مجلة الرسالة/العدد 326/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 326/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 10 - 1939



أندروز مليكان والإلكترون

للدكتور محمد محمود غالي

الرياضي هلبرت بين نظرياته والطبيعي مليكان في معمله - كيف حصل مليكان على جسيمات صغيرة من الزيت، وجعلها تصعد وتهبط وتقف وفق إرادته - وصف جهاز مليكان - كيف شاهد مليكان هذه الجسيمات في غرفة يبلغ ارتفاعها 16 مليمترا - كيف تحقق من حمل هذه الجسيمات لعدد من الإلكترونات.

منذ أربعين سنة في سنة 1899 قاد الفكر أحد الذين يتابعون الدرس ويواصلون العمل، الرياضي هِلْبرت إلى فكرة جديدة وباب لم يطرقه أحد من قبل، ذلك أنه كوَّن نوعاً جديداً من التفكير الهندسي يخلق بنا أن نسميه هندسة هلبرت تختلف في طريقتها عن الهندسة التي تبعناها منذ عن هندستي

هذا العالم الألماني هلبرت الذي ما زال في اعتقادي حياً بين سكان الأرض في من أعمال ألمانيا لم تحصده قنابل المحاربين، ولم يعبث بجسده غرض الفاتكين، ويبلغ من العمر اليوم 78 سنة وجد أسلوباً جديداً لتأسيس الهندسة الأقليدية التي تلقاها كل منا في المدارس، وغير الهندسة الأقليدية التي لم يتلقها إلا نفر قليل بعد التخرج في الجامعات، كما أثبت عدم تعارض الفروض فيهما، ذلك أنه استعمل لبناء علمه الجديد ثلاثة النقطة والخط والمستوي، وخمسة كلمات هي: عنها اصطلاحياً بموجودة واستطاع باستعمال هذه المعاني الخمسة فقط أن يقيم هندسته الكاملة، وخرجت من هذه (العناصر) الثلاثة، (والمعاني) الخمسة هندسة منسجمة نستطيع تتبعها والاقتناع بوجودها، وقد تتبعها في مصر في العام الماضي كل الأعضاء الذين حضروا محادثات الرواق الرياضي الطبيعي، والذين قضى بعضهم نحبه خلال الحرب القائمة، وهم من أصدقائنا الحميمين، ونأسف لهذه الحوادث التي ترجع بالإنسان إلى الهمجية، عندما حاول صديقي الدكتور أن يتابع عرض هندسة هلبرت بين إخوانه من المصريين والأجانب الطبيعيين والرياضيين المقيمين في مصر، وهي رياضة صعبة نوعاً ما ويكفي لإدراك صعوبتها أن تعلم مثلاً أنك في حاجة بادئ هذه الرياضة أن تثبتَ إمكان وضع نقطة على خط مستقيم، وإنك لتستغرق بعض الوقت لإثبات ذلك الذي تظنه بديهياً. ليست هندسة هلبرت الجديدة التي ما زالت تجد قليلاً من المطلعين هدفي في هذه الكلمة، وأعتقد أنها سوف لا تكون موضوع كلمة لي في (الرسالة) في الأعداد القادمة. فموضوعها صعب على القارئ، وغايتها أصعب عليه، إنما ذكرتها وأنا في طريق شرح أعمال مليكان - رجل التجارب والمعامل - لأضع أمام القارئ مثالاً للتباين بين النظريات يتبعها المنطق والخيال في أقصى درجاتهما، وبين العلوم التجريبية يتبعها التحقيق والمشاهدة في أقصى حدودهما، فبقدر ما في رياضة هلبرت غير المعروف لكثير من المطلعين من خيال وصعوبة بقدر ما في تجربة (مليكان) من تحقيق تجريبي وسهولة، تحقيق يبعد كل البعد عن التحايل اللفظي.

ليس إذن في قصة مليكان ما يدعو لإثبات مسائل تلتبس علينا مع البديهيات التي يقبلها الذهن، إنما هي في الواقع سلسلة لمشاهدات علمية وتجارب طبيعية، ولو صح لنا أن نتساءل عن تعريف ما نسميه تجارب طبيعية صحيحة (لقلنا إنها تلك التي تؤيد النتائج ذاتها بلغ تكرار هذه التجارب ما بلغ. . .)

