مجلة الرسالة/العدد 332/وزارة الشؤون الاجتماعية

مجلة الرسالة/العدد 332/وزارة الشؤون الاجتماعية

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 11 - 1939


المرض. . .

- 3 -

بعد الجهل والفقر لابد أن يجيء المرض. فهو في الترتيب الطبيعي ثالث العناوين البارزة في دستور وزارة الشؤون الاجتماعية.

وإذا كان الجهل يمنع أن يكون لنا رأي عام، والفقر يمنع أن يكون لنا خير مشترك، فإن المرض يمنع أن يكون لنا كيان صحيح. وإذا لم يكن للمجتمع رأي عام ولا خير مشترك ولا كيان صحيح، فسمه ما شئت إلا أن تسميه أمة.

ولعل المرض كان العَرض الملازم الذي يميز الشقاء المصري من كل شقاء في العالم. وإن أثره في تاريخنا الاجتماعي كان كأثر الزلازل والبراكين والحروب في تاريخ البلاد الأُخر. فقد كانت الأوبئة تفد إلى مصر عاماً بعد عام فتجتاح نصف السكان وتصيب النصف الآخر بعاهات تدعه كالشجر اليابس لا للظل ولا للثمر. والعلة الأصيلة في ذلك أن أبانا النيل منذ شقه الله يجري فيكون الخصب والغضارة والحياة، ثم يركد فيكون الجدب والذبول والموت. وفيضانه ونقصانه يتعاقبان تعاقب الجديدين. فإذا فاض أنعش الذاوي وجدد البالي وأحيا الموات؛ وإذا نقص تخلفت بقاياه في أجواف المصارف وأطراف الترع ومناقع الأرض فتكون مزارعَ خصبة لجراثيم التيفود وبعوض الملاريا وقواقع البلهارسيا وديدان الأنكلستوما، وبنو النيل الدائبون البررة لا ترتفع أيديهم من مائه، في حالي نقصه ووفاءه؛ فخيرهم منه لا يزال مشوباً بالشر، ووجودهم فيه لا ينفك مهدداً بالعدم. فإذا أضفت إلى ذلك أن الجهل يستوجب فساد العيش وترك الوقاية، وأن الفقر يستلزم سوء الغذاء ونقص العلاج، فقد اجتمعت لك أسباب المرض التي جعلت الكثرة الكاثرة منا مذبذبين بين الدور والقبور لا هم في الأحياء ولا هم في الموتى.

إذا استطعت أن تقيم البناء من ناخر الحجر، وتنسج الرداء من رثيث الخيط، استطعت أن تؤلف من مهازيل المرض وسُقَاط الوهن شعباً يستغل الأرض وجيشاً يحمي الوطن.

تعال نزر قرية من قرى الريف فأريك كومة مبسوطة من سباخ الأرض، في مستنقع واسع من آسن الماء، فقد قامت عليها أبنية من الطين والقصب والخشب تجمعت على ظهوره المراحيض والمزابل، وتكدست في بطونها الناس والبهائم، وتطرحت على أبوابها ومصاطبها الرجال والأطفال وقد هدَّتهم العلل وبَرَتهم الأسقام حتى ليعجزون عن دفع الذباب عن وجوههم الساهمة الشاحبة. فإذا سألت هؤلاء المنهوكين بالزُّحار والصُّفار والسُّلال والطُّحال والحمى والرمد: من الذي يزرع الأرض ويتعهد الزرع، ويحصد الثمر ويجمع الحصيد، وينجل العلف ويرعى الماشية؟ قالوا لك: يعمل ذلك كله قليل من الشبان الذين يدافعون المرض بالجلَد، وكثير من النساء اللاتي يغالبن الضعف بالصبر. ومما ترى وتسمع يتسنى لك أن تروز العبء الذي تحاول وزارة الشؤون الاجتماعية أن تضطلع به.

ولكن هل من الحق أن يلقى عبء الصحة العامة على كاهل هذه الوزارة المفدوحة بأمور المجتمع؟ إذن فماذا تصنع وزارة الصحة؟ والجواب أن الجهاد الصحي مفروض على الوزارتين جميعاً بنظام تقتضيه طبيعة كل منهما فلا يُثقل إحداهما ولا يعطل الأخرى. فكل ما يتصل بالوقاية والصيانة يرجع إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، وكل ما يتعلق بالطب والعلاج يعود إلى وزارة الصحة؛ وقد يجوز لهذه بحكم خصوصها أن تصون وتقي، ولكن لا يجوز لتلك بحكم عمومها أن تعالج وتَطب.

فمن الطب الوقائي المنوط بوزارة الشاذلي باشا تخطيط القرية على نمط يكفل لها الشمس والهواء والجمال والذوق والراحة، وفصل الحظائر والمزابل عن المساكن، وتجفيف البرك والمستنقعات، وتطهير الماء الراكد من الطفيليات، وإنشاء المغاسل والمراحيض العامة، ورفع مستوى المعيشة القروية بتحسين الغذاء وتنقية الماء وتعميم النظافة، وإرشاد الفلاحين عن طريق الإذاعة والصحافة والوعظ إلى أنجع الوسائل في اتقاء العدوى وتدبير البدن.

ذلك عملها في القرية، وأما عملها في المدينة فبناء المساكن الصالحة للعمال، ومراقبة المعامل والمصانع من حيث الصحة، وملاحظة المطاعم والمشارب من حيث النظافة، ومراعاة الطعام والشراب من حيث السلامة، وحماية الطبقة العاملة من رهق العمل، ووقاية النفوس الغاوية من سموم المخدرات، وبث الروح الرياضية في كل طبقة، وإنشاء الملاعب والمسابح والأندية في كل بيئة، وإقامة المسابقات النهرية والبرية في كل فرصة، وتفريج الهموم بإقامة المهرجانات الشعبية في كل مناسبة، وتعميم الثقافة الصحية عن طريق التعليم والإذاعة والنشر.

هذا مجمل ما ينبغي أن تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية لمكافحة المرض. فإذا أضفناه إلى ما أجملناه قبلاً من الوسائل الفعالة في كفاح الجهل والفقر كان لنا من مجموع ذلك برنامج كامل شامل لا يعوزه غير التنفيذ. فليت شعري أتظل الوزارة واقفة من شؤونها الاجتماعية موقف خراش من ظبائه، أم تجري على هذه الخطة الواضحة فتأتي كل أمر من وجهه وتعالج كل داء بدوائه؟

أحمد حسن الزيات