مجلة الرسالة/العدد 326/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 326/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 10 - 1939



دراسات في الفن

كنت أحسبك رجلاً!

بهذا ودعت استراوس عشيقة

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

كان لاستراوس عاشقتان، وكان لكل واحدة منهما اتجاه في الحب، وكان هو يحبهما معاً، وعلم الله أنه كان يود بكامل صدقه وإخلاصه، لو أنهما كانتا عاشقة واحدة، فقد كانت كل واحدة منهما تكمل أختها، ولم يكن يعيب إحداهما إلا أنها استقلت عن الأخرى بجسد وحدها. . .

ولكنها حكمة الله التي شاءت أن تتبعثرا اثنتين!

تزوجته منهما واحدة، وشالت عنه واحدة بعدما ظلت تحوم حوله زمناً لم تهمل فيه حيلة من حيل الإغراء التي تستولي بها النساء على الرجال، ولم تستر فيه حسنة من حسناتها، وقد كانت كلها حسنات مما يخلب الألباب، ولم تحجب فيه بريقاً تألقت به روحها، بل كانت تحرق فيه روحها لتتألق أمامه متفانية، لعلها تستهويه إذا احترقت ونورت، ولم تدع فيه قوة من قوى الأنوثة التي حبتها الطبيعة بأقواها وأشدها وأحكمها، إلا سلطتها عليه لتخذله بها. . . فما استطاعت أن تصل منه إلى شيء أكثر من أنه أحبها كما كان يحبها، وما كان هذا الذي تقصده، وإنما كانت تريد أن تأخذه أخذ النساء اللواتي تعرفهن للرجال الذين تعرفهم. فلما عجزت وسائلها عن تمكينها من غرضها يئست وأعلنت إفلاسها وهجرته، وقالت له وهي تودعه متعشقة في حنقها: (كنت أحسبك رجلاً). . . قالتها وهي تظن أنها سممته بها، وتركته ومضت. . . لو عرفت أن أشد النساء عداوة لها أوشكت أن تحب استراوس وأن تهيم به، لحذرتها منه رحمة وبراً بالأنوثة أن يذلها هذا الذي كانت تحسبه رجلاً. . . فتبينته غير رجل!

ولو علمت هذه الصغيرة أنها حين رأت استراوس في صورة غير صورة الرجل، رأت منه جوهر نفسه. . . إذن لما تركته ولا هجرته ما دامت تحبه، ولبدأت تعالج الحب على أساس جديد غير ذلك الأساس الذي يقوم عليه الحب بين المرأة والرجل. فقد كان استراوس غير رجل حقاً، ولكنه في كونه التائه كان لا يزال يحب المرأة، ويستسلم لها، ويفزع كلما خيل إليه أنه قد يقضي الحياة من غير امرأة.

وكانت زوجه تعرف فيه هذا، وإن لم تكن ترى شيئاً وراءه فكانت تظله بالذي يطيب لها من ظلال أنوثتها وحبها فاشتد سلطانها عليه، وتحكمها فيه حتى كانت النظرة اللائمة منها تهطل على أشد ثوراته اندلاعاً فتطفئها وتخمد أنفاسها

فماذا كان استراوس؟

كان إنساناً كبقية الناس، ولكنه كان إلى جانب هذا قليل الصلة بالدنيا لأنه كان شديد الصلة بما في أعماقها، وكان قليل الحيلة في اصطناع حركات الناس وسكناتهم لأنه كان شديد الخبرة بدخائل نفوسهم، شديد المراقبة لخلجات هذى النفوس ونبضاتها، شديد الموازنة بين ما يراه وبين ما ينزع إليه من الكمال، شديد النقد لما يبدو له من النقص والعيب. والذي ينفذ هذا النفاذ إلى ما تستره مادة الدنيا لا يمكن أن يشبه الرجال الذين يعيشون على سطحها، والذين يسعون على وجهها سعي الهوام والماشية. وإنما له كيان آخر، دلائله وآياته فنونه. وقد كان استراوس فناناً، وكان فنه يستدعيه إلى الأعماق، وكانت عاشقته التي نفرت منه تغوص معه إلى الأعماق أحياناً فيتزاوجان ولكنها كانت تنسى إذ ذاك أنه رجل وأنها أنثى، فإذا ذكرت هذا طفرت إلى السطح وأرادته أن يسعى إليها طفراً هو أيضاً، ولكنه كان يظل حيث هو ويناديها إليه فلم تكن تستطيع أن تعود إليه إلا إذا نسيت أنها الأنثى التي تريدها هي

