مجلة الرسالة/العدد 332/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 332/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

مجلة الرسالة - العدد 332 المؤلف زكي مبارك
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 11 - 1939


للدكتور زكي مبارك

(النهاية)

هل أستطيع أن أحدِّث القارئ مرةً عن بعض مكاره النقد الأدبي؟

ليتني أعرف من أغروني بسلوك هذا الطريق المحفوف بالمخاطر والمعاطب والحتوف!

كنت تبت ونجاني الله من مهلكات هذا الطريق الوعر الشائك، فكيف رجعت إليه بعد أن عرفت وجه الخلاص؟

كان الأستاذ أحمد أمين أحد الأصدقاء الذين رأيت أن أتجنب الوقوف في طريقهم مهما كانت الأحوال، وكانت الحجة بيني وبين نفسي أن هذا الرجل رقيق الإحساس، أو ضعيف الأعصاب، فلا يجوز أن أعرض له بإيذاء.

وما زلت أذكر ما وقع في سنة 1935

كنت يومئذ مدرساً بكلية الآداب، وأخرج الأستاذ أحمد أمين الجزء الثالث من ضحى الإسلام، وقد سرق من الأستاذ إبراهيم مصطفى مسألة متصلة بتاريخ النحو وسرق مني مسألة متصلة بتاريخ التشريع الإسلامي، فصاح إبراهيم: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدة فكيف يسرقها مني؟ إنه لطمّاع!

جلست أنا وإبراهيم نتشاكى في غرفة أساتذة اللغة العربية، وانتقلنا من التشاكي إلى التباكي، فهتفتُ: سأنتقم لي ولك يا إبراهيم!

فقال: يعزّ عليّ أن يَجرح الأستاذ أحمد أمين بسببي، وهو صديق قديم، ولم ينهب مني شيئاً قبل هذه المرة، وأنت يا صديقي قد أوغلت في معاداة طه حسين فلا تضف إليها معاداة أحمد أمين!

وشاءت المقادير أن أقص هذه القصة على بعض أصدقائي في بغداد سنة 1938 فكان من أثر ذلك أن يوجَّه إليَّ سؤالٌ في جريدة (الكلام) عن بيان ما سرق مني أحمد أمين.

ورأيت أن أعتصم بالصمت فلا أجيب: لأني كنت نشرت قبل ذلك كلمة أثنيت بها على جهود أحمد أمين في جريدة (الهدف) ولأني كنت أستقبح اغتياب أبناء وطني في جرائد بغداد، فقد كان أدباء لبنان يسمونني سفير العروبة المصرية في العراق.

ومنذ أشهر نشر الأستاذ أحمد أمين مقالته الأولى فيما سمّاه جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي فلم تعجبني: لأني رأيتها من الحديث المعاد، ثم لقيني مصادفةً في (المترو) بعد ظهور مقالته الثانية فسألني عما أراه في الأفكار التي أودعها مقالتيه، فقلت له: لم يعجبني غير نقد الشاهد الذي أوردته من كلام ابن قتيبة، أما سائر أفكارك فتحتاج إلى تحقيق، فقال: أنا دعوت القراء إلى مناقشة تلك الأفكار، وأنا أرحِّب بكل ما يَرِد إلي من تصحيح.

فهل كان يدعوني إلى أن اساجله الحديث؟

كانت الصداقة بيني وبين الأستاذ أحمد أمين قد بلغت أقصى حدود المتانة والصدق، وما كان ينتظر أن يرى مني غير ما يحبّ، وكنت والله خليقاً بالتجاوز عن سيئاته لو لم يُسرف في الإساءة إلى ماضي اللغة العربية في وقت يحرص فيه العرب على تفهيم أبنائهم أن أجدادهم كانوا من أصحاب الرفيعة في العلوم والآداب والفنون، وأنهم كانوا في ماضيهم من أقطاب الزمان.

وكذلك وقعت الواقعة وكان ما عرفه القراء من تمزيق الأوهام التي اعتز بها ذلك الصديق.

ولكن ما الواجب لهذا التمهيد في مطلع المقال الثاني والعشرين؟

أنا أريد أن يعرف القارئ أني أشعر بالضجر حين أثبت في مقال اليوم أن أحمد أمين سرق بعض آرائي، بعد أن أثبتُّ ما سرق من الدكتور أحمد ضيف والدكتور طه حسين، وما كان يهمني أن ينص على ما سرق مني، ولكن اعتزازه بآرائه (المبتكَرة) أوجب الحدّ من جرأته العاتية في نهب تلك (المبتكرات).

