مجلة الرسالة/العدد 338/القصص
مجلة الرسالة/العدد 338/القصص
الإغماء!. . .
أقصوصة مصرية
(مهداة إلى الأستاذ محمود بك تيمور)
بقلم الأستاذ خليل شيبوب
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
زارتني سلمى مرة في مكتبي وطلبت مني أن أصطحبها إلى مكتب زوجها، ففعلت، ولما كنا في الشارع، علَّقت يمناها بيسراي كأن ذلك طبيعي بيننا، ولم يظهر على وجهها أي استغراب لما فعلته، وصارت إذا جزنا عرض الشارع من رصيف إلى رصيف احتمت بي من السيارات المسرعة، وشدت بذراعها على ذراعي في حركة عصبية عنيفة.
وصرت أفكر طويلاً، هل بدر مني شيء يدل على رغبتي في استدراجها إلي، لأن سلوكها معي لم يعد يحتمل الشك في رغبتها في استدراجي إليها؟ ووقفت حائراً بين أن أفقد صديقين أحبهما حب الإخلاص الصحيح، وبين أن أخون صديقاً ألفته منذ الصبا وأحول صداقة فتاة عرفتها متدارية بثياب والدتها ووالدتي، إلى حب لا أقدر مداه ولا نتيجته.
وكانت كل هذه الأمور تجري وسلمى لم تحرك شفتها مرة واحدة بكلمة ملتوية، ولا تنهدت مرة واحدة في وجهي، ولا لمست مرة واحدة يدي لمسة تحتمل تفسيراً أو تأويلاً. ولكن سرعان ما زحمتني الحوادث وبعدت بي عن تلك الحياة الطيبة التي أذكرها اليوم والأسى يملأ صدري، والدمع يكاد يتفجر من مقلتي.
أجل خاطبتني سلمى بالتليفون تقول: ألا تشرب الشاي معنا اليوم فإني بانتظارك في الساعة الخامسة تماماً لعلنا نخرج في السادسة والنصف إلى السينما.
وإني اليوم بعد طول العهد لا أزال أراني نازلاً من العربة أما باب الحديقة سائراً في الممشى القصير إلى باب المنزل أقرعه قرعة تعرفها الخادمة فتخف إلى الباب تفتحه وأدخل إلى القاعة التي ألفت كل أثاث من مفروشاتها. فهذه مقاعدها المذهبة وحريره الأحمر المجزع بالبياض، وهذه خزانة البلور التي حفلت بقطع النفائس التي يتأنق عزيز في اقتنائها، وهذه مائدة الرخام المستديرة عليها طاقة الورد الصناعي، وهذه الرسوم المعلقة التي أعرفها وتعرفني، وأحسن ما فيها صورة سلمى الزيتية متقنة كل الإتقان أم صورة عزيز ففيها سطور غامضة والنور منعكس عليها من فوق بينما وجب على الرسام أن يعكسه عن اليمين، وطالما تناقشنا في هذا الرسم وبحثنا في نظرية النور والمنظر. وهذا صندوق اللفائف مصنوعاً من الآبنوس الملبس بالأصداف أتناول منه واحدة أشعلها وأقف أمام النافذة المطلة على المحمودية أنظر مياهها الكدرة المتدفقة إذ كنا في أول سبتمبر وفيضان النيل على أشده.
نعم لا أزال أفكر في هذا كله كأني أراه الآن ماثلاً أمام عيني. ثم طال انتظاري فقرعت الجرس وجاءت الخادمة، فقلت لها: أين الجماعة؟. . . فأجابت: إن سيدتي ترتدي ثيابها، وأما الأستاذ فقد ذهب منذ هنيهة. ثم نظرت إلى الخادمة نظرة لم أرتح لها. وما هي إلا ثوان معدودة حتى جاءت سلمى يموج جسمه في دثار ياباني قد التفت به حاسرة عن ذراعيها وصدرها. وقد صففت شعرها وعقصته بمشط لين العاج قد انتظمت على حافته حجارة مبرقة، وأصلحت من شأنها في كثير من الاختصار والانسجام. فما أن رأتني حتى مدت إليّ يدها مصافحة، وقالت وهي تبتسم عن مثل اللآلئ صفاء: عفواً لقد جرى ما لم يكن في حسابي، فإن عزيزاً قد استدعي فجأة لأمر هام وهو يأسف لأنه لا يعود قبل الساعة الثامنة. وقد أوصاني أن أحتبسك حتى عودته لنصل جلسة بعد الظهر بالسهرة. . .
ولم أجد رابة في هذا كله بل وجدته طبيعياً وقلت لها: لعلك لولا حضوري كنت تخرجين مساءً. قالت: لا وحقك إني متعبة فاجلس نثرثر قليلاً. . .
وأخذنا في حديث عن الفيضان والبعوض، وكانت سلمى تقول إنها لم تعد تطيق السكنى في هذا المنزل وإنها سوف تنتقل إلى ضاحية الرمل حيث أكثر الأصدقاء والمعارف، ثم اندفعت في امتداح ضاحية الرمل بينما كانت الخادمة تحضر مائدة الشاي، فأصبت كوباً منه وأكلت قطعة من الحلوى، وقدمت إلى سلمى لفافة من التبغ شرعت في تدخينها، وقد قامت وقعدت مراراً تستحضر إما منديلاً أو صحفة أو ملعقة، ورأيت في تثنيها شيئاً من التصنيع والارتباك، ثم نادت الخادمة وقالت لها: إنه يمكنها الانصراف على أن تكون في المنزل في حدود الساعة الثامنة.