فهل لم يكن ميسوراً أن تدرج إلى مغاوره وكهوفه في ثوب من الأنوثة يخلبه؟ قد كانت تستطيع لو أنها تطلعت إلى أزياء الأنوثة في المغاور والكهوف كما كانت تتطلع إلى أزيائها في (فيينا)

في المغاور والكهوف لا يتعلق الناس إلا بالحق، ولا يفتنهم إلا الصدق، ولا يمكن أن يتبادلوا العواطف إلا بوحي من الطبيعة لا بوحي من الحاجة، وبنداء من الروح لا بنداء من المادة: ذلك أن العواطف لهفات الروح لا البدن. وهم أقرب الناس إلى الأطفال. بل إنهم الأطفال ينمون في طفولتهم، ويكبرون في صغرهم. ولولا هذا لخرجوا من هذه المغاور والكهوف إلى حيث يستطيعون أن يصارعوا الرجال في الحياة القائمة على وجه الأرض، والتي يتراشق الناس فيها بقنابل من الأباطيل والأكاذيب والحيل والمخادعات

إنهم عاجزون، والله مع العاجزين هذا العجز، وهو يعوضهم عنه قوة أخرى هي هذه الحاسة النادرة التي لا يجاهد في سبيل اكتسابها إلا أقل الناس، والتي تقتصد الطبيعة كل الاقتصاد في تهيئة عناصرها في النفوس، والتي يدرك بها هؤلاء الأطفال الكبار العاجزون من حقائق الوجود ما يغيب عن إدراك الكبار الرجال الذين ليسوا أطفالاً

ولم تكن البارونة الصغيرة تلمح هذا ولا كانت تعرفه، وإنما كانت تسحرها أغاني استراوس وألحانه، وكانت تؤديها كأطيب ما تصبو إليه نفسه هو فتشعر حينئذ بأن روحه من روحها، وأن روحها من روحه، فإذا ادلهمت عليه بأنوثتها رأته كالمسحور أو المعمول له عمل، فلما طال هذا وتكرر أدركت أنه غير رجل، ولكنها زعمت أن هذا الإدراك يجب أن يكون نهاية الصلة بينهما، فقطعت صلتها به وما فكرت في هذه الحالة الشاذة ولا في طريق علاجها، ولم تذكر أنها أنشدت له لحناً صاغه هو لتتبرج به هي في حفلة من حفلاتها، ولم يكن هذا اللحن إلا آهات كل آهة منها حكم تصدره على رجل بعينه من النظرة الأولى التي تلقيها عليه، فللمغرور المعجب بنفسه آهة فيها السخرية بغروره وتيهه، وللحالم المتغائب عن الوجود آهة مرسلة شاردة كأنما تصاحبه إلى الملكوت الأعلى، وللسمين القاعد على روحه آهة دسمة كأنما هي الرغيف المحشو برغيف آخر فيه خروف صغير، وللمهندم المؤدب الأنيق المتزجج آهة مرتعشة مخنوقة كأنها محرجة وجلة. . . ولم تذكر أن هذه الآهات تعددت في اللحن وتكاثرت بألوانها ودلائلها حتى لم يعد من المعقول أن يقال بعدها إن استراوس بعيد عن نفس المرأة وعقلها، جاهل طريقة تفكيرها، غافل عن أحكامها و (حيثيات) هذه الأحكام

