مجلة الرسالة/العدد 341/الأدب الفنلندي

مجلة الرسالة/العدد 341/الأدب الفنلندي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1940



للأستاذ صديق شيبوب

بينما كان الشاعر (لياس لونرو) يعنى بجمع قصائد كاليفالا وضم أجزائها، وإنشاء لحمة بينها لتتألف منها ملحمة وطنية قديمة

قام شاعر آخر بنظم ملحمة وطنية عصرية يتغنى فيها ببطولة الفنلنديين في العصور الحديثة، وكان اسم هذا الشاعر (جوهان لودنيج أونبرج)

ولد أونبرج سنة 1804 وتوفي سنة 1877، ودرس الطب وامتهنه واشتغل بالأدب والشعر. وفي شبابه وجه عنايته إلى درس أخلاق مواطنيه في كثير من العطف، ثم كتب في ذلك رسالة طويلة كما تناول مظاهر هذه الأخلاق في الأقاصيص العديدة التي كتبها بعد ذلك. وهذا ما جعله في طليعة الأدباء الذين عملوا على إنشاء الأدب الفنلندي بالرغم من استعماله اللغة الأسوجية فيما كتب ونظم، لأنه عرف كيف يصف روح مواطنيه وكيف يعبر عنها تعبيراً صادقاً. وقد تجلت هذه الميزة خاصة في كتابه: (أقاصيص حامل الراية) '

كان الشعر أبرز ما في أدب هذا الطبيب، وله قصائد يعدها النقاد الأسوجيون والفنلنديون من خير ما نظم في هذين البلدين، وهم يقرون أن أحسن شعره ما جمعه في كتابه الذي ذكرناه: (أقاصيص حامل الراية)، وهو في جزأين، ظهر الأول منها سنة 1848، والثاني سنة 1860.

تتألف هاتان المجموعتان الشعريتان من أقاصيص رواها على لسان جندي قديم اشترك في الحرب التي اضطرت أسوج في نهايتها إلى التنازل عن فنلندا لروسيا فوصف معاركها وقص أنبائها، وسجل أخبارها. وقد كان من الجرأة بمكان عظيم أن يختار الشاعر موضوعاً لملحمة وطنية حرباً ختمت بالانكسار والخذلان؛ ولكن التاريخ كان قد سبق الشاعر فدّون الأخطاء التي وقعت فيها قيادة الجيش وحملها مسؤولية الاندحار ووصمها بالجبن والخيانة.

فقائد الجيش الأعلى لم يصدر غير أوامر تقضي بالارتداد والتراجع، وسلم قائد آخر حصن (سيفبورج) الحصين من غير قتال. بينما ناضل الجنود المشهورون ببسالتهم وصبرهم على الأهوال نضال المستميت فأنقذوا شرف الجندية ولكنهم لم يستطيعوا أن يفوزوا وينتصروا.

وقد حمل (رونبرج) في شعره على قائد الجيش وفضح خيانته، ومما قال فيه: (ليغفل ذكر أصله وسلالته حتى لا يتحملوا وزر جرمه، ليحمل وحده عاره، لأنه وحده جدير بالازدراء. ليس لمن خان وطنه أصل ولا سلالة، ليس له ولد ولا والد.)

على أن شجاعة الجنود المقاتلين كانت كافية لتوحي للشاعر قصائده الحماسية التي تغنى فيها ببسالة مواطنيه. وقد قص في شعر رائع أخبار المعارك الصغيرة التي ظهرت فيها بطولتهم والتي تمكنوا فيها من التغلب على الجيش المهاجم فردوه مندحراً. وعنى الشاعر خاصة بأعمال البطولة الفردية التي تجلت فيها المزايا التي تتحلى بها روح الشعب الفنلندي

وصف الشعر الجيش وتحدث في أكثر من أقصوصة عن العلاقات الوثيقة التي استحكمت بين صغار القواد والجنود. وقد أجاد كل الإجادة ووصل إلى أبعد الغايات عند تناول وصف الجنود من طبقة الفلاحين. هذا (ستين دوفا) الذي كان يظنه رفاقه معتوهاً، ولكنه استطاع منفرداً أن يدافع أن أحد الجسور وأن يدفع عنه العدو حتى جاءت نجدة تمكنت من رده.

وهذا (مونتر) الجندي الباسل الذي كانت شجاعته تنبعث من أعماق نفسه في كثير من السذاجة والتواضع. وقد مات صريعا في ساحة القتال بانفجار قذيفة رماها أحد جنود الأعداء فتلقاها (مونتر) بيده ليردها إليه. وقد رثاه (رونبرج) في ختام قصته بقوله: (لقد كان فنلندياً)

ويطول بنا الحديث إذا شئنا عرض صور البطولة المختلفة الأشكال والأوضاع التي رسمها الشاعر في هذين الديوانين، وقد كان طبيعياً أن يستهل (رونبرج) الجزء الأول منهما بقصيدة حماسية في تمجيد وطنه والإشادة بذكره، ننقل منها بعض شعرها للدلالة عليها. قال:

بلادنا، بلادنا، وطننا،

دَوِّ عالياً أيها الاسم المحبوب،

لا يوجد في بلاد الشمال رواب ترتفع نحو السماء

ولا أودية تنخفض، ولا شواطئ تغمرها الأمواج،

أحب إلى القلوب من بلادنا

من أرض آبائنا من يستطيع أن يحصي عدد المعارك

التي خاضها غمار هذا الشعب،

عندما كانت الحرب تستعر في واد بعد واد،

عندما كان يحل البرد القاسي حاملاً معه الجوع المضني

من يستطيع أن يحصر الدماء التي أراقها

وأن يصور شدة صبره على احتمال الأهوال

هذه هي (أقاصيص حامل الراية) التي يعتبرها الأسوجيون كأجمل ما كتب بلغتهم. وقد أخذ عليها بعضهم أن ناظمها تحرر في بعض الأحيان من نصوص التاريخ فلم يحترمها، بينما يرى البعض الآخر أن هذا النقد لا يحط من قيمتها لأن (رونبرج) إذا تجاوز ما قرره التاريخ فإنه لم يتعد الحقيقة فكان صادقاً في الصور التي رسمها والوصف الذي أجراه لنفسية الشعب الفنلندي وأخلاقه ومزاياه

(للبحث صلة)

صديق شيبوب