مجلة الرسالة/العدد 322/خليل مردم بك وكتابه في الشاعر الفرزدق
مجلة الرسالة/العدد 322/خليل مردم بك وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
يقول الأستاذ: (وقد يداخل (الفرزدق) في كلامه ويعاظل في تراكيبه، ويقدم ويؤخر ويتجوز في استعمال الوحشي والغريب والإقواء، وما هو أشبه باللحن؛ وذلك لثقته بنفسه واعتماده على سليقته ولقساوة في طبعه. قال كردين: (سقط الفرزدق شيء يمتحن الرجال فيه عقولهم حتى يستخرجوه). سمعه ابن أبي إسحاق الحضرمي مرة ينشد:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف
فقال له ابن أبي إسحاق: (على أي شيء ترفع أو مجلف؟ قال: على ما يسوءك وينوءك. . .)
والبيت (المجلف) من شواهد الكشاف في مكانين: (فشربوا منه إلا قليلاً منهم. وقرأ أبي والأعمش إلا قليل بالرفع، وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً، وهو باب جليل من علم العربية؛ فلما كان معنى فشربوا منه في معنى فلم يطيعوه حمل عليه كأنه قيل فلم يطيعون إلا قليل منهم، ونحوه قول الفرزدق (لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف) كأنه قال: (لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف) وقال في سورة طه: (قرء (فيسحتكم) والسحت لغة أهل الحجاز، والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم، ومنه قول الفرزدق (إلا مسحتاً أو مجلف) في بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه. . .)
وفي (الخصائص): (قولهم ودع الشيء يدع إذا سكن فاتدع متبوع متبع، وعليه أنشد بيت الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف
فمعنى لم يدع بكسر الدال لم يثبت، والعائد منها إليه محذوف للعلم بموضعه وتقديره لم يدع فيه، وهذا أمر ظاهر)
وأورد الأستاذ أمثلة مما أشار إليه كردين، وشغلت به الأئمة في القديم، وقد اجتزأنا نحن من تلك الدواهي بواحدة. . .
الفرزدق هو - كما قال الأستاذ - في (صحة اللغة وفصاحة الأسلوب) وقد رويت القول من قبل. وأشعار أبي فراس مبثوثة في كتب الأدب والتاريخ، وأبياته في المصنفات اللغوية هي من أوائل الشواهد. فلو رجع إليها الفاضل عبد الله الصاوي الذي (عني بجمع ديوان الفرزدق وطبعه والتعليق عليه) في شرح (الأوابد) في بيت الفرزدق:
لن تدركوا كرمي بلؤم أبيكم ... وأوابدي بتنحل الأشعار
ما كان قال: (شبه القصائد بأوابد الوحش). وأوابد الوحش نفرها، ومثل هذا الشرح يذل البيت ويزيغ القارئ - فلو رجع إلى اللسان والأساس لوجد الأول يقول: (يقال للشوارد من القوافي أوابد. قال الفرزدق: لن تدركوا. . . وقافية شرود غائرة سائرة في البلاد) ووجد الثاني يقول: (أوابد الشعر التي لا تشاكل جودة قال الفرزدق: لن تدركوا. . .) وفي الصحاح: (يقال للشوارد من القوافي أوابد قال الفرزدق: لن تدركوا. . .) وفي التاج: (الأوابد القوافي الشرد مجاز. قال الفرزدق: لن تدركوا. . .)
