرض لفكرة الحرب، ويفكر في الشقاء والبلايا التي تعترض الإنسانية في هذه الحياة: (كيف يرضى الله لعبيده هذه الحال؟) هذا السؤال وأمثاله يخطر ببال كثير من الناس. وهم إذ يفكرون هذا التفكير لا يريدون أن ينظروا إلى الحياة على وجوهها المختلفة المتعددة الجوانب، مسوقين إلى آراء واهية الأساس لا تنتج عادة غير الزيف. فنحن نظن أن عقيدتنا في الله والمسيح كافية لإصلاح كل شأن وقضاء كل مأرب مع ما نراه من البؤس الذي يعانيه كثير من المؤمنين المخلصين في إيمانهم، لا فرق بينهم وبين غيرهم ممن لا يؤمنون بشيء. ومثل بسيط كاف لحل هذا اللغز، وإفهامنا الحقيقة التي توجب ذلك

إن مجرد الإيمان بالفن لا يجعلنا من رجال الفن. فمن الواجب إذن إن نصبح فنانين. وعند ذلك يخلق في نفوسنا ذلك الشعور الداخلي الذي يخالط حياتنا ويجعلنا نعيش للتعبير عن الفن

وكذلك نستطيع إن نقول إن مجرد الاعتقاد في الله والمسيح لا يؤدي إلى ما تنشده نفوسنا، ما لم نكن مسيحيين كالمسيح، فيخلق في نفوسنا ذلك الشعور الداخلي الذي يمازجها ويجعلنا نحيا للتعبير عن قدسية هذا الشعور

فكما يعبر الموسيقي عن الأعمال الخالدة التي يضعها كبار الموسيقيين، نعبر عن الله العظيم ونترجم عن روحه

لقد وهبنا الله الحرية. وإن شقاء الحياة لمن الدلائل القائمة على ذلك. والحياة تسيرها حركة باطنة، وكل منا يملك في نفسه تلك القوة الخالقة التي تسير الحياة. فهذه القوة وذلك النشاط هما المادة التي تخلق فينا أسمى مظاهر الحياة

إن كل ما يحرزه الإنسان من التقدم في الحياة، يرجع الفضل فيه إلى القوة الباطنة: فهي التي تسمو بطبيعته وتهبها العمق والاتساع.

والفرق بين الناس يرجع إلى الباطن دائماً، فقد كان السيد المسيح لحماً ودماً في ظاهره، ولكنه في الباطن كان متصلاً بالسموات والأرض. لقد خلقنا الله لنعيش كما يعيش الفنان المعبر عن الفن، وأمدنا بالروح والقوة والنشاط والحركة، ووهبنا القدرة على الاختيار، والحرية، وخلق فينا حياتنا الباطنة، فلسنا إذن آلات متحركة. إلا أن الحرية لا تسير بغير نظام. وإطاعة هذا النظام لا تفقدنا الحرية. فالحركة والنشاط والمادة والعمل والنجاح يجب أن تسير جميعها على نظام خاص.

والفرق بين الخضوع لقانون الفنان المعبر، والخضوع لقانون الإله، هو حرية الاختيار في الحالة الأولى - بمعنى وعي حقائق الأمور - والإجبار الذي لا اختيار فيه في الحالة الثانية. وما دام الله قد خلقنا لنكون الفنانين المعبرين عن جلاله، وجعلنا أحراراً في الحياة، فالحرية إذن سنة الله، وهو بقدرته يحمي هذه الحرية. فإذا خضعنا للقانون حمى نفوسنا وحفظ حريتنا. وإذا عارضنا ذلك القانون، عارضنا حريتنا، وخضعنا لقانون الآلة الصماء

فعدم تنفيذ إرادة الخالق يقضي على حريتنا، إذ يساء استعمال الحركة والنشاط والمادة والتقدم، وينحدر العالم إلى مهاوي الشقاء. . .