وأدخل في صميم الموضوع فأقول:

اهتم الأستاذ أحمد أمين بالنص على أن الشعر العربي كان في أغلب أحواله أدب معدة لا أدب روح، وحجته في ذلك أن التكسب بالشعر كان عادةً غالبةً على أكثر الشعراء، وقد طنطن بهذه المسألة وأخذ يعيدها في كل مكان حتى صحّ للأستاذ محمد العشماوي بك أن يواجهني بهذه العبارة:

(كيف تعيب على الأستاذ أحمد أمين أن يقول إن شعراء العرب كانوا يتجرون بأشعارهم، وهو قول صحيح)؟ فهل ابتكر الأستاذ أحمد أمين ذلك الرأي؟

انظروا ما جاء في كتاب (البدائع) ج 1 ص 99

(لا أنكر أن كثيراً من الشعراء اتخذوا مدح الملوك والأمراء وسيلة من وسائل العيش، ولا أنكر أن كثيراً منهم وصل بذلك إلى أسفل دركات الاسفاف، واصرِّح بأن من النقائص النفسية أن يسخر الشعر تسخيراً في سبيل المنافع الزائلة، وأعترف بأن هذه النقيصة تمسُّ كثيراً من شعراء اللغة العربية، وإن كان من أسباب العزاء أن هذه النقيصة لم يتفرد بعارها شعراء العرب فقد كان أكثر الشعراء في أوربا يعيشون عالةً على الملوك والأمراء ولم يعرف منهم باستقلال الشخصية إلا القليل. ولكني - مع هذا - أقول بأن المديح ديوان العرب، وهو الوثيقة الباقية على ما كان فيهم من كرم الشمائل والخصال. والمادحون قد يكذبون، ولكنهم في كذبهم يصورون ما اصطلح عليه معاصروهم من ألوان المحاسن والعيوب، فالشاعر الكاذب يقف كذبه، عند حقيقة ممدوحه، ولكنه من الوجهة الاجتماعية صادق كل الصدق، لأنه يصور ما يتشهى ممدوحه أن يتصف به من كرائم الخلال).

وهذا البحث كان من البحوث التي راعت الأستاذ المازني وكان نُشرَ في جريدة البلاغ قبل أن يُضم إلى الطبعة الثانية من كتاب البدائع.

وقد رأى الأستاذ أحمد أمين أن ينهب الشطر الأول من الفكرة ويغفل الشطر الأخير، لأن الشطر الأخير فيه توجيه لمدائح الشعراء وهو حريص على طمس محاسن أولئك الشعراء.

وعاب أحمد أمين على العرب أن يلتزموا افتتاح القصائد بالنسيب وأن يتنقلوا بهذه العادة من جيل إلى جيل، في حين أن الشاعر قد لا يكون مشبوب العاطفة في كل حين.

وهذا الكلام مسروق من مقال أرسلته من باريس سنة 1931 وفيه أقول:

(لقد درج شعراء اللغة العربية منذ الزمن القديم على افتتاح القصائد بالنسيب، وتلك طريقة لها محاسن ولها عيوب: فمن محاسنها أنها تمهد للشاعر طريق الكلام، وهي بذلك أشبه بالموسيقى تتقدم الغناء ليثور قلب المغنِّي ويُرهَف إحساسه للتلحين والتطريب. ومن مساويها أنها تفرض على الشاعر ما لا قِبَل له باحتماله من التغني بعواطف قد تكون خمدت في صدره منذ أزمان. على أن الشعراء الأقدمين قد التزموا هذه القاعدة حتى وصلت ببعضهم إلى الإسفاف، وحسبُ القارئ أن أذكر له أن من الشعراء الماضين من كان يفتتح قصائد الرثاء بالنسيب، وذلك أغرب ألوان الشذوذ، وقد أحصيتُ من هذا النوع عشرين شاهداً هي في مذكراتي بمصر، فليعذرني القارئ إن اكتفيت بالإشارة إليها في هذا الحديث)

وصرح أحمد أمين بأن المعاني القديمة لم تخضع للتجديد، وإنما نقلها الشعراء بلا تجميل ولا تحسين. أفلا يصح القول بأنه سرق هذه الفكرة مما جاء في كتاب (البدائع) ج 1 ص 29.