ونوجز تجربة مليكان التي قام بها سنة 1909 في قياس شحنة الإلكترون أصغر ما نعرفه أو نعيه من الموجودات، وإثبات وجوده كجوهر فرد مستقل يلعب أكبر دور في الكون الذي نشعر بوجودنا فيه، ومن العدل أن نذكر أنه قد تقدمت تجارب مليكان أبحاث علماء عديدين كان لهم الفضل الأول في تهيئة السبيل للقيام بهذه التجربة التي تعد من أعظم مفاخر العلم التجريبي في القرن الذي نعيش فيه، وإذا لم نأت في هذا المقال على أسماء هؤلاء جميعاً، فإن رجال معامل هو في الواقع أول من قام بتجارب فريدة لقياس شحنة الإلكترون التي يرمز لها العلماء عادة

ونعود الآن لشرح عمل مليكان، ولتسهيل الموضوع على القارئ نعمد إلى تقسيم عمله إلى قسمين رئيسيين: القسم الأول هو الذي نذكره اليوم ونصف فيه الجهاز الذي استنبطه والتجربة التي قام بها هذا العالم لقياس شحنة الإلكترون بل لملاحظة جسيمات منعزلة لا تحمل أحياناً إلا إلكتروناً واحداً، ولا نعرض في هذا القسم لنتائج هذه التجربة ولا نذكر كيف استنبط مليكان من تجربته شحنة الإلكترون وحدة الكهرباء وأصغر الجسيمات التي نعرفها في الوجود، وفي القسم الثاني وهو برنامج الأسبوع القادم نذكر الطريقة التي حسب بها مليكان شحنة الإلكترون ونبين كيف من عملية القاسم المشترك الأعظم البسيطة التي تعلمناها كلنا في التعليم الابتدائي بيّن مليكان من تجاربه وسيلة لإثبات وجود الإلكترون وحساب شحنته وإثبات تعلق إلكترون حر واحد ببعض هذه الجسيمات أثناء تجاربه العديدة

والآن نبدأ بشرح الوقائع الأولى وتفسير دخائل الجهاز الذي ابتدعه مليكان واستعان به للوصول لغايته

استعمل مليكان لمقارنة شحنة الجسيمات الصغيرة المختلفة الحاملة للكهرباء والذي يسميها العلماء (يونات) الإلكترون رشاشة أي (بخاخة) تبخّ غيوماً من الزيت في غرفة عليا نرمز لها بالحرف غ كما يرى القارئ في الشكل

وينقى الهواء قبل إطلاقه ووصوله للرشاشة بمروره في أنبوبة

تحتوي على قطن مندوف، وينشر هذا الرذاذ الرفيع من الزيت

الذي يبلغ قطر معظمه 1000 2 من المليمتر في الغرفة

المتقدمة ويبدأ تساقطه غيوماً كالضباب الذي نصادفه في

الشتاء صباحاً جوار النيل أو الأراضي الزراعية. ويحدث من

جراء هذه العملية الأولى أنه يتصادف من وقت إلى آخر

مرور واحدة من هذه الجسيمات الزّيتية الصغيرة من الثقب

الصغير الموجود في مركز قرص من النحاس قطره 22

سنتيمترا موجود في أسفل هذه الغرفة، وتكون إحدى كفتي

مكثف كهربائي يتكون من كفتين بينهما الهواء، كفة عليا (ق)

هي هذا القرص والثانية كفة سفلى (ك) وهذه الكفة الثانية

مثبتة بالكفة الأولى بواسطة ثلاثة أعمدة من الأبانوس (د) وهو مادة عازلة كهربائيا، وهذه الكفة محمولة على بعد 16

مليمتراً من الأخرى وفي هذه الغرفة الثانية المحصورة بين

هاتين الكفتين والتي لا يرتفع سقفها عن أرضها إلا بمقدار 16

مليمتراً، شاهد مليكان هذه الجسيمات الصغيرة من الزيت التي

يتصادف مرورها من الثقب، والتي أثبت هذا العالم كما سيرى

القارئ في المقال القادم أن بعضها كان يحمل إلكترونا واحداً.

وتتصل هاتان الكفتان بمفتاح (م) يتصل ببطارية كهربائية

(ب) تبلغ القوة الدافعة الكهربائية بين طرفيها عشرة آلاف

فولت وذلك لإيجاد مجال كهربائي قوي، ومتغير بين الكفتين

ويُتممُ هذا الجهاز أجهزة ضوئية أخرى تكوّن خارجه حزمة من الضوء شديدة تمُّر من نوافذ أو بالأحرى من ثقوب موجودة الواحدة منها تجاه الأخرى ومحفورة في حلقات من الأبانوس (ح) موضوعة في اتجاه الشخص الراصد. وتضيء هذه الحزمة الضوئية الجسيمات أو رذاذ الزيت الذي يتصادف مروره من الثقب (ث)، هذا الرذاذ الذي يصبح بمروره من هذا الباب عرضة للمشاهدة والاختبار