ولو رجع العلامة اللغوي المشهور الشيخ إبراهيم اليازجي إلى كتب الأدب واللغة ما كان قال في مجلته (الضياء) السنة (3) الصفحة 485 - : (قال الفرزدق:
والشيب ينهض في الشباب كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهارا
أراد بقوله يصيح صيغة المتعدي من قولهم انصاح القمر، فنقل المعنى إلى النهار كما قال البديع: فلما انصاح النهار بجانب ليلى، ثم استعمل منه متعدياً بتجريده من الزيادة، وهو غير منقول في هذا المعنى)
فلو رجع الشيخ إلى (إعجاز القرآن) للباقلاني و (ديوان المعاني) للعسكري و (حماسة البحتري) و (الأغاني) و (نثار الأزهار) لابن منظور صاحب اللسان، و (الكامل) للمبرد و (أساس البلاغة) و (لسان العرب) و (تاج العروس) لوجد في هذه الكتب كلها رواية البيت الصحيحة:
والشيب ينهض في السواد كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
ووجد في اللسان والتاج هذه الفائدة: (. . . عن أبي عبيده أن جعفر بن سليمان قدم عند المهدي فبعث إلى يونس بن حبيب فقال: إني وأمير المؤمنين اختلفنا في بيت الفرزدق وهو (والشيب) ما الليل والنهار؟ فقال الليل هو الليل المعروف وكذلك النهار فقال جعفر: زعم المهدي أن الليل فرخ الكروان والنهار فرخ الحباري. قال أبو عبيده القول ما قال يونس؛ وأما الذي ذكره المهدي فهو معروف في الغريب ولكن ليس هذا موضعه. قال ابن بري: قد ذكر أهل المعاني أن المعنى على ما قال يونس وإن كان لم يفسره تفسيراً شافياً، وإنه لما قال: (ليل يصيح بجانبيه نهار) فاستعار للنهار الصياح لأن النهار كان آخذاً في الإقبال والإقدام، والليل آخذ في الإدبار صار النهار كأنه هازم والليل مهزوم، ومن عادة الهازم أن يصيح على المهزوم. ألا ترى إلى قول الشماخ:
وألقتْ بأرجاء البسيطة ساطعاً ... من الصبح لما صاح بالليل نفّرا
فقال: (صاح بالليل حتى نفر وانهزم)
وبيت الفرزدق في قصيدة مشهورة ناقض بها قصيد لجرير مطلعها:
لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
وفي قصيدة الفرزدق هذه الأبيات:
إن الملامة مثل ما بكرت به ... من تحت ليلتها عليك نوار
وتقول: كيف يميل مثلك للصبا ... وعليك من سمة الحليم عذار؟!
والشيب ينهض في السواد كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
إن الشباب لرابح من باعه ... والشيب ليس لبائعيه تجار
فالفعل (يصيح) وماضيه (صاح) أي صات، و (نهار) مرفوع فاعل يصيح. وللشيخ اليازجي عجائب في نقد متقدمين وسنعود إلى تبيينها في وقت
في شعر الفرزدق ألفاظ كثيرة فاتت المعجمات التي نعرفها مثل اللسان والتاج وغيرهما. من ذلك (التظاليل والوهون) وقد وردت الأولى في قوله:
وظلماء من جرّا نوار سريتها ... وهاجرة دوّية ما أقيلها
جعلنا عليها دوننا من ثيابنا ... تظاليل حتى زال عنها أصيلها
وجاءت الثانية في قوله:
وحبْل الله حبلك من ينله ... فما لعُرى إليه من انفصام
فإني حامل رجلي ورحلي ... إليك على الوهون من العظام
والوهون من مصادر وهن وقد ذكروا الوهن بالسكون والحركة. وإني لأستبعد قصده الوهون بفتح الواو بمعنى الضعيف
وفي العربية ألوف من الألفاظ الجاهلية والإسلامية لم تجلبها كتب اللغة. وقد بينت هذا الأمر المهم في جريدة (البلاغ) المشهورة منذ خمسة أحوال في مقال عنوانه: (العربية، أحاديث فيها) حين أقمت في القاهرة - قبل المرابطة في هذا الثغر - وكنت أكتب (أحرر) في تلك الجريدة