(إن شعراءنا يدورون حول الحسن فلا يرون منه غير ما كان يرى الأقدمون. فحيرةُ الشاعر اليوم هي حيرة أسلافه منذ قرون مع أن النفوس قد تعقدت أشد التعقد، وهذا الحُسنُ - إن لم يلطف الله - ماضِ في الفتك بلفائف القلوب، وقد جدّت للأرواح أزمات جديدة ومطامح جديدة لم يَشْقَ بها الأولون، فليس من المغالاة في شيء أن نصارح القراء بأن الغزل في شعر شوقي وأضرابه من المعاصرين أصبح أعجز ما يكون عن وصف ما في نفوسنا وأرواحنا وقلوبنا من ألوان القلق والظمأ والالتياع).

واهتم الأستاذ أحمد أمين بتوكيد القول بأن نزعة القرآن روحية لا حِسيّة. فنال بذلك ثناء الأستاذ محمود علي قراعة الذي عدّ كلامه من المبتكرات، فهل يعلم أن هذا الكلام مسروق من قول صاحب (التصوف الإسلامي) ج 2 ص 7.

(وأقرب الآثار الصوفية إلى أذهان الناس هو القرآن، ذلك الكتاب الذي أطال القول في وصف الدنيا وذمها وثلبها وتحقيرها، وقضى بأنها لهو ولعب، وأنها في نضارتها ليست إلا متاع الغرور. القرآن هو أقرب الآثار الصوفية إلى أذهان الناس وإن جهلوا ذلك، هم يعدّونه كتاب تشريع ونراه كتاب تصوف. إن التشريع في القرآن ليس إلا تنظيماً للعلاقات الدنيوية، والعلاقات الدنيوية في نظر القرآن هي تمهيدٌ للصلات الروحية: صلات الناس بالله الكبير المتعال، وكلُّ مَغنم لا يُقرِّب المرء من ربه هو في نظر القرآن ذُخرٌ باطلٌ سخيف)

ومع ذلك يقال إن أحمد أمين يدعو إلى الروحانيات وإن زكي مبارك يقاوم الروحانيات!

فيا ربَّ هل إلا بك النصر يُرتَجَى ... عليهم؟ وهل إلا عليك المعوَّلُ؟

غفر الله لي ولكم، يا إخوان هذا الزمان!

ويوصي أحمد أمين بقَصْر دراسة تاريخ الأدب على المعاهد العالية والاكتفاء في المدارس الثانوية بنصوص مختارة من الأدب الحديث.

فمن أين أخذ هذا الكلام وهو الذي اشترك مع لجنة مكونة من أشخاص معروفين في تأليف كتابين للمدارس الثانوية بُدِئ فيهما بالأدب الجاهلي والأدب الأموي، وهما عصران أعلن عليهما الحرب في هذه الأيام؟

أخذ هذا الكلام من قول صاحب رسالة (اللغة والدين والتقاليد) ص 42 و 43.

(إن درس تاريخ الأدب بدعةٌ نقلناها نقلاً عن أوربا، وهي مقبولة هناك؛ لأن الأدب الأوربي يكثر في القصَصَ والتمثيل، وهي موضوعات أَلفها التلاميذ، لأنهم منذ الطفولة عرفوا القصَصَ وعرفوا التمثيل، فلا يصعب عليهم أن يفهموا الفرق بين فن وفن، وعصر وعصر، وأسلوب وأسلوب. أما في مصر فالأدب في جملته يتحدث عن شؤون جِدية لم يعرفها الشبان من قبل، فمن العسير أن يدركوا كيف تطور واستحال من جيل إلى جيل. . . إن تاريخ الأدب لا ينبغي أن يدرس إلا في المعاهد العالية، أما المدارس الثانوية فيدرس فيها الأدب الصِّرف، مع العناية بشرح النصوص والبحث عن مواطن الجمال في النثر الجيد والشعر البليغ. . . درس تاريخ الأدب في المدارس الثانوية جهدٌ ضائع، وسنصبر عليه إلى أن تسوق المقادير رجلاً حاذقاً من بين الذين عرفوا عقلية التلاميذ، وما أظن أننا سنصبر طويلاً، لأن العناية بإصلاح التعليم تزداد من يوم إلى يوم، والى أن تحذف تلك المادة الفضولية نوصي أساتذة اللغة العربية بأن يتخيروا للمطالعة والمحفوظات نصوصاً لا تخرج عن الأدب الحديث، لأنه أقرب العصور إلى أذهان التلاميذ، وقربُهُ من أذهانهم يساعد المعلمين على بيان ما يتصل به من الملابسات الخلقية والاجتماعية، ويمكِّن التلاميذ من فهم ما فيه من أسرار البيان).