وشدت سلمى ثوبها على جسمها، وقعدت بجانبي، فصور الثوب أعضاء جسمها تفصيلاً، وهبَّت منها رائحة عبقة تغلغلت في دماغي، ثم مدت ذراعها وألقتها على ظهر المقعد ورائي دون أن تمسني، ونظرت إليّ نظرة كدت أستريب منها وقالت: ما رأيك في كأس من الكونياك؟ ولم تتم كلمتها حتى وثبت إلى غرفة الطعام، وفتحت خزانة واستحضرت منها زجاجة وهي تقول: إن هذه الزجاجة تزعم أن هذا الكونياك كان شراب نابليون.
فضحكت وقلت: ونحن الآن نقلد نابليون بشربه.
وسكبت لي كأساً ومثلها لنفسها فشربنا وقد تذوقت الكأس وأعجبت بجودة الصنف فعلاً، أما هي فترشفت نصف كأسها، ثم سكبت لي الثانية.
وقد جرى هذا كله في سهولة وبساطة، وسلمى تقول: إن خياطتها أصبحت من الطمع بحيث صارت تفكر في استبدالها وقالت: إنها خاطت لها قميصاً من الحرير هو هذا الذي تلبسه - ثم كشفت دثارها عنه فإذا به يضم نهديها إلى ركبتيها في تموج غريب - وإنها تقاضت منها أجرة وكلفة لا يحتملها القميص.
وكنت تجرعت الكأس الثانية فسكبت لي كأساً ثالثة رفضتها رفضاً قاطعاً لكنها لم تصغ إليّ. ومضت في حديثها عن القميص بينما أخذت أتمصص الكأس، ثم وقفت أنظر إليها مصغياً إلى حديثها أقول: أنتن السيدات لا تعرفن اهتماماً إلا بهذه الخرق الحريرية. . . فقالت: ألا يعجبك حرير هذا القميص. فابتسمت، فإذا بها واقفة حيالي فاترة العينين ملتهبة الخدين، ثم رفعت ذراعها إلى جبينها وهي تقول: لا أدري ما بي. . . لعل هذا الكونياك قد دار رأسي به. فقلت: لا عليك اجلسي. ولكنها تثنت قليلاً وقالت كأنها تريد أن تصيح: فريد! فريد! اسندني إليك. . .
فذعرت كل الذعر؛ وما أن أسندتها إليّ حتى استرخت بين يدي وضمتني إليها متعلقة بي متثاقلة بجسمها عليّ وأنا أدفع بها في لطف وتؤدة حتى أجلستها على المقعد وقد تلاصقت بي تلاصقاً غريباً وشدتني إلى صدرها شدّاً عنيفاً.
وأردت أن أهرع إلى حيث أستحضر لها كوباً من الماء، ولكن تعلقها بي منعني من ذلك. ولا أدري لماذا خطر لي في إبراق عجيب ذاك الحادث الذي حدثني به زوجها عن تصنع الإماء. فرأيتني في موقف مدهش يقتضي بتّاً سريعاً: إما الخيانة ومسايرتها أو القطيعة والجفاء. وكان دمي يفور ويغلي والعرق يتصبب مني ولا أعرف كيف ولا لماذا قلت لها:
- إياك أن يغمى عليك فإني حينئذ أستدعي لك الإسعاف.
ولا شك أنها سمعت كلامي ولم تأبه له وحسبت أكبر حساب لغريزة الرجل فأصرت على إغمائها، وتلطفت في التملص منها وتباعدت عنها ونسيت الماء والكوب والإسعاف وبقيت واقفاً حائراً، وسلمى قد فتحت دثارها وكشفت قميصها وزاد خفقان صدرها ثم أنَّت قليلاً في خفوت واختناق ثم لزمت الهدوء.
فأشعلت لفافة من التبغ وصرت أذرع الغرفة ذهاباً وإياباً وأنا لا أعي ما أطأ حتى عيل صبري. وكلما طال انتظاري وتمادت في غيبوبتها كان الغضب يطرد في صدري وتقوي عوامل الشرف والصداقة والإخلاص، حتى رأيتني واقفاً أقول:
- هذه مهزلة مألوفة وليس مثلك من يمثلها مع مثلي. ونحن أصدقاء العمر فقد أخطأ حسابك، وإذا كنت أتقنت مثل هذه المهازل فجربيها مع سواي.
وإني لأذكر تمام الذكر أن سلمى انتفضت عن مقعدها كالنمرة الضارية، ثم لمَّت دثارها والتفت به ووقفت في وجهي تلهث من الخيبة وتحدجني بلحظ يتقد غيظاً وقالت وهي تتلظى غضباً:
- أنت رجل مغفَّل.
واليوم إذ أستعيد هذه الذكريات أحاول عبثاً أن أستبين كيف مضت الأيام التي تلت هذا الحادث وكيف نزلت بي حمى شديدة استوجبت نقلي إلى المستشفى حيث قضيت أشهراً بين الموت والحياة علمت بعدها أنه لم تعدني فيها سلمى ولا زوجها. وقد فتَّت الحمى في عزيمتي وغادرتني شائب الرأس مهدوم الجسم؛ وهاأنذا اليوم بعد خمس سنين أراني قد انحدرت بي السن أشنع انحدار وتوغلت في الكهولة أيما توغل.
وفي كل هذه المدة لم تقع عيني على الأستاذ عزيز سامر ولا على زوجته سلمى، ولكنني لا أزال أذكر والأسى يملأ صدري والدمع يكاد يتفجر من مقلتي أنني كنت صديقاً حميماً للأستاذ عزيز سامر ولزوجته سلمى.
(الإسكندرية) خليل شيبوب