وقد أمكن لمليكان أن يرى هذه العوالم من ثقب ثالث صغير بواسطة الميكروسكوب الذي يلعب في هذه التجربة دور الألتراميكروسكوب، وقد رتَّب جهازه بحيث يقع الضوء على هذه الجسيمات من جهة ويراها هو من جهة أخرى عمودية عليها، وهي الطريقة ذاتها التي نرى بها الكواكب السيارة في الليل، إذ يقع عليها ضوء الشمس من جهة تختلف عن التي نراها منها، بل هي الطريقة التي نرى بها جسيمات من التراب الرفيع العالق بهواء غرفنا والذي تستنشقه رئاتنا طوال النهار، عندما تدخل أشعة الشمس من جهة غير الجهة التي نشاهد بها هذه الذرات الترابية التي تبدو لنا في هذا الوضع مضيئة تحت أثر أشعة الشمس الساقطة عليها، وهكذا كانت تظهر النقط الصغيرة التي يتصادف مرورها من الثقب (ث) كما يظهر نجم ساطع في ظلام الليل الحالك

ولا يفوتنا أن نذكر أن هذه الجسيمات التي تمر من الثقب مكهربة، وقد حدثت الكهرباء فيها من احتكاكها بعضها ببعض عند خروجها من الرشاشة التي حولت السائل بفعل الهواء إلى رذاذ أو ربما عند ظني أثناء احتكاكها بذرات الهواء المنتشر في الغرفة، وثمة طريقة أخرى لكهربة هذا الرذاذ عند اقتضاء الحال وذلك بتسليط أشعة راديومية عليه بتقريب عنصر الراديوم المعروف من الجهاز، بحيث تتصادم الجسيمات الراديومية المتناثرة من الراديوم المشع بهذا الرذاذ الرفيع فتعلق به جسيمات كهربائية سالبة كالإلكترونات أو جسيمات كهربائية موجبة كالبوزيتونات

وتتلخص التجربة في نشر رذاذ الزيت في الغرفة العليا، ثم انتظار مرور أفراد من هذا الرذاذ في الغرفة الثانية أي بين كفتي المكثف، ثم في كهربة القرصين باستعمال المفتاح م كهربة موجبة في إحدى الكفتين سالبة في الأخرى، وذلك باستعمال البطاريات السالفة الذكر، بحيث أنه بإدارة المفتاح إلى الجهة اليسرى مثلاً تتصل الكفتان وينعدم المجال الكهربائي، وبإدارته إلى الجهة اليمنى يتولد مجال كهربائي يختلف وفق المقاومات الكهربائية التي في طريقه تبع إرادة الراصد

وتتضح الكهرباء أو الشحنات الكهربائية الموجودة على هذا الرذاذ من أنه عندما نوصل المفتاح الكهربائي، ونجعل فارقاً في الضغط الكهربائي بين الكفتين، أي عندما نعمد على إيجاد مجال كهربائي قوي - في الاتجاه المناسب - تنجذب هذه الجسيمات بسرعة نحو القرص ن مظهرة بذلك شحنتها الكهربائية

على أنه إذا أعدمنا المجال الكهربائي بتوصيل الكفتين؛ فإن هذه الجسيمات من الرذاذ الزيتي تبدأ وقوعها رأسية تحت تأثير جاذبية الأرض حتى تقترب اقتراباً شديداً من الكفة ك، وهكذا كلما أعدنا المجال الكهربائي فإن هذه العوالم الصغيرة تغير اتجاهها من جديد وترتفع إلى سقف الغرفة ق. وبهذه الطريقة أمكن الحصول على حركة مستمرة صعوداً وهبوطاً لرذاذ الزيت بين الكفتين، وفي الغرفة الضيقة الثانية باستعمال المفتاح م

وقد أمكن لمليكان أكثر من ذلك، إذ تمكن من شل حركة هذه النقطة الحائرة من الزيت التي يريد أن يرصدها في غرفة هذا الجهاز، هذه النقطة من الرذاذ الواقعة بين قوة مجالين: المجال الأرضي الذي يجذبها إلى أسفل كما يجذبنا معشر البشر والمجال الكهربائي الذي يجذبنا إلى أعلا، بأن ساوى بين قوة المجالين المتعارضين، وذلك بجعل قوة المجال الكهربائي معادلة لقوة المجال الأرضي. عند ذلك تقف النقطة الحائرة والجسم التعب بين الكفتين. وعند ذلك عين مليكان القوة الكهربائية اللازمة لإيقافها والتي لها علاقة كما سيرى القارئ بما يحمله هذا الجسيم من الإلكترونات.

وسيرى القارئ أن هذا كان كافياً لمليكان لحساب شحنة الإلكترون ولأن يُتيقن أن في كثير من تجاربه وجدت ذرات زيتية كانت تحمل إلكترونا واحدا

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة