مجلة الرسالة/العدد 322/ذكرى
مجلة الرسالة/العدد 322/ذكرى
سوداء!. . .
للأستاذ أديب عباسي
أطل صاحبي بعد أن نقر على الباب نقرتين أو ثلاثاً ونادى:
- ماذا تنوي أن تصنع بيومك؟ أتريد أن تبقى حيث أنت أمام هذا الركام من الهذر والغثاء، أم تريد أن ترى الشمس قليلاً؟
فقلت: ولكن متى نستطيع أن ننظر في كل هذا الذي ترى إذا لم ننتفع بيوم عطلتنا هذا؟ أليس الأولى والأحزم أن ننقل الحمل مجزئاً بدل أن ندعه يربو ويتراكم فنعود غير قادرين على زحزحته بل نقله؟
هذه كانت حجتي في إيثار البقاء في المنزل؛ ولكن صاحبي أدرك أنني أقول بلساني خلاف ما تقوله عيناي، وأدرك أنني أود النجاة مما بين يدي على أي حال، ولهذا لم يرد علي أن قال:
- إنني أنتظرك في أدنى الشارع، فهو يوم من أيام الربيع التي لا تفوت. والوادي اليوم متحف من متاحف الطبيعة للزهر والعطر والخضرة والظل، ولا يفوت هذا اليوم إلا كل خامد الحس كافر بالسحر والجمال.
سرنا ساعة وبعض الساعة في خلال الوادي لا أستمع إلى حديث صاحبي ولا يستمع إلى حديثي إلا بعض سمعنا؛ فلقد كادت روعة الوادي في ذلك اليوم من أيام الربيع تعطل كل اتصال بين نفسينا وبين العالم الخارجي، إلا ما كان بينهما وبين هذه المائدة المثقلة بصوف الفتنة وألوان الجمال. ولم نثب إلى أنفسينا، مما سحرنا الوادي وشدهنا عن كل شيء سواه، إلا حينما رأيننا نخلف الوادي الخضيل وراءنا وننتهي إلى العراء. وعندها شعرنا بالتعب والعطش ينحطان علينا فجأة وفي غير إنذار. وقال أحدنا: هيا إلى تلك الدوحة نتفيأ ظلها إلى أن ينكسر سم النهار فنعود
ومكثنا في ظل تلك الدوحة ساعة ألح علينا بها العطش إلحاحاً شديداً، فقلت:
- ألا نقوم فنسير إلى النبع نزيل هذا العطش الذي يكاد ينسينا كل ما نلناه من لذة ومتاع؟
فأجاب صاحبي: - لا تنس أن بيننا وبين الماء ساعة كاملة من المسير وفي خلال هذه الساعة سيخف وهج النهار ويخف معه ما بنا من أوام، ولكن انظر: ألا ترى هذه السوداء؟ إنها قذرة، ولكن حبذا نهلة من جرتها الصغيرة!
أننزل إلى الطريق نلاقيها ونطلب أن تسقينا أم ندعوها إلينا وننفحها بقليل من القروش؟
فقلت: أعتقد أن من الأريحية ألا نكلفها الصعود إلينا، فلنقم نلاقيها ونكون أقل أنانية وخور عزيمة
وهممنا أن نقوم، وأخذ كل منا يعيث في جيوبه ليقدم للفتاة شيئاً مقابل ما سيشرب من جرتها ويضطرها إلى الرجوع وملئها من جديد. بيد أن الفتاة أبدت حركة اضطرتنا إلى البقاء، فقد أشارت إلينا بيدها أن امكثا، وأقبلت نحونا. فالتفت إلى صاحبي وقلت:
- ما معنى هذا؟ أتكون قد سمعت كلمتك القاسية فجاءت تعاقبك العقاب الذي أنت أهله؟
فقال: لا ادري، وإنما يجب أن نكون على حذر، وعلى كل فأنا لا أرى في وجهها شيئاً من الشر. وهبها أرادت أن تعاقبنا، فليس ثمة أكثر من أن تسكب على رأسي هذا الماء الذي تحمل، وهو كل ما أتمناه
فقلت: قد تسكب الفتاة الماء كما تتمنى، وقد تسكب الماء والجرة معاً. . . ولست ادري عندها أي الجرتين تكسر الأخرى، جرتك الفارغة هذه، أم جرتها الملأى؟
دنت الفتاة حتى غدت على قيد خطوات منا، وابتسمت ابتسامة خفيفة أزالت من نفس صاحبي ما ساوره من قلق، ثم حيت تحية طيبة وأنزلت جرتها عن رأسها وقالت بلطف: تفضلا
وتناول صاحبي الجرة وبدأ يشرب، وقبل أن ينتهي من شربه أمسكت الفتاة بالجرة وأزالتها عن فمه، فدمدم محتجاً وقال:
دعيني اشرب، إنني سأدفع ثمن الماء!
وابتسمت الفتاة مرة ثانية وقالت في شيء من المرارة والأسف:
- كم يخطئ الناس الحكم! إنني لم اضن عليك بالماء، ولكن لعلك لا تعلم أن الإسراف في الشرب في مثل حالتك من العطش الشديد يأتي بأوخم العواقب. . . هيا يا أخي اشرب (وأشارت إلي)، ولكن يحسن أن ترش يديك ووجهك بقليل من الماء قبل الشرب: إنني لم اكن أعلم أنكما بهذا المقدار من العطش وإلا لما سمحت لصاحبك أن يشرب قبل أن يغسل يديه ووجهه. . .
