مجلة الرسالة/العدد 332/الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش

مجلة الرسالة/العدد 332/الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 11 - 1939



للأستاذ عبد اللطيف النشار

يا بعد ما بين القوة وبين التبجح!

وهل تعده قوياً ذلك الشكس الشرس الذي يخشى أن يوصم بالضعف فهو لا ينفك يهاهي ويباهي؟!

يا بعد ما بين الشجاعة وبين ذلك الهذر هذر المهاتر الخائف الواجف فهو لا يزال يتهدد ويتوعد حتى لا يقال إنه أذعن أو يوشك أن يذعن

كثر في هذه الأيام شعر الأناشيد العسكرية وقلما خلت أنشودة من ذكر الدم والفداء والاستشهاد والتضحية. فهل هذا الشعر قد وضع للإزعاج والتخويف، أو لبث الروح العسكرية القوية، تلك المتعلقة بالحياة التي تترنم بالحب والجمال وتفيض بالشوق والحنين.

دعت قيادة الجيش المرابط ووزارة الدفاع ووزارة الشؤون الاجتماعية سادتنا الشعراء إلى وضع ألحان حماسية ليأخذوا بنصيب في نشر الثقافة العسكرية. وكان شرفاً عظيماً أن تتجه هذه الهيئات السامية إلى فريق مثقف من الأمة فتدعوه إلى هذه المشاركة. ولكن شعراءنا كانوا أحوج إلى الثقافة العسكرية من جنود الجيش المرابط فخالوا أنه ما دامت الدعوة من هيئات حربية ولغرض عسكري ومن أجل الجنود فلا أقل من أن يكون الشعر عروقاً تتفجر وأشلاء تتبعثر وسلاحاً يتكسر!

كلا أيها السادة الشعراء، هذا أدل على الخوف منه إلى الشجاعة، وهذا النوع من الحماسة لا يشابههه إلا نوع آخر في الحب جعلتم فيه علامة العشق البكاء والانتحاب والتمرغ على الأبواب وذكر الدموع والأرق والسهاد. ولا حب في هذه الذلة ولا قوة في ذلك التبجح

أدب القوة!؟

نعم ونعيم عين وحباً وكرامة

ولكن ما هي القوة؟

شعر الحرب!؟

نعم ونعيم عين وحباً وكرامة

ولكن ما هو الحرب؟! ليست الحروب جديدة في التاريخ العربي، ولا شعر الحماسة جديداً في لغتنا الفاتحة الظافرة فكونوا مجتهدين ولكم إمام، أو كونوا مبتكرين على شريطة الصدق في الإلهام؟

إن للجنود أناشيد في كل اللغات ولكن أناشيدهم حافلة بالحنين وبالشوق وبالتمدح بالأهل والوطن وبالغزل الرقيق، فهذا هو الشعر الذي يثقف الجنود ثقافة عسكرية. أما الألفاظ الدامية فلا يهديها الشعراء إلى الجنود كما لا يهدي النمر إلى هجر كما جاء في المثل.

(يا شباب النيل يا عماد الجيل)

مطلع جميل! ولكن ماذا يقال لشباب النيل وعماد الجليل؟

يقال إن أجمل امرأة لأقوى فارس. هكذا قيل في الشعر الحماسي وهكذا ينبغي أن يقال. أما كونوا الفداء، وأريقوا الدماء، ولا تهنوا في الدفاع عن اللواء، فهذا ما يعلمه شباب الجيل للشعراء لا ما يتعلمونه من الشعراء، وقد يكون الشعراء من عماد الجيل ومن شباب النيل ولكنهم عند ذلك لا يقولون بل يفعلون

وبعد فقد كان للنبي (ص) شعراء وكانوا يضعون الشعر الحماسي لفاتحي الفتوح وغالبي الغالبين وقاهري القاهرين فماذا قال شعراء النبي؟ قال حسان:

إن كنت فاعلة الذي أوعدتني ... فنجوت منجى الحرث بن هشام

ترك الأحبة لا يدافع عنهم ... ونجا برأس طمرَّة ولجام

فبهذه السخرية ظفر بفارس قائد فأحرجه فعاد إلى الجيش فاستشهد في الموقعة التالية

بهذه السخرية لا بالألفاظ الجوفاء حمل القائد الذي كان قد فر إلى أن يعود للرسول فيقول:

الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبد

وعلمت أني إن أقاتل مفرداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي

ففررت منهم والأحبة فيهمو ... طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد

ولو أن حساناً قال يا شباب النيل يا عماد الجيل لتغير وجه التاريخ!

يا أساتذتي الشعراء، لا أستخف بالأناشيد التي تذاع إلا لأني أثق باستطاعتكم وضع أناشيد جدية لو اطلعتم على الأناشيد الحماسية في اللغات الأخرى أو رجعتم إلى الشعر الحماسي في لغتكم أو رجعتم إلى خيالكم الصادق ولباقتكم فعرفتم كيف ينبغي أن يقال للجندي وكيف ينبغي أن يقول الجندي، وماذا يخطر بباله وبماذا يشعر أيحارب لأنه يريد أن يموت حباً في الموت فيقال له الفداء والدماء، أو يحارب لأنه يحب الحياة الكريمة؟ فإن يكن الموت ولابد (فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) أيحارب حباً في سفك الدماء أم ضناً بسلام بلده أن يعتدى عليه؛ فإن لم يكن بد من رد السهم إلى الرامية فان

قومي همو قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت أصابني سهمي

أيحارب لأنه مل الحياة أم لأنه يرجو أن ينتصر فيسعد في الحياة؟ زينوا ثمر النصر ولا تذكروا ثمنه (فمن خطب الحسناء لم يغله المهر) واذكروا ذلك الشعر الحماسي العربي الذي عماده الغزل، وذلك الشعر الحماسي الأوربي الذي عماده الخيال الصادق في تصوير نجوى النفس

هذا فيما يتعلق بالأناشيد وهي أدنى ما يراد منكم، فالعسكريون أقل حاجة إلى حماستكم من المدنيين إلى حسن تصويركم؛ فضعوا للمدنيين القصائد المسهبة في وصف الحياة العليا التي تتخيلونها والتي من أجلها نحمل ضرورات الحرب إن وقعت. صفوا الترف والنعيم

كان حسان شاعر النبي يقول:

نشربها صرفاً وممزوجة ... ثم نغنى في بيوت الرخام

فهذا النعيم الذي يصفه هو الذي من أجله يدعو إلى الحرب فيطاع

وما آمركم بشيء أنا عنه بنجوة. أبدأ بنفسي. ولما كنت أومن بأن احتذاء المثل من أقوى أركان الفنون فسأبدأ بترجمة بعض الأناشيد الحربية التي كسبت بهت مواقع، وباختيار أناشيد حربية عربية كسبت بها مواقع، ثم أعرض نماذج من شعري الذي أدعو إليه. والى الملتقى على صحائف الرسالة.

عبد اللطيف النشار

جندي متطوع في الجيش المرابط