مجلة الرسالة/العدد 328/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 328/رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلم
تأليف مريون فلورنس لانسنغ
5 - الشعر المستعار والمسحوق
في صباح يوم من عام 1708 حدثت متاعب في بلاط سكسونيا الملكي؛ فإن الأمير أغسطس الملقب بالقوى قد غضب
وكان أغسطس متى غضب لا يكتم غضبه بل يترك كل من يتصل بهم يحسون سوء مزاجه سواء في ذلك الخادم الذي يحمل إليه الطعام، والسائس الذي يمسك بزمام جواده. ولم يكن يعد أحداً من أهل منزله أصغر من أن يعنيه اهتمامه؛ فلا شيء أقل من إشراكه في غضبه ما دام في هذه الحالة
قال (أوتو) خادم المائدة همساً (لأولرتش) الوصيف: (متى بدأت هذه الحالة؟)، وقد ألقى عليه هذا السؤال عندما رمى أغسطس بالمائدة التي أمامه ومشى مغضباً من غرفة الطعام، وهو يصرح بأن اللحم الذي أكل منه والذي كان سروره منه بادياً لا يصلح للرمي للخنازير في الإسطبل، وقال إن كل شيء كان جميلاً عندما جاء من بولونيا في مساء الأمس
قال أولرتش: (ربما كان ذلك لأمر من أمور الدولة؛ فقد قيل إنه سيكون ملكاً على بولونيا إذا سارت الأمور بين النبلاء على ما هي عليه الآن)
فتطوع الحاجب الذي كان مصغياً إليه بقوله: (لقد ذهب في هذا الصباح إلى المصنع)
قال أولرتش: (هذا إذن هو السر. ففي هذا المكان سحر وزيارته لا تؤدي إلى خير)
فقال الحاجب مستغرباً: (ما الذي يصنعونه هناك؟ إنني أراهم ينقلون إليه زجاجات عجيبة الشكل وقناني ثقيلة، ولكن أحداً لم يسأل متى يكون إخراج هذه الأشياء. ولم يحاول أحد الدنو من الأبواب المخفورة ليرى ماذا يحدث بداخلها
قال أولرتش محتداً: (لا ترفع صوتك يا بنيَّ، وكف عن الطواف حول السلم المؤدي إلى الحصن، هذا إن كنت تحرص على مركزك هنا، والأفضل أن تبقي عيناك مغمضين، وأذنك كذلك ما دامت قوات الظلام تعمل).
فقال أوتو وهو يبتسم للحاجب المنزعج: (كلا، لا تقل ذلك، فلا وسيلة لإرسال شاب قوي الروح إلى الشيطان لمطالبته بأن يدنو منه وهو مغلق العينين خوفاً من أن يراه. إن الهر (بوتجر) ليس من أمراء الظلام، فيلقي عليك سحره يا بنيّ، ولكن عمله يتعلق به وبالدوق أغسطس، وهما لا يحبان الفضول ولا يحبان تدخل الفضوليين)
قال الصبي وقد بدا عليه الاهتياج الشديد: (ولكنهم يقولون إن الهر بوتجر ساحر، وإنه لما كان يتمرن على فن الصيدلة في برلين لم يكن أستاذه أقل من الراهب اليوناني لاسكا بريس نفسه). . .
فقال أولرتش: (أرأيت نتائج تصرفك يا أوتو؟ لقد امتلأ رأس الصبي بالأقاصيص منذ الآن، وهو يعرف أن الفنون الملعونة فنون الكيمياء تمارس في الحصن. تكلم عنها إذا شئت، وإذا وجدت من نفسك الجرأة على الكلام. أما أنا فأني أعتقد أن الحوائط لها آذان مادام الحديث يسفر عن شر)
ومشى أولرتش غاضباً. فقال الصبي: (ولكن يا أوتو. . .
يا أوتو الرقيق. . . أخبرني. . . فأنت تعلم أني حديث العهد بخدمة القصر، وأنت على حكمتك بعيد العهد بهذه الخدمة!
قال أوتو: (نعم يا بنيّ، لقد كنت هنا لما جاء بوتجر، وكان عمري إذ ذاك ستة عشر عاماً، وكان بوتجر نفسه قاصراً تحت وصاية النبيل أغسطس)!
فقال الصبي: (ولكن لماذا كان فراره ومتى جاء؟).
قال: (لقد فر من برلين، وكان بها في الواقع تلميذ كيمياء ولكنه وأستاذه لاسكاريس عثرا على أثناء الدراسة على شيء جعل حياتهما في خطر، ويقولون إنهما تمكنا من الوصول إلى حجر الفلاسفة نفسه، وإن الدوق الطامع الذي تحت حمايته أراد أن يسجنهما خشية أن يفشيا سر استكشافهما إلى سواه!