لما تقدم الغربيون ونجم فيها العربانيون وأراد هؤلاء أن يخبروا الأمم العربية والإسلامية الخبرة البليغة ليخدموا دولاتهم في سياساتها أو لمآرب أخرى ذهبوا إلى مثل (الفرزدق) يستنطقونه ويستهدونه، والعالم العاقل لا يضل سبيله، ولا يخطئ حين يختار دليله. وأعمال العربانيين في هذا المعنى، شهرتها تغني عن الإفاضة فيها
ولما كانت المدنية العربية وهم عمرو بن بحر (الجاحظ) وعلي بن عبيده (الريحاني) وعلي بن محمد (أبو حيان التوحيدي) وحبيب بن أوس الطائي (أبو تمام) والوليد بن عبيد (البحتري) واحمد بن الحسين الكندي (المتنبي) ونظراؤهم، فلما عزم هؤلاء النابغون أن يحذقوا لغتهم، ويرصنوا أدبهم، بادروا إلى مدرسة (الفرزدق)، وجثوا بين يديه، وتأدبوا في العربية عليه، ومن صار إلى الينبوع العد ذي النمير السلسال وكرع فيه ارتوى، ومن سعى إلى منجم الألماس ومعدن الذهب رجع جذلان غنياً
وإني لموقن الإيقان التام أن الأمم العربية يوم ترتقي بعد ثلاث مائة سنة (إن شاء الله تعالى) ستحرث الجاهلية والإسلامية (الأموية) حرثاً، وستأصلها علماً أصلاً فلا تذر لفظة من ألفاظها - وإنها لكثيرة - شردت عن أصحاب المعجمات إلا اصطادتها، ولا خبراً مستعجماً إلا ابتحثته ووضحته، ولا ديواناً لكبير وصغير من الشعراء والشواعر إلا أظهرته. وستكرم دواوين لؤمت طبعاتها، وسود التجار الفجار (أو السماسرة) وجوههم عند الله بتشويه صفحاتها.
وستفتن علماء ذاك الزمان الآتي في التأليف في أدب الجاهلية والإسلامية افتناناً. وسيفضلون العربانيين والأئمة من العربيين السابقين (بذوق) حرمه الله الإفرنجي المستعرب أي حرمان، وبذرائع من الطباعة وغير الطباعة لم يحظ بها العالم العربي من قبل. وسيفهم أولئك المرتقون المتقدمون من مثل قول المأمون: (خير الكلام ما شاكل الزمان) ما لم يبد للمنتمين إلى الأدب العربي من العصريين، والمفقحون يجتلون ما لا يبصره المصأصئون لقد بعث الأستاذ المردمي (همام بن غالب) في هذا الوقت و (البعث) حق، و (الرجعة) عند قوم
إنه اليوم في القاهرة (الحاضرة اللغوية للأمم العربية) إنه الساعة في دار (الجامعة المصرية، جامعة فؤاد الأول) - رحمة الله على الملك العالم - وهاهو ذا يخطب (الدكاترة) والأساتذة والتلامذة وهم حافون به. إنه ليهدر بصوت ذي نهيم كنهيم الأسد، صيت صهصلق، وإنا لنسمعه يقول:
أنا همام بن غالب. أنا الفرزدق
أنا أستاذ (الخليل) و (الريحاني) وحبيب
وإنها العربية الجاهلية الإسلامية الأموية خادمة (الكتاب) والتي قد كونت هذا اللسان
إن الناطقين بالضاد في كل زمان ومكان إلينا لمفتقرون
أنا همام بن غالب وزميلاي جرير بن عطية وغياث بن غوث فالعلم كل العلم في أن تعرفونا وتعرفوا الإسلاميين والجاهليين، والجهل كل الجهل في أن تنكرونا
أنا الفرزدق!!
(تصفيق مشتد بدأ به الصديقان الأستاذ أحمد أمين والدكتور عبد الوهاب عزام، وتبعهما الأستاذ إبراهيم مصطفى وسائر الأساتذة والتلامذة)
حيا الله أديبنا الكبير الأستاذ المردمي وبيّاه بما أحيا لنا (الفرزدق) في هذا الزمان حتى يخطب في (الجامعة) خطبته، ويقول في الجاهلية والإسلامية مقالته، ويصدع بالحق. وقيل (الفرزدق) هو القيل:
إذا قالت حذامِ فأنصتوها ... فإن القول ما قالت حذام
هذه كلمات اقتبست من فضل الأستاذ المردمي، وطاقات اجتنيت من روض أدبه، أقدمها إليه إعجاباً وإجلالاً وتحية.
(الإسكندرية)
(* * *)