وقد كان هذا اللحن وحده يكفي لكي تعلم البارونة الصغيرة أن استراوس الذي يتسمع إلى الصمت في الطبيعة كما يسمع أصواتها وينظم من هذا وتلك ألحانه المعجزة. . . بصير أيضاً بالنفوس عامة سواء منها نفوس النساء ونفوس الرجال، والبصير بالشيء لا يعجز عن نيله، ما دامت فيه القوة التي تمكنه من نيله وقد كان استراوس في أزمته الغرامية هذه شاباً فتياً له جسد الإنسان الرجل النزاع إلى جسد الأنثى. . . فما الذي منعه عنها؟ أمانة الزوجية؟

قد يكون هذا، ولكنه بعيد لأن حياة استراوس مع البارونة الصغيرة لم يحدث فيها ما يدل على أنه استشعر الأنوثة التي ترضيه فيها - وهي أنوثة المغاور والكهوف - تحاول أن تغزوه فيصدها بهذه الأمانة. بل الذي حدث هو عكس هذا فقد قدم استراوس عاشقته هذه لشعب من اصحابه في ثورة من ثورات فيينا على أنها فنانة مغنية فقط، ولم يكن في هذا كاذباً ولا مجاملاً، بل كان صادقاً لأنه لم يشعر منها إلا بأنها كما قال. فلم تكن الأمانة الزوجية هي التي حالت دون استراوس وعشيقته، وإنما هذه العاشقة نفسها هي التي التوت على حبها، والتوت على نفسها، والتوت على حبيبها، وكان بيدها ألا تلتوي

وقد يسائلنا سائل عن هذا الذي نطلبه من المسكينة الصغيرة ما هو؟ أكنا نريدها أن تخرج على طبيعة المرأة أكثر مما خرجت فتدعو إليها استراوس بالذي دعت به امرأة فرعون إليها سيدنا يوسف الجميل؟!

ونحن نقول لا. ونقول إن الحب لا ينتج إلا من صراع في الغزل، والصراع في الغزل إذا انتهى إلى حب فهو واحد من حبين في نفس كل من العاشقين: إما حب الحنو، وإما حب الإعجاب، ولم تكن لاستراوس قوة يعتز بها غير قوة الفن، وكان فنه الموسيقى، فلو أن البارونة الصغيرة ناوشته بألحان فإنه لم يكن هناك بد من أن تقهره: إذا فاقت ألحانها ألحانه خلبته واستحوذت عليه عاشقاً وتلميذاً لها، وإذا فاقت ألحانه ألحانها حنا عليها، واحتضنها وراح يسقيها ما هي ظمأى إليه، ورباها كما تربى الدجاجة أفراخها، ولكن البارونة الصغيرة لم تصنع شيئاً من هذا، واكتفت بأن تغني له فكان يرى فيها نفسه هو، ولم يكن ير نفسها. . .

قد كان عليها أن تريه نفسها صريحة واضحة في الفن مهما خشيت أن تتضاءل إلى جانب صفائه وقوته

ربما كانت تنتظر أن يقول لها: (لحني!) بل ربما تكون قد استأذنته في التلحين بأسلوبها المعوج الملتوي فهل عرفت البارونة لماذا لم يأذن لها، ولماذا لم يطلب منها أن تصوغ الألحان. . . ذلك أنه حين أراد أن يلحن. . . لحن، وحين كان يريد أن يغني لم تكن قوة تستطيع أن تحبس صوته. . . فلعله لم يصدقها، أو لعله خشي أن يدعوها إلى شيء قد تكون عنه عاجزة. . . أو لعله كان يرحمها فيحررها من طلب إذا أجابته فإنما تجيبه إرضاء له هو لا إرضاء لنفسها. . .

وأغلب الظن أنها كانت عاجزة لأنها كانت بارونة. وأغلب الظن أنها كانت تستطيع أن تطاوله، وأنها انطلقت في الحياة كما كان هو منطلقاً فيهما، فإنها ركبا يوماً عربة معاً، وسرحت بهما العربة في أحراش وغابات، وأثارت خطى الجواد الذي كان يجر العربة - وكانت خطى منتظمة على ضرب متسق - بواعث الشدو في نفوس الطير وفي نفسيهما وفي نفس الحوذي الذي كان معهما، فأنشد الطير، وأنشدهما، وأنشد الحوذي، وكان من نشيدهم جميعاً لحن الفالس الكبير الذي لا يمكن أن يقال إلا أن الطبيعة والجواد والطير والعاشقين والحوذي، اشتركوا جميعاً في توصيله من الغيب إلى هذا الكون.

وعلى هذا فقد كانت البارونة من معدن استراوس. كانت هي الأنثى غير الأنثى لهذا الرجل غير الرجل. ولكننا لا ندري كيف أنكرت منه شروده عن رجولة السطح، ولم تذكر أنها حين أفاقت من الفالس الكبير وهي في العربة ألفت نفسها مطوية بين ذراعيها المتشنجتين اللتين كادتا تهصرانها هصراً؟

كان عليها أن تدرك إذن أن له لوناً من الأنوثة خاصاً يخلبه، وهو هذا اللون الشائع في أعماق الطبيعة والذي فاض في نفسها هي عندما كانت تشدو مع الطير ومع الطبيعة ومعه

كان عليها أن تدرك هذا، ولكنها لم تدركه فأي شيء دهاها؟

دهاها هذا (الإتيكيت) الذي نشأت عليه في القصور، ودهتها هذه التقاليد التي علمتها أن تطلب الطعام إذا جاعت بالحديث عن لوحة زيتية تفنن مصورها في رسم تفاحها وكمثراها. . . فإذا سمع استراوس كلامها هذا نظر هو أيضاً إلى الصورة، وتفحص فيها التفاح والكمثرى ولم يفهم بعد ذلك شيئاً. . . فعيناها. . . عيناها تنظر في صدق عجيب إلى جمال التفاح والكمثرى كأنما هي معجبة به حقاً. . . فكيف لا يصدق استراوس إعجابها بالرسم وكيف يعرف أنها جائعة

لا بد أن يشعر وأن يحس؟ أليس هو الحساس الموهوب أكثر مما وهب البشر؟ أليس هو الناقد المتفرس إلى ما وراء المادة والحجب؟ نعم إنه كذلك حقاً. . . ولكنه يلقي هذا السلاح بين يدي محبوبته، فهو يصدق كل ما تقول. . . ويجول معها أينما شاءت، ويسلم لها قياده فهي المسئولة عن عقله وهو بين يديها، وهي التي تقوده إلى هذه الوديان القاحلة. . .

ولم تكن زوجته هكذا على قلة ما كانت تدرك من جمال فنه وروعته. فهي لم تغازله بالفن، ولم تناوشه بالنغم، وإنما هجمت عليه بإخلاصها وعطفها ورعايتها، ولمست فيه طفولته وحيرته في الحياة خارج ميدان الفن، ولقد أرشدت هذه الزوجة البارة بارونة زوجها إلى هذا الطبع في نفسه يوم أرادت البارونة أن تأخذه منها فقالت لها: (لا تأخذيه على أنه رجل فهو لا يعرف من أموره أمراً، ولا يمكنه أن يدبر شأناً من شؤونه لأنه طفل!)

كان هذا تعبير زوجة استراوس، وكان هذا التعبير هو الصدق وكان هذا الصدق نتيجة ما كان بينها وبينه من صراع في الغزل والحب، فقد عجزت عن الفن كل العجز أمامه، وعجز هو عن إدراك ما كان في نفسها من قوة الرعاية والحدب كل العجز أيضاً فاندمجا وتشابكا

فلو كانت هاتان العاشقتان واحدة!

أما زوجة استراوس فما كانت تستطيع أن تستكمل نقصها بمثل ما كان في البارونة من فطرة الفن، فالفن موهبة. وأما البارونة فقد كانت تستطيع أن تتعلم من زوج استراوس طريقة ترويضه وصيانته، إذا احتاجت إلى شيء من هذا. . . ولم تكن لتحتاج لو أنها أعملت الفن. . .

ولكنها كانت بارونة. . .

عزيز احمد فهمي