قال الحاجب وقد حملق في دهشة أمام أوتو: (حجر الفلاسفة! أهذا هو الذي يحول كل مادة تلمسه إلى ذهب؟).
فقال أوتو: (نعم هو هذا الحجر، وقد سر مولانا أغسطس من إيواء كميميائي ذكي قد يكشف عن هذا السر في يوم من الأيام قال: (وهل عرفه؟). فقال: (لا. وأظن أن هذا هو السبب في مجيء مولانا أغسطس مغضباً من المصنع. لقد فعل أغسطس كل ما في وسعه أن يفعله، ولخوفه من ألا يستطيع غلام في عامه السادس عشر أن يصل وحده إلى هذا السر استقدم الهر والتر فون تشر ناهوس الحكيم - وهو أستاذ في الكيمياء وفي كافة العلوم - واشتغل الرجلان معاً عدة أيام ولكنهما لم يخرجا من المعمل إلا بعض أوان من الخزف الأحمر؛ فإن لم يكن هذا هو كل ما فعلاه فإنه على الأقل كل ما رأيته. وكان شكل هذه الأواني جميلاً لو أن الذي يعني المرء هو لون أطباقه. وكان السيد معجباً بهذه الأطباق حتى لقد أرسلها إلى ليبزج حيث أحدث وصولها حركة غير عادية كما علمت. ولكن الذي يبحث عن السحر الذي يمكن بواسطته تحويل كل المعادن الدنيا إلى ذهب، لكن هذا الذي يبحث عن السحر فلا يجد إلا أطباقاً حمراء والناس كلهم يعلمون أن الطعام طعام سواء أكل في أطباق من الخشب، أو أطباق من الخزف العادي، أو في تلك الأطباق الجميلة الحمراء، فله العذر إذا غضب
قال الصبي: (ولكن أين هو الهر والتر؟ إنني لم أره)
فأجابه: (لقد مات منذ شهرين ومن أجل ذلك كان من نذر السوء على الهر بوتجر ألا يقع على السر سريعاً كما يدل على ذلك ما يبدو من نظرات الشر على عيني مولانا، ولكن تعال أيها الصبي، فيجب أن نؤدي أعمالنا الآن لا أن نقف فنتحدث كأننا بعض النساء العجائز، لكنني لا أحب أن يزعجك الصديق أولرتش الذي يظن كما يظن الكثيرون في هذا القصر أن أمير الشياطين مقيم في الحصن، وأنه يأتي متى استدعاه جارنا بوتجر).
ذهب أرتو ولكن متاعب ذلك اليوم لم تنته؛ ثم فتح الباب على الأثر، ودخل أستاذ الكيمياء الهر بوتجر الذي قلما يخرج من الحصن، وكان في هذه الساعة مهتاجاً كما كان أغسطس منذ ساعة مضت!
مشى بخطوات طويلة وهو يحرك شعره المستعار الذي نُثر فوقه مسحوق، وكان قد اعتاد أن يضعه فوق رأسه المستطيل الضيق فيكسبه هيبة، ونادى بصوت مرتفع ذلك الوصيف الذي يذر المساحيق فعرف هذا الشعر.
فقال الحاجب في إحجام: (هل لي أيها السيد أن آخذها إليه إذا كان المسحوق الذي وضعه ليس جيداً) صاح الكيميائي: (ليس جيداً! أين هو الذي وضع هذا المسحوق؟ أين هو المسحوق؟ من أين أتى به؟ يجب أن أحصل على مقدار منه في الحال؟)
ثم خرج من الردهة وفي يده شعره المستعار وشعر رأسه مشوش. فقال الصبي وهو يشير إلى نفسه بإشارة الصليب أثناء تحدثه: لست أعرف أيهما المحق أولرتش أو أوتو؟ لقد بدا لي الهر بوتجر في هذه اللحظة كأنه مجنون، وكأن قوات الظلام تطارده.