ورسالة (اللغة والدين والتقاليد) نشرت في سنة 1936، والفكرة قديمة عند صاحب هذه الرسالة فهي مُثْبتةٌ في كتاب (ذكريات باريس) الذي طبع في سنة 1931.

وأحمد أمين يعرف أن الجندي المجهول الذي اسمه زكي مبارك هو الذي غير منهج دروس الأدب في مدارس وزارة المعارف من حال إلى حال، فقد كانت تبتدئ بالعصر الجاهلي فصارت تبتدئ بالعصر الحديث. ومن السهل أن نستخرج المذكرات التي قدمتها للوزارة في هذه القضية ليعرف أحمد أمين هوية الرجل الذي وَأَد كتاب (المجمل) وكتاب (المفصَّل) عليهما رحمة الله، وعلى مؤلفيهما السلام، وهي تحية تصل أصداؤها إليه وإلى علي الجارم وأحمد ضيف وعبد العزيز البشري وطه حسين.

وسيأتي يوم أفصِّل فيه ما أديت من الخدمات لتوجيه الحياة العلمية بوزارة المعارف؛ تلك الخدمات التي انتفع بها أحمد أمين وغير أحمد أمين، ثم مضت بلا شكر ولا جزاء غير السرقة والانتهاب!

إن الفخر بغيض ممقوت، وقد عابه عليَّ الأصدقاء قبل الأعداء؛ ولكن ماذا أصنع وأنا أشهد آرائي تُنتهب بلا تحرُّز ولا ترفق، وبها يرد على خصومي حين يشتجر القتال، وكأنها مما ابتكرت أفكارهم الثواقب وألسنتهم النواطق!

ويقول أحمد أمين وطه حسين: إن الأدب يجب أن يرفع نفسية الأمة ويدلها على مواطن الضعف والقوة لتواجه الحياة عن هدى وبصيرة

فهل أستطيع أن أقول إن هذه الآراء منهوبة من قول صاحب رسالة (اللغة والدين والتقاليد) (ص 46 و 47).

(فإذا انتقلنا من الأدب وتاريخ الأدب في المدارس الثانوية والعالية تلفتنا نبحث عن الأديب المخلوق لدرس الحياة، ونحن نرجو أن يكون في أساتذة الأدب من يخرج على الذوق المتكلف والوقار المصنوع، نرجو أن يكون عندنا أساتذة يزورون تلاميذهم في بيوتهم، ويرافقونهم في الحفلات والسهرات، ويطوفون بهم على الأحياء الشعبية ليعلموهم كيف تكون الثورة على ما في حياة الشعب من بؤس وشقاء. . . نريد أساتذة يربون تلاميذهم على مرافقة العمال والصناع والفلاحين ليكونوا في المستقبل من حملة الأقلام الثورانية التي تبدد غياهب الجهل والخمول. . . نريد أدباً يبعث في الشعب روح التمرد على الفقر والمسكنة والذل، ويروضه على الطمع الشريف في الغنى والكسب والعزة والكبرياء. . . نريد أدباً يطمعنا في استرجاع ما ضاع من مجد مصر والنيل. . . نريد أدباً يرفعنا إلى صفوف الجوارح، نريد أدباً يعلمنا فضل المِخلب والناب، نريد أدباً نسيطر به على الدنيا غير باغين ولا عادين).

أما بعد فقد أنهيتُ القول في محاسبة الأستاذ أحمد أمين بعد أن أرَّقت جفونه خمسة أشهر كانت عنده كألف سنة مما تعدون، وأنا أشكر لمجلة (الرسالة) وقرائها ما لقيت من تشجيع وترحيب.

انتهيت من محاسبة أحمد أمين الباحث، أما أحمد أمين الصديق فله في قلبي أكرم منزلة وأرفع مكان، ولن يراني إلا حيث يحب في حدود المنطق والعقل، فما أرضى له أن يكون من الساخرين بالأدب العربي وماضي الأمة العربية

وسأبدأ بالتحية حيث ثَقِفْتُه. فلا يَزْو عني وجهاً أراه أهلاً للكرامة والحب.

وسلام عليه من الصديق الذي لا يغدر ولا يخون.

(تم البحث)

زكي مبارك