مجلة الرسالة/العدد 340/هل خصب الأرض

مجلة الرسالة/العدد 340/هل خصب الأرض

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 01 - 1940


يستلزم جدب القرائح؟

من الأقوال المأثورة أن الحاجة تلد الاختراع وتفتق الحيلة. وهذه الحاجة التي ضمَّنها الله عمارة الأرض ورقي العالم، هي التي جعلت بيئة الفقر مهبط الإلهام ومنبت العبقرية. فأينما تجد الحاجة تجد العمل والذكاء والقوة، وحيثما تر الغنى تر الكسل والغباء والرخاء. ذلك لأن الفقير يضطره العيش إلى أن يفكر فيجيد التفكير، وإلى أن يعمل فيتقن العمل، وإلى أن يهاجر فيزداد بممارسة الشدائد ومنافسة الناس جلاء في الذهن وبسطة في العلم وسعة في الحيلة. ومواهب العقل كأعضاء الجسد تقوى وتنمو بالكد، وتضعف وتضمر بالعطلة. ولا يصعب عليك أن ترى مصداق ذلك في الفروق الذهنية والعلمية الواضحة بين أبناء الفقراء وأبناء الأمراء، وبين سكان مصر العليا وسكان مصر السفلى، وبين بلد كدمياط وبلد كالفيوم، وبين مدينة كأتينا ومدينة كرومة في الغرب القديم، أو بين قطر كفينيقية وقطر كالعراق في الشرق الغابر. ففي كل من ذكرت لك ترى أن جدب الأرض وضحولة الموارد كانا علة في إخصاب العقول وإنما المدرك وكثرة الإنشاء ووفرة الإنتاج، وأن خصب البلد وسهولة الأرزاق كانا سبباً فيما أصاب بعض الناس وبعض الأجناس من البلادة والقعود والترف والغفلة

تستطيع أن تقول إن مصر في جملتها بلد غني يؤتي أُكله كل حين بيسير الجهد وقليل النفقة. فأهله آمنون من موت الجوع، لأن الفقير يملك أن يمسك روحه بنصف قرش، وما أيسر ما يجد قرشين في اليوم بالعمل الحقير أو السؤال الملحف. ومتى حصل المرء من بلده على الكفاف والراحة والأمن، نشأت في نفسه فضيلة القناعة الزائفة. والقناعة في الفقير كالثروة لدى الغني، كلتاهما تقتل طموح النفس، وتسكِّن قلق الروح، وتخمد نشاط القريحة، وتحمل الرجل على الرضى بالدون والتسلم بالواقع

هذا الفقير القانع الذي لا يحس بالحاجة فلا يسعى للغنى، وهذا الغني الوادع الذي لا يشعر بالنقص فلا يطمح إلى الكمال، هما الأثر السيئ لتدليل النيل لبنيه وحَدبَه البالغ على أهله. فالفلاح لا يزال يزرع الأرض بالآلة القديمة على الطريقة القديمة، لأنه لا يجد في نفسه الحاجة التي تحفزه إلى اختراع آلة وابتكار طريقة ما دامت أرضه تغل عليه ما يكفيه بهذ الأداة الرخيصة السهلة

والصانع لا يزال يصنع بيده كل اليوم ما تصنعه الآلة في بعض الساعة، لأنه يجد في جيبه آخر النهار ما يملأ به بطنه بخسيس الطعام وغليظه؛ فعلام يشغل ذرعه بما يقلل النفقة ويكثر الإنتاج ويحسن النوع؟

والطالب يقصر جهده على استظهار المختصرات لأن الامتحان لا يخرج عن هذه المذكرات، والوظيفة لا تطلب إلا بعضاً من الحساب وشيئاً من المصطلحات؛ وما غناء العلم بعد أن ينال المتعلم الشهادة والوظيفة؟

والمعلم يحصر نشاطه في كتب الدراسة وما يتصل بها من مقترح التمارين وموضوع الأسئلة ومحلول المسائل، ثم لا يفكر بعد ذلك في درس مشكلة من مشكلات التربية، ولا حل معضلة من معضلات المجتمع، لأنه ضمن لنفسه المراتب آخر الشهر والعلاوة آخر المدة

والكيميائي أو الفيزيائي يبلغ الدرجة الجامعية العليا في الكيمياء أو الفيزياء، ثم يعلم أن أقرانه في البلاد العاملة الجادة لا ينفكون يسخِّرون للمدنية والإنسانية قوى المادة وأسرار الطبيعة في شكول مختلفة ومظاهر متعددة: في البيت والمدينة، وفي السماء والأرض، وفي السلام والحرب، ولا يفكر عالمنا الكبير أن يزيد في العلم بكشف مجهول، أو يرفه عن العالم باختراع آلة، لأنه لا يبتغي شيئاً وراء اللقب الفخم والمرتب الضخم والحياة الوديعة

والطبيب أو الصيدلي يجعل كل همه في رواج عيادته أو صيدليته، لأن المال هو غايته من الطبابة أو الصيدلة، فإذا بلغها على حساب الطب المحفوظ أو الدواء المجهز فلماذا يكدر صفو عيشه بالاحتباس في معمل ينقب عن جرثومة مرض، أو يجرب مفعول مصْل؟

والسياسي أو المصلح يتوخى بعمله مجد الشهرة وجاه الحكم، فإذا أدركهما بتملق الجمهور أو بعصبية الحزب فلا عليه بعد ذلك أن يظل حزبه من غير منهاج ولا غاية، وأن يزاول عمله الخطير من غير خلق ولا دراية. وإذا كان الرمق في هذا البلد بسد بنصف القرش، والوظيفة تنال ببعض العلم، والمنصب والمراتب يعظمان بمضي المدة، والشهرة والجاه يدركان بإرضاء العامة، والزعامة والحكم يبلغان باحتراف السياسة، فأي شيء يدعو إلى زيادة العلم وإطالة الفكر وإدامة العمل وإضاعة الجهد والعمر في تحرير مسألة، أو تأليف كتاب، أو متابعة كشف، أو محاولة اختراع، أو وضع خطة للإصلاح، أو تدبير سياسة للحكم؟

حاولوا يا قوم أن تهذبوا القناعة في ذهن الفقير برفع مستوى عيشه وإصلاح فساد ذوقه؛ وحاولوا أن تخلقوا الحاجة في نفس الغنى بتشويقه إلى الكمال المطلق وترغبيه في المثل الأعلى، فإنكم إن نجحتم في زعزعة الرضا في القانع المعتر وفي الواجد المغتر، ساورهما القلق الروحي الحافز الذي لا يقنع بما دون الغاية، ولا يرضى للغير بأقل مما يرضي للذات

حاولوا أن تحملوا العلماء والأدباء والأطباء بالجوائز والألقاب على الإنتاج الأصيل والتأليف المبتكر والبحث المنتج حتى ينشأ فيهم على الزمن والمران حب البحث لفائدة العلم، وحب العمل لمنفعة الناس

ثم حاولوا وحاولوا أن تقيسوا كفايات العاملين وأقدار النابغين بغير مقاييس المحاباة والزلفى والقرابة، فإن كثيراً من الأكفاء إنما يزهدهم في العمل والإصلاح اليأس من الإنصاف والقنوط من المكافأة!

أحمد حسن الزيات