وبعد أن ارتوينا وغسلنا أيدينا ووجوهنا طلبت إلى الفتاة أن تجلس وتستريح، فاعتذرت بأدب ولطف وقالت: إن أخوي الصغيرين في مثل حالكما من العطش. فأرجو أن تسمحا لي بالرجوع لأملأ الجرة وأعود إليهما
فقلت بأسف: يؤلمنا أن نكون قد شربنا الماء الذي كان يجب أن يبرد عطش أخويك فلا تضطرين إلى الرجوع ومضاعفة الأمد الذي سيرتوي عنده أخواك
فأجابت الفتاة: لا بأس، إن أبناء الصحراء أكثر احتمالاً للعطش من أبناء المدينة ولو كانوا صغاراً كأخوي
وهنا سأل صاحبي وهو يداري أن تقع عين الفتاة في عينه: ولكن كيف عرفت أننا على هذا الحال من العطش فحدت عن الطريق وأتيت تسقيننا؟
فأجابت الفتاة ببساطة: سمعتك تتمنى لو تتاح لك شربة من جرتي فجئت!
فقال صاحبي بجزع ظاهر: أو سمعت ما قلته إذاً؟ فأجابت: نعم، سمعته. فقال: أسمعته كله؟ فردت: نعم، كله. فقال: وكيف جئت إذاً؟! فحدجته الفتاة بنظرة قاسية ولم تجب. وعندها أدخل صاحبي يده في جيبه وأخرجها ثم مدها إلى الفتاة. وعندها نظرت الفتاة إلي وفي عينيها دموع وقالت: ألا سامحكما الله. ثم حيت وانصرفت
كان إحساساً أليماً حقاً، شعرنا عنده أننا صغرنا وصغرنا إلى حد الضؤولة. وقلت لصاحبي: لقد كنت قاسياً أشد القسوة
فأجاب: أتقول إنني كنت قاسياً؟ لم لا تقول إنني لم أكن إنساناً؟ لعلك تستحيي أن تقولها!
وعدنا إلى الصمت، وفي صدر كل منا نشيج من العواطف الفائرة والأحاسيس المتهدجة الثائرة. ولم نر بداً من ترك المكان في الحال، فقد غدا في نظري بقعة قبيحة أشد ما يكون القبح. مؤلمة اشد ما يكون الألم. وظللت - فيما بعد - كلما سرت في ذلك الطريق أشيح عنه بوجهي كما يشيح كل إنسان عن الموطن الذي حدثت له فيه حوادث مؤلمة مخزية
عدنا أدراجنا، وأحببت أن أصرف صاحبي عن التفكير المؤلم فيما جرى له فسألته: متى تبدأ الامتحانات الفصلية؟ فأجاب في شبه ذهول: إنما نحن العبيد وهم الأحرار!
فقلت مستغرباً: من تعني؟
فأجاب: هؤلاء السود الذي نسميهم زنوجاً وعبيداً
فأدركت أن صاحبي لن يتحول عن التفكير في الفتاة وما أساء إليها إلا متى شعر أنه نال من إيلام نفسه مثل ما نال من إيلام الفتاة. وعاد يقول:
تباً لهذه المعتقدات التقليدية التي نتلقاها من بطون الكتب وأفواه الناس في الحكم على الأجناس. لقد تآمرت الكتب والخطب والصحف والأحاديث وكل وسيلة من وسائل الإيحاء على أن هذا الجنس الأسود جنس منحط وان خلاص البشرية، إن قدر لها الخلاص، لن يجيء إلا عن طريق الرجل الأبيض وما في رأسه من علم وصدره من أريحية وأعماله من نبل وتضحية! لقد أوحى إلينا بذلك إيحاءً مستمراً حتى حسبناه من القضايا التي لا تناقش ولا يطولها باطل، وحتى غدا سواد البشرة عندنا مقروناً بظلام الباطن وحلوكة النفس وفساد السريرة
فقلت وقد أعداني صاحبي بحماسته:
- إن أجساماً تمتص النور، كما تمتصه أجسام هؤلاء السود لا يمكن أن تضم نفوساً مظلمة. إنه حيث ينفذ النور تذهب الظلمة. لقد أخطئوا خطأً فاحشاً فيما سموا أفريقيا القارة السوداء، لقد كان الأولى والأصوب أن يدعوها القارة البيضاء قارة الشمس والنور. فهل يعودون يوماً إلى الحق ويعطونها اسمها الحقيقي؟ إن في الآفاق البعيدة والقريبة مخا يكاد يشير إلى ذلك
فقال صاحبي بغبطة: صدقت، لا ظلام حيث ينفذ النور ولتكن كنية صاحبتنا وجنسها عندنا من الآن (أصحاب النور)
وأدركت أن قد سري عن صاحبي وزال أكثر ما كان يحز في صدره من ألم، فودعته وانصرف هو إلى منزله وعدت أنا إلى منزلي وقد نقشت الحادثة في صدري نقشاً لم تزله سبع سنوات كاملات مرت عليها
أديب عباسي