مجلة الرسالة/العدد 340/ماذا ربحت وماذا خسرت

مجلة الرسالة/العدد 340/ماذا ربحت وماذا خسرت

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 01 - 1940


من أسواق السنة الماضية؟

للدكتور زكي مبارك

كتب إليَّ أحد تجار الورق يقول: إنه يرجو أن أرسل إليه ما بقي عندي ليسوي حساب تجارته في سنة 1939

وأنا أيضاً أريد أن أسوي حسابي مع قومي وزماني، حساب سنة 1939 فقط، أما حساب الأعوام السوالف فهو عبء ثقيل والرجوع إليه ضرب من الخذلان. وأين أنا مما فات ومات؟ يرحم الله جهادي في سبيل الأدب والبيان!

ربحت في العام الماضي أشياء، وخسرت أشياء!

وأعظم ربح ظفرت به في السنة الماضية هو الصداقة العظيمة التي تفضل بها قراء مؤلفاتي ومقالاتي، فأنا اليوم أشعر شعوراً قويَّاً بأن لي أهلاً وعشيرة في سائر الأقطار العربية، وهذا الشعور يزحزح ما يعترض طريقي من عقبات وأشواك، وبفضل ذلك الشعور أكاد أنسى الأعاصير التي تثور في وجهي من حين إلى حين

والكاتب كالموسيقار يسره أن يعرف أنه موصول الأواصر بالعواطف والقلوب، فمن حدَّثكم أنه لا يهتم بسخط القارئ أو رضاه، فاعرفوا أنه يقترف إثم الغرور البغيض، أو الكذب السخيف.

وتعظُم قيمة هذا الربح في قلبي كلما تذكرت أنه بشيرٌ بقيام دولة قوية للأدب العربي، وهو أدب كان يسيطر في ماضيه على كثير من الأمم والشعوب، فإن استطعنا أن ننتفع بعواطف القراء ونجذبهم إلى الأدب من جديد كان ذلك مجداً ندفع به عدوان أهل البغي على الآداب والفنون

وما الذي يمنع من أن يكون للقلم دولة في هذه البلاد؟

أتصدِّقون ما يمليه الضجر على أقلامنا من وقت إلى وقت حين نتهم مصر بالجحود والعقوق؟

إن مصر في تاريخها القديم والحديث قد استمعت كل قول، واستجابت لكل نداء، فكيف يتوهم الكاتبون والباحثون أنهم لن يلقوا فيها غير الضياع؟ ثم أقول إن العام الماضي كان من الأعوام التي اختبرت فيها أخلاقي. ومعاذ الأدب أن أدَّعي التفرد بكرم الأخلاق، وإنما هي حيلة أتوسل بها لخلق فرصة أنوح فيها على أخي وصديقي محمد الهراوي. وهل ذرف الزيات من الدموع على أبنه رجاء، أو ذرف هيكل من الدموع على أبنه ممدوح، بعض ما سكبت من دم القلب على صديقي محمد الهراوي؟

كان من عادتي أن ارتاد ملاهي القاهرة في المواسم والأعياد لأفهم شيئاً من أسرار المدينة التي تصنع اليوم بأذواق الشرق ما تصنع. فمن يصدق أن شارع فؤاد صار في عيني صورة من صور الإقفار والإمحال، لأنه خلا من وجه الصديق الغالي، وجه محمد الهراوي، وجه الأخ الذي عرفت بفقده كيف يكون الجزع من فقد الرفاق

وهل تسمح الدنيا مرة ثانية بصديق مثل ذلك الصديق؟

وأين الصديق الذي تصحبه عشرين سنة فلا ترى منه غير كرم العهد وصدق الوفاء؟

أين الصديق الذي يرى من السعادة أن يكون رأيه من رأيك وهواه من هواك؟

إن دموعي على محمد الهراوي دلتني على جوانب من أخلاقي، وشرفتني أمام نفسي، وفرضت عليَّ أن أومن بأني رجل له قلب. فلا كان الصبر عنك يا أكرم ذاهب وأعز فقيد

وكان من مغانم السنة الماضية أن تصير اللغة العربية لغة الدرس في كلية الطب وكلية العلوم، وهي دعوة عانيت فيها من الشقاء ما عانيت. فمن قال إنه دعا إلى هذه الفكرة مرة أو مرتين أو مرات فأنا جعلتها حلماً أهتف به في يقظتي ومنامي أكثر من خمس عشرة سنة. وبسب الإلحاح في نشر هذه الدعوة رآني بعض أقطاب الجامعة المصرية من الثقلاء، وأوصدوا في وجهي كثيراً من الأبواب. فإن قال أعضاء المؤتمر الطبي العربي بعد أسبوعين إنهم قرروا تدريس الطب باللغة العربية في كلية الطب بالقاهرة فليذكروا مشكورين أنهم سفَّهوني علانية يوم التقينا في بغداد سنة 1938

وفي العام الماضي قدمت لكلية الحقوق رسائل لامتحان الدكتوراه باللغة العربية، وقال قائل: إن في ذلك مجاراة للنزعة القومية، فمن واجبي نحو نفسي وأنا رجل مظلوم في وطني أن أقول إن ذلك لم يقع إلا طلباً للسلامة من القلم الذي شن الغارة على من يقبلون رسالة باللغة الفرنسية عن الديِّة في الشريعة الإسلامية ولتلك المعركة ذيول فصلتها في كتاب (البدائع) وفي رسالة (اللغة والدين والتقاليد) وفي كتاب (الأسمار والأحاديث) فأن غضب وزراء المعارف اللذين حاربتهم من قبل فليعرفوا أني أديت لهم بذلك التوجيه أعظم الخدمات. وحسبهم من الشرف أن يسمعوا كلمة الحق من رجل ليس له في الحكومة عمٌ ولا خال

وفي العام الماضي قررت وزارة المعارف تأليف كتاب للمطالعة في المدارس الثانوية من صميم الأدب الحديث، وأنا صاحب هذا الرأي وقد شغلت نفسي بالدعوة إليه أكثر من عشر سنين.

وفي العام الماضي قضت الظروف بأن تقبل وزارة المعارف إسناد تعليم اللغات الحية في المدارس الثانوية إلى المصريين، فليتها سمعت الدعوة التي أذعتها منذ أعوام طوال، الدعوة إلى أن يكون مدرسو اللغات الحية من المصريين لنخلق جيلاً من المتفوقين في اللغات الأجنبية، وليكون بيدنا الأمر في تكوين الثقة بالعزيمة الوطنية

وفي العام الماضي. . . ما هذا؟ ما هذا؟

أراني أنحدر إلى هاوية المنْ الممقوت، فلأرجع إلى تدوين ما خسرت في السنة الماضية:

في سنة 1939 نسيت أني موظف بالحكومة المصرية فوقع قلمي في أغلاط لا يقع فيها الموظفون (العقلاء)

أنا من كتّاب الطبقة الأولى بشهادة أعدائي، ولكني لم أخط خطوة واحدة في كسب حق جديد لحرية الأقلام. كنت أستطيع أن أنتفع بالدكتور هيكل باشا، ولكنني لم لأقابله إلا حين دعاني، وقد هجمت عليه في جريدة المصري مرتين، وكنت أستطيع أن أنتفع بمعالي النقراشي باشا، وهو رجل مُشرق العقل، ولكني قصرت فلم أقابله غير مرتين، كنت في الأولى مهنئاً، وهي زيارة لا تتسع لبحث ولا درس، وكنت في الثانية مقروناً بجمهور المفتشين بالتعليم الثانوي، وهو مقام لا يتسع فيه المجال لغير الشؤون الرسمية

أليس من سوء البخت أن يكون لنا وزير مثل النقراشي باشا ولا أظفر منه بشيء لحرية الأقلام؟

كنت أحب أن أطلب إجازة طويلة لعام أو عامين لأحقق مشروعاً عجزت عن تحقيقه في بغداد وهو تأليف كتاب عن أبي تمام إمام المبتكرين في القرن الثالث، فهل شغلت نفسي بتقديم هذه الرغبة إلى معالي النقراشي باشا وهو من وزرائنا الأدباء؟

وكنت أحب أن أقترح إنشاء قلم خاص بمراجعة ما يُكتب عن مصر في الأقطار العربية، فهل شغلت نفسي بتقديم هذا الاقتراح إلى رئيس الوزارة المحمدية أو رئيس الوزارة الماهرية؟

دونت هذه الآراء في كتاب (ليلى المريضة في العراق) ولكن من يضمن أن يكون هذا الكتاب مما يقرأ الوزراء؟

ماذا خسرتُ في العام الماضي؟ ماذا خسرت؟

كان عندي مشروع عظيم هو ربط الأمم الإسلامية برباط وثيق من الحب والعطف

فما الذي صنعت لتحقيق ذلك المشروع العظيم؟

ضيعت العام الماضي - وا أسفاه! - في مجادلات ومشاغبات نفعُها قليل، وانصرفت عن تحقيق ذلك المشروع الجليل

فمن يُسعدني على بكاء ما ضيعت من أمانيَّ وأحلامي؟

وكان في نيتي أن أخلق عُصبة للخير من أصدقاء كلية الآداب، كنت أحب أن أنِّظم سلسلة للدراسات الأدبية والفلسفية أصنع بها في القاهرة بعض ما يصنع أساتذة كلية الآداب في الجيزة، فأين أنا مما أردت؟ وأين ما صنعت لكلية الآداب وفوق ثراها سكبت عُصارة صباي؟

وكان في نيتي أن أكوِّن مكتبة عظيمة مما أصدر المتخرجون في كلية الآداب ثم أسوقها في عربات رزينة إلى قصر صاحب الجلالة الملك فأين ضاعت تلك النية؟ وما مصيرها في تاريخ العقول؟

وكنت أحب أن أقوم بدراسات قوية أحدد بها اتجاه الأدب الحديث في مصر والمغرب العربي والشام والعراق، فأين من يعزيني على ضياع هذا الأمل الغالي؟

وكنت أشتهي أن أزور الحجاز لأكتب عن وطن الرسول كتاباً لا يعرف الزوار ولا الرياء، فأين ضاعت أحلامي؟

وكنت أتمنى أن أؤرق غفوات المغرورين من (أعلام) الأدب الحديث، فإلى أي أفق من آفاق الضياع ضاع أملي في تأديب أولئك (الأعلام)؟

كنت وكنت وكنت، فما الذي صنعت السنة الماضية بأغراضي وأحلامي؟

(للحديث شجون) زكي مبارك