نحن الذين أتيح لنا أن نجتاز السلم، وقسم المعمل في الحصن الذي بدأت به هذه الأعمال الغامضة نعرف أن الهر بوتجر لم يخرج كالمجنون للبحث عن الوصيف الذي ذر المسحوق على شعره المستعار لأنه فعل ذلك على صورة لم يرضها بل لأنه سر من هذا المسحوق إلى درجة غير عادية، وكان يريد جزءاً من هذا المسحوق الثمين الذي وجده، وهو لا ينتظر ذلك، فوق شعره المستعار أكثر مما أراد أي شيء آخر منذ عهد طويل
وكان أوتو مصيباً في قصته في الحدود التي تناولها ولكنه يسلم بأنه لم يدخل المعمل ولا يعلم ماذا يحدث به إلا عن طريق الإشاعة. وقد كان بوتجر وزميله والتر فون تشر فاهوس كسائر الكيميائيين في عهدهما يبحثان عن حجر الفلسفة الذي يحول كل المعادن إلى ذهب. ولكن أغسطس كان يبحث عن أكثر من هذه الخرافة، وقد اتضح فيما بعد أنها خرافة، كان الرجل عملياً كما كان رجل ثقافة. وبما أن عصره كان عصر استكشاف وسياحة، فقد كان اهتمامه شديداً بمعرفة ما تفعله الشعوب الأخرى في تجاريبها العملية وفي فنونها، وقد جمع في العهد الأول من حياته أسلحة ودروعاً من كل الممالك الأوربية، ومن البلاد المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط. وكان تحمسه في العهد الأخير لجمع المصنوعات الفضية والمجوهرات، وكان لديه من ذلك مجموعة نفيسة، وكلتا مجموعتيه أو الباقي منهما لا يزال موجوداً في هذا اليوم في متاحف سكسونيا بين أفضل المعروض من كنوزها.
وحوالي الوقت الذي لجأ فيه إليه بوتجر ملتمساً حمايته، كان اهتمامه بالغاً نهايته بالأواني الصينية التي جاء بها تجار الألمان إلى أوربا من البلاد النائية في الصين واليابان!
كان في أوربا في سنة 1700 أوان من الحجر ملمعة بأملاح وكان استعمالها شائعاً، وكذلك كان فيها أوان ملمعة بالقصدير، وكان الأغنياء خاصة يستعملون نوعاً من الأواني مغطى بطبقة من الميناء، ولكن هذه الأنواع كانت من نوع الأواني ذات القشرة التي تستعمل اليوم، فإذا ذهبت القشرة بمضي الزمن وكثرة الاستعمال، فإن الطينة تظهر من تحتها، وهي فضلاً عن شكلها العامي ذات مسام، وإذا وقعت نقطة من الماء محتوية على شيء من الدهن في الموضع الذي تقشرت فيه الميناء، فإن هذه النقطة تتسع حول الثقب، وتترك أثراً قبيح الشكل.
وكانت مجاميع الأطباق الواردة من الصين صافية جميلة يستطيع المرء أن يضع إحداها بين عينيه وبين النور، فيتبين أنها مصنوعة من معدن واحد، وهي فضلاً عن ذلك رقيقة خفيفة. . .
وكانت هذه المجاميع كنزاً في نظر رجل مثل أغسطس مشغوف بجمع التحف، فكان يشتريها بأي ثمن ويقدرها لجمالها ولحسن صناعتها. وقد بلغ من شغفه بها أنه تخلى لملك الفرس عن طائفة من جنوده طوال القامة مدربين كسائر رجال الحرس السكسوني في مقابل مائة قطعة من هذه الأواني الشرقية كان الملك الفارسي قد جمعها.
وكان أغسطس قانعاً في البداية بجمع الأواني من الخارج؛ ولكن في الوقت الذي أنشأ فيه (بوتجر) معمله في قصره طمع الناخب السكسوني في أن يضع تحت رعايته مثل الذي يقتنيه
وتساءل، عن السبب الذي من أجله يصنع الصينيون أواني جميلة، بينا المهرة من الصناع ومن الكيميائيين الأوربيين لا يصنعون الأواني إلا من الطين ملمعة أو مغطاة بالميناء
وعهد بعلاج هذه المشكلة إلى كيميائيه الصغير فكانت النتيجة ظهور الفخار الأحمر في أسواق ليبزيج سنة 1707؛ وكان هذا الفخار يصنع من الصلصال الذي وجده فون تشر تهاوس قرب مدينة درسدن
وكان هذا الفخار الذي يصنع في ألمانيا فخاراً جميلاً ولكنه لا يزال بعيداً عن الأواني البيضاء التي تكاد تكون شفافة والتي تصنع في الصين. وقد ملَّ بوتجر من مطالب سيدة الأمير بعد أن صنع الفخار الأحمر. وحاول الفرار من سكسونيا وإنشاء مصنع تحت رعاية سيد أقل سيطرة من أغسطس. ولكن هذا الأخير جاء به إلى القصر القديم الذي يقيم فيه وسجنه في حصنه وإن كان أوتو وأولرتش لا يعلمان ذلك. وقد فرض عليه أن يبقى سجيناً حتى يصنع مثل الأواني العجيبة التي تصنع في الصين كانت هذه هي الحالة إلى اليوم الذي نتحدث عنه، ومع أن الكيميائيين قد أطالا البحث فإنهما لم يستطيعا أن يجدا أي صلصال يمكن صنع الفخار الأبيض منه
وفي الصباح الذي ذكرناه وضع الكيميائي على رأسه شعره المستعار وهو ذاهل الذهن واستمر على عمله، ولكنه شعر بثقل وباكتئاب، وأخيراً خطر بباله أن الشعر المستعار أثقل من العادة فنزعه ليرى سبب غنائه فوجد أن المعدن الأبيض الذي ذر على الشعر المستعار معدن لم ير مثله من قبل، وقد وضع خطأ بدل المسحوق العادي
ولما عثر بوتجر على الوصيف الذي وضع هذا المسحوق سأله عن سره وأخبره الخادم المذكور أنه لم يكن سيئ القصد في إحداث هذا التغيير وأخبره أن رجلاً أسمه شنور وجد محجراً يتخرج منه هذا المسحوق بالقرب من قرية (أو) وباع له جزءاً مما استخرجه منه، وقال هذا الخادم إنه وجده أصفى بياضاً وأليق بالشعر المستعار، لأنه سيبقى مدة أطول
وفحص بوتجر هذا المسحوق كما لا بد أن يكون قد تبادر إلى ذهنك واستنتج أنه على الأرجح هو الكاولين الذي طال البحث عنه والذي كان السياح الآتون من الصين يتحدثون عنه
وعلى أثر هذا الاستكشاف ذهب بوتجر إلى ذلك المحجر واشتراه باسم أمير سكسونيا، وتمكن من صنع عجينة من صلصال كالتي يصنعها الصينيون
وفي سنة 1710 لم يكن في سوق ليبزج تلك الأطباق التي تصنع من الفخار الأحمر فقط بل وجد إلى جانبها نماذج قليلة من فخار أبيض صنعه فون فردريك بوتجر تحت رعاية أغسطس الأول أمير سكسونيا
في العام التالي صار يصنع الفخار المعروف باسم (مسين) في حصن (مسين) بالقرب من درسدن، وبدأت صناعة الفخار السكسوني، وهو النوع المشهور الذي يصنع في درسدن.
ولم يستفد بوتجر المسكين إلا قليلاً من استكشافه هذا. فإن أغسطس الذي أصبح في الوقت نفسه ملكاً على بولونيا، كان حريصاً على سر صناعة الصيني مثل حرصه على أمواله ومثل حرص الصينيين على سر صناعة أوانيهم.
وكان العمال الذين يشتغلون في هذه الصناعة يسجنون في الحصن ويحملون على أن يقسموا على الاحتفاظ بسر صناعتهم إلى أن تطوى عليهم القبور، وكان بوتجر نفسه في حكم السجين وكان مع إشرافه على مصنعة يتابع دراسته لسر استخراج الذهب مع متابعته صنع الفخار.
وفي عام 1716 حذق صنع الفخار فأصبحت الأطباق من الوجهة الفنية في درجة الكمال التي بلغها الصينيون في هذه الصناعة ومات في سنة 1719 وهو في الرابعة والثلاثين من العمر ولا يزال إلى اليوم في معارض درسدن قطع من ذهبه الكيميائي وهو ثمرة محاولته الجدية إلى جانب مصنوعاته الخزفية، ومن المشكوك فيه أنه تبين أهمية استكشافه للنوع الأخير بالنسبة للعالم الغربي بأسره.
لقد ترقى القرن الثامن عشر بواسطة هذا الاكتشاف وقد ذلل بوتجر صعوبة الحصول على خزف صلب أبيض شبيه بالشفاف فالنوع الذي أنتجه من الصيني نموذج لكل ما بين أيدينا اليوم من الخزف
ووجدت محاجر الكاولين (صلصال الخزف) في ليموجيس في فرن، فقد حدث بطريق المصادفة أن امرأة وجدت جذور بعض النباتات المنزرعة في حديقتها وقد علق بها مسحوق أبيض، وبدأت صناعة الصيني بعد ذلك في تلك الجهة ولا تزال موجودة بها إلى اليوم
ومنذ ظهور هذين المركزين يبدأ تاريخ التطور الذي حدث على نظام طعامنا لأن الأطباق الخشبية والأطباق المصنوعة من الصيني أو الحجر، كل تلك الأطباق الكبيرة التي كانوا يغمسون فيها أصابعهم قد زالت وحل محلها الأطباق الصغيرة التي يختص كل فرد بطبق منها
وكانت بداية ذلك كله أن كيميائياً غضب ذات صباح لأنه وجد شعره المستعار أثقل من العادة.
(يتبع)